قوله : لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا هذا يعم كل من حصل منه ذلك من المشركين وأهل الكتاب وأهل البدع المنتمين إلى الإسلام ، والبيان بقوله : النهي عن موالاة المتخذين للدين هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب إلى آخره لا ينافي دخول غيرهم تحت النهي إذا وجدت فيه العلة المذكورة التي هي الباعثة على النهي .
قوله : ( والكفار ) قرأ أبو عمرو والكسائي بالجر على تقدير ( من ) أي : ومن الكفار . قال الكسائي : وفي حرف أبي ( ومن الكفار ) وقرأ من عداهما بالنصب ، قال النحاس : وهو أوضح وأبين ، وقال مكي : لولا اتفاق الجماعة على النصب لاخترت الخفض لقوته في الإعراب وفي المعنى ، والمراد بالكفار هنا المشركون ، وقيل : المنافقون ( واتقوا الله ) بترك ما نهاكم عنه من هذا وغيره ( إن كنتم مؤمنين ) فإن الإيمان يقتضي ذلك .
والنداء الدعاء برفع الصوت وناداه مناداة ونداء : صاح به ، ( وتنادوا ) أي : نادى بعضهم بعضا ، وتنادوا ؛ أي : جلسوا في النادي ، والضمير في ( اتخذوها ) للصلاة ؛ أي : اتخذوا صلاتكم هزؤا ولعبا ، وقيل الضمير للمناداة المدلول عليها بناديتم ، قيل : وليس في كتاب الله تعالى ذكر الأذان إلا في هذا الموضع ، وأما قوله تعالى في الجمعة : ( إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة ) فهو خاص بنداء الجمعة ، وقد اختلف أهل العلم في كون الأذان واجبا أو غير واجب ، وفي ألفاظه وهو مبسوط في مواطنه .
قوله : ذلك بأنهم قوم لا يعقلون أي : ذلك بسبب أنهم قوم لا يعقلون ؛ لأن الهزؤ واللعب شأن أهل السفه والخفة والطيش .
قوله : قل ياأهل الكتاب هل تنقمون منا يقال : نقمت على الرجل بالكسر فأنا ناقم ؛ إذا عبت عليه .
قال : نقمت بالكسر لغة ، ونقمت الأمر أيضا ونقمت : إذا كرهته ، وانتقم الله منه ؛ أي : عاقبه ، والاسم منه النقمة ، والجمع نقمات ، مثل كلمة وكلمات ، وإن شئت سكنت القاف ونقلت حركتها إلى النون ، والجمع نقم مثل نعمة ونعم ، وقيل : المعنى يسخطون ، وقيل : ينكرون ، قال الكسائي عبد الله بن قيس الرقيات :
ما نقموا من بني أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا
وقال الله سبحانه : ( وما نقموا منهم ) والمعنى في الآية : هل تعيبون أو تسخطون أو تنكرون أو تكرهون منا إلا إيماننا بالله وبكتبه المنزلة ، وقد علمتم بأنا على الحق ( وأن أكثركم فاسقون ) بترككم للإيمان والخروج عن امتثال أوامر الله .
وقوله : ( وأن أكثركم فاسقون ) معطوف على ( أن آمنا ) أي : ما تنقمون منا إلا الجمع بين إيماننا وبين تمردكم وخروجكم عن الإيمان ، وفيه أن المؤمنين لم يجمعوا بين الأمرين المذكورين ، فإن الإيمان من جهتهم والتمرد والخروج من جهة الناقمين ، وقيل هو على تقدير محذوف ؛ أي : واعتقادنا أن أكثركم فاسقون ، وقيل : إن قوله : ( أن آمنا ) هو منصوب على أنه مفعول له والمفعول محذوف ، فيكون ( وأن أكثركم فاسقون ) معطوفا عليه عطف العلة على العلة ، والتقدير : وما تنقمون منا إلا لأن آمنا ، ولأن أكثركم فاسقون ، وقيل : معطوف على علة محذوفة ، أي ؛ لقلة إنصافكم ، ولأن أكثركم فاسقون ، وقيل : الواو في قوله : ( وأن أكثركم فاسقون ) هي التي بمعنى مع ؛ أي : ما تنقمون منا إلا الإيمان مع أن أكثركم فاسقون ، وقيل هو منصوب بفعل محذوف يدل عليه هل تنقمون ؛ أي : ولا [ ص: 381 ] تنقمون أن أكثركم فاسقون ، وقيل : هو مرفوع على الابتداء والخبر محذوف ؛ أي : وفسقكم معلوم فتكون الجملة حالية ، وقرئ بكسر ( إن ) من قوله : ( وإن أكثركم فاسقون ) فتكون جملة مستأنفة .
