ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم الآية ، قيل : هم جماعة من الصحابة أمروا بترك القتال في قوله : مكة بعد أن تسرعوا إليه . فلما كتب عليهم بالمدينة تثبطوا عن القتال من غير شك في الدين بل خوفا من الموت وفرقا من هول القتل ، وقيل : إنها نزلت في اليهود ، وقيل : في المنافقين أسلموا قبل فرض القتال ، فلما فرض كرهوه ، وهذا أشبه بالسياق لقوله : وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب وقوله : وإن تصبهم حسنة الآية . ويبعد صدور مثل هذا من الصحابة .
كخشية الله صفة مصدر محذوف ; أي : خشية كخشية الله ، أو حال : أي : تخشونهم مشبهين أهل خشية الله ، والمصدر مضاف إلى المفعول ; أي : كخشيتهم الله . قوله :
وقوله : أو أشد خشية معطوف على كخشية الله في محل جر ، أو معطوف على الجار والمجرور جميعا فيكون في محل الحال كالمعطوف عليه ، أو للتنويع على معنى أن خشية بعضهم كخشية الله وخشية بعضهم أشد منها . قوله : وقالوا عطف على ما يدل عليه قوله : إذا فريق منهم أي : فلما كتب عليهم القتال فاجأ فريق منهم خشية الناس وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا أي : هلا أخرتنا ، يريدون المهلة إلى وقت آخر قريب من الوقت الذي فرض عليهم فيه القتال ، فأمره سبحانه بأن يجيب عليهم فقال : قل متاع الدنيا قليل سريع الفناء لا يدوم لصاحبه ، وثواب الآخرة خير لكم من المتاع القليل لمن اتقى منكم ورغب في الثواب الدائم ولا تظلمون فتيلا أي : شيئا حقيرا يسيرا ، وقد تقدم تفسير الفتيل قريبا ، وإذا كنتم توفرون أجوركم ولا تنقصون شيئا منها ، فكيف ترغبون عن ذلك وتشتغلون بمتاع الدنيا مع قلته وانقطاعه .
وقوله : أينما تكونوا يدرككم الموت كلام مبتدأ ، وفيه حث لمن قعد عن القتال خشية الموت ، وبيان لفساد ما خالطه من الجن وخامره من الخشية ، فإن الموت إذا كان كائنا لا محالة ف
من لم يمت بالسيف مات بغيره
والبروج جمع برج : وهو البناء المرتفع ، والمشيدة : المرفعة من شاد القصر : إذا رفعه وطلاه بالشيد وهو الجص ، وجواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه .وقد اختلف في هذه البروج ما هي ؟ فقيل : الحصون التي في الأرض ، وقيل : هي القصور . قال الزجاج والقتيبي : ومعنى مشيدة : مطولة ، وقيل : معناه مطلية بالشيد وهو الجص ، وقيل : المراد بالبروج بروج في سماء الدنيا مبنية ، حكاه عن مكي مالك ، وقال : ألا ترى إلى قوله : والسماء ذات البروج [ البروج : 1 ] ، جعل في السماء بروجا [ الفرقان : 61 ] ، ولقد جعلنا في السماء بروجا [ الحجر : 16 ] وقيل : إن المراد بالبروج المشيدة هنا قصور من حديد .
وقرأ طلحة بن سليمان ( يدرككم الموت ) بالرفع على تقدير الفاء كما في قوله :
وقال رائدهم أرسوا نزاولها
قوله : وإن تصبهم حسنة هذا وما بعده مختص بالمنافقين ; أي : إن تصبهم نعمة نسبوها إلى الله تعالى ، وإن تصبهم بلية ونقمة نسبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فرد الله ذلك عليهم بقوله : قل كل من عند الله ليس كما تزعمون ، ثم نسبهم إلى الجهل وعدم الفهم فقال : فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا أي : ما بالهم هكذا . قوله : ما أصابك من حسنة فمن الله هذا الخطاب إما لكل من يصلح له من الناس ، أو لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تعريضا لأمته : أي : ما أصابك من خصب ورخاء وصحة وسلامة فمن الله بفضله ورحمته ، وما أصابك من جهد وبلاء وشدة فمن نفسك بذنب أتيته فعوقبت عليه ، وقيل : إن هذا من كلام الذين لا يفقهون حديثا ; أي : فيقولون : ما أصابك من حسنة فمن الله ، وقيل : إن ألف الاستفهام مضمرة ; أي : أفمن نفسك ؟ ومثله قوله تعالى : وتلك نعمة تمنها علي [ الشعراء : 22 ] والمعنى : أوتلك نعمة ؟ ومثله قوله : فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي [ الأنعام : 77 ] أي : أهذا ربي ؟ ومنه قول أبي خراش الهذلي :رموني وقالوا يا خويلد لم ترع فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
وقد يظن أن قوله : وما أصابك من سيئة فمن نفسك مناف لقوله : قل كل من عند الله ولقوله : وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله [ آل عمران : 166 ] ، وقوله : ونبلوكم بالشر والخير فتنة [ الأنبياء : 45 ] وقوله : وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال [ الرعد : 11 ] وليس الأمر كذلك . فالجمع ممكن كما هو مقرر في مواطنه .