قوله : قل هل أنبئكم بشر من ذلك بين الله سبحانه لرسوله أن فيهم من العيب ما هو أولى بالعيب ، وهو ما هم عليه من الكفر الموجب للعن الله وغضبه ومسخه ، والمعنى : هل أنبئكم بشر من نقمكم علينا أو بشر مما تريدون لنا من المكروه أو بشر من أهل الكتاب أو بشر من دينهم ، وقوله : ( مثوبة ) أي : جزاء ثابتا ، وهي مختصة بالخير كما أن العقوبة مختصة بالشر .
ووضعت هنا موضع العقوبة على طريقة ( فبشرهم بعذاب أليم ) وهي منصوبة على التمييز من ( بشر ) وقوله : ( من لعنه الله ) خبر لمبتدأ محذوف مع تقدير مضاف محذوف ؛ أي : هو لعن من لعنه الله أو هو دين من لعنه الله ، ويجوز أن يكون في محل جر بدلا من شر .
قوله : وجعل منهم القردة والخنازير أي : مسخ بعضهم قردة وبعضهم خنازير وهم اليهود ، فإن الله مسخ أصحاب السبت قردة ، وكفار مائدة عيسى منهم خنازير .
قوله : ( وعبد الطاغوت ) قرأ حمزة بضم الباء من ( عبد ) وكسر التاء من ( الطاغوت ) أي : جعل منهم عبد الطاغوت بإضافة عبد إلى الطاغوت .
والمعنى : وجعل منهم من يبالغ في عبادة الطاغوت ؛ لأن فعل من صيغ المبالغة كحذر وفطن ؛ للتبليغ في الحذر والفطنة ، وقرأ الباقون بفتح الباء من ( عبد ) وفتح التاء من ( الطاغوت ) على أنه فعل ماض معطوف على فعل ماض وهو غضب ولعن ، كأنه قيل : ومن عبد الطاغوت ، أو معطوف على القردة والخنازير ؛ أي : جعل منهم القردة والخنازير وجعل منهم عبد الطاغوت حملا على لفظ ( من ) وقرأ أبي وابن مسعود ( وعبدوا الطاغوت ) حملا على معناها ، وقرأ ( وعبد ) بضم العين والباء كأنه جمع عبد ، كما يقال : سقف وسقف ، ويجوز أن يكون جمع عبيد كرغيف ورغف ، أو جمع عابد كبازل وبزل . وقرأ أبو واقد ( وعباد ) جمع عابد للمبالغة ، كعامل وعمال . ابن عباس
وقرأ البصريون ( وعباد ) جمع عابد أيضا ، كقائم وقيام ، ويجوز أن يكون جمع عبد ، وقرأ أبو جعفر الرقاشي ( وعبد الطاغوت ) على البناء للمفعول ، والتقدير وعبد الطاغوت فيهم ، وقرأ عون العقيلي وابن بريدة ( وعابد الطاغوت ) على التوحيد ، وروي عن وأبي أنهما قرآ ( وعبدة الطاغوت ) وقرأ ابن مسعود ( وأعبد الطاغوت ) مثل كلب وأكلب . عبيد بن عمير
وقرئ ( وعبد الطاغوت ) عطفا على الموصول بناء على تقدير مضاف محذوف ، وهي قراءة ضعيفة جدا . والطاغوت : الشيطان أو الكهنة أو غيرهما مما قد تقدم مستوفى .
قوله : ( أولئك شر مكانا ) الإشارة إلى الموصوفين بالصفات المتقدمة ، وجعلت الشرارة للمكان ، وهي لأهله للمبالغة ، ويجوز أن يكون الإسناد مجازيا .