قوله : وأرسلناك للناس رسولا فيه البيان لعموم رسالته صلى الله عليه وآله وسلم إلى الجميع كما يفيده التأكيد بالمصدر والعموم في الناس ، ومثله قوله : وما أرسلناك إلا كافة للناس [ سبأ : 28 ] ، وقوله : ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا [ الأعراف : 158 ] ( وكفى بالله شهيدا ) [ الفتح : 28 ] على ذلك . قوله : من يطع الرسول فقد أطاع الله فيه أن ، وفي هذا من النداء طاعة الرسول طاعة لله ما لا يقادر قدره ولا يبلغ مداه ، ووجهه أن الرسول لا يأمر إلا بما أمر الله به ، ولا [ ص: 314 ] ينهى إلا عما نهى الله عنه ومن تولى أي : أعرض بشرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلو شانه وارتفاع مرتبته فما أرسلناك عليهم حفيظا أي حافظا لأعمالهم ، إنما عليك البلاغ .
وقد نسخ هذا بآية السيف ، ويقولون طاعة بالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف ; أي : أمرنا طاعة ، أو شأننا طاعة . وقرأ الحسن والجحدري ونصر بن عاصم بالنصب على المصدر ; أي : نطيع طاعة وهذه في المنافقين في قول أكثر المفسرين ; أي : يقولون إذا كانوا عندك طاعة فإذا برزوا من عندك أي : خرجوا من عندك بيت طائفة منهم أي : زورت طائفة من هؤلاء القائلين غير الذي تقول لهم أنت وتأمرهم به ، أو غير الذي تقول لك هي من الطاعة لك ، وقيل : معناه : غيروا وبدلوا وحرفوا قولك فيما عهدت إليهم ، والتبييت : التبديل ، ومنه قول الشاعر :
أتوني فلم أرض ما بيتوا وكانوا أتوني بأمر نكر
وقد أخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن : أن ابن عباس وأصحابا له أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا : عبد الرحمن بن عوف المدينة أمره بالقتال فكفوا ، فأنزل الله ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم الآية . وأخرج يا نبي الله كنا في عزة ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة ؟ فقال : إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم ، فلما حوله الله إلى عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في تفسير الآية نحوه .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم مجاهد : أنها نزلت في اليهود . وأخرج ابن جرير من طريق وابن أبي حاتم عن العوفي في قوله : ابن عباس فلما كتب عليهم القتال إذا فريق الآية ، قال : نهى الله هذه الأمة أن يصنعوا صنيعهم .
وأخرج ابن جرير عن وابن أبي حاتم في قوله : إلى أجل قريب قال : هو الموت . وأخرجا نحوه عن السدي . وأخرج ابن جريج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في بروج مشيدة قال : في قصور محصنة . وأخرج ابن المنذر عن وابن أبي حاتم عكرمة نحوه .
وأخرج ابن جرير عن وابن أبي حاتم أبي العالية قال : هي قصور في السماء . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن سفيان نحوه . وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن قتادة في قوله : وإن تصبهم حسنة يقول : نعمة وإن تصبهم سيئة قال : مصيبة قل كل من عند الله قال : النعم والمصائب . وأخرج ابن جرير عن وابن أبي حاتم أبي العالية في قوله : وإن تصبهم حسنة قال : هذه في السراء والضراء ، وفي قوله : ما أصابك من حسنة قال : هذه في الحسنات والسيئات .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم في قوله : قل كل من عند الله يقول : الحسنة والسيئة من عند الله ، أما الحسنة فأنعم بها عليك ، وأما السيئة فابتلاك بها ، وفي قوله : ابن عباس وما أصابك من سيئة قال : ما أصابه يوم أحد أن شج وجهه وكسرت رباعيته . وأخرج من طريق ابن أبي حاتم عنه في قوله : العوفي وما أصابك من سيئة فمن نفسك قال : هذا يوم أحد يقول : ما كانت من نكبة فبذنبك وأنا قدرت ذلك . وأخرج ابن المنذر من طريق مجاهد أن كان يقرأ ( وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك ) قال ابن عباس مجاهد : وكذلك قراءة أبي . وأخرج نحو قول وابن مسعود مجاهد هذا في المصاحف . وأخرج ابن الأنباري ابن جرير من طريق وابن أبي حاتم عن العوفي في قوله : ابن عباس ويقولون طاعة قال : هم أناس كانوا يقولون عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آمنا بالله ورسوله ليأمنوا على دمائهم وأموالهم ، فإذا برزوا من عند رسول الله بيت طائفة منهم يقول : خالفوا إلى غير ما قالوا عنده فعابهم الله . وأخرج عنه قال : غير أولئك ما قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم . ابن جرير