قوله : ( وأضل عن سواء السبيل ) معطوف على شر ، أي : هم أضل من غيرهم عن الطريق المستقيم ، والتفضيل في الموضعين للزيادة مطلقا أو لكونهم أشر وأضل مما يشاركهم في أصل الشرارة والضلال .
قوله : وإذا جاءوكم قالوا آمنا أي : إذا جاءوكم أظهروا الإسلام .
قوله : وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به جملتان حاليتان ؛ أي : جاءوكم حال كونهم قد دخلوا عندك متلبسين بالكفر وخرجوا من عندك متلبسين به لم يؤثر فيهم ما سمعوا منك ، بل خرجوا كما دخلوا والله أعلم بما كانوا يكتمون عندك من الكفر ، وفيه وعيد شديد ، وهؤلاء هم المنافقون ، وقيل هم اليهود الذين قالوا : آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره [ آل عمران : 72 ] .
قوله : وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو لكل من يصلح له ، والضمير في ( منهم ) عائد إلى المنافقين أو اليهود أو إلى الطائفتين جميعا ( يسارعون في الإثم ) في محل نصب على الحال على أن الرواية بصرية أو هو مفعول ثان لترى على أنها قلبية ، والمسارعة : المبادرة ، والإثم : الكذب أو الشرك أو الحرام ، والعدوان : الظلم المتعدي إلى الغير أو مجاوزة الحد في الذنوب .
والسحت : الحرام ، فعلى قول من فسر الإثم بالحرام يكون تكريره للمبالغة ، والربانيون علماء النصارى ، والأحبار : علماء اليهود ، وقيل : الكل من اليهود لأن هذه الآيات فيهم ، ثم وبخ علماءهم في تركهم لنهيهم فقال : لبئس ما كانوا يصنعون وهذا فيه زيادة على قوله : ( لبئس ما كانوا يعملون ) ؛ لأن العمل لا يبلغ درجة الصنع حتى يتدرب فيه صاحبه ، ولهذا تقول العرب : سيف صنيع إذا جود عامله عمله ، فالصنع هو العمل الجيد لا مطلق العمل ، فوبخ سبحانه الخاصة ، وهم بما هو أغلظ وأشد من توبيخ فاعل المعاصي ، فليفتح العلماء لهذه الآية مسامعهم ويفرجوا لها عن قلوبهم ، فإنها قد جاءت بما فيه البيان الشافي لهم بأن كفهم عن المعاصي مع ترك إنكارهم على أهلها لا يسمن ولا يغني من جوع ، بل هم أشد حالا وأعظم وبالا من العصاة ، فرحم الله عالما قام بما أوجبه الله عليه من فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو أعظم ما افترضه الله عليه وأوجب ما أوجب عليه النهوض به ، اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر الذين لا يخافون فيك لومة لائم ، وأعنا على ذلك وقونا عليه ويسره لنا وانصرنا على من تعدى حدودك وظلم عبادك إنه لا ناصر لنا سواك ، ولا مستعان غيرك ، يا مالك يوم الدين ، إياك نعبد وإياك نستعين . العلماء التاركون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن قال : كان ابن عباس رفاعة بن زيد بن التابوت وسيد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ونافقا ، وكان رجال من المسلمين يوادونهما ، فأنزل الله : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا إلى قوله : والله أعلم بما كانوا يكتمون وأخرج [ ص: 382 ] البيهقي في الدلائل من طريق الكلبي ، عن أبي صالح ، عن في قوله : ابن عباس وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا قال : كان منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا نادى بالصلاة فقام المسلمون إلى الصلاة ، قالت اليهود والنصارى : قد قاموا لا قاموا ، فإذا رأوهم ركعوا وسجدوا استهزءوا بهم وضحكوا منهم . قال : وكان رجل من اليهود تاجرا إذا سمع المنادي ينادي بالأذان قال : أحرق الله الكاذب ، قال : فبينما هو كذلك إذ دخلت جاريته بشعلة من نار فطارت شرارة منها في البيت فأحرقته . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن السدي قال : كان رجل من النصارى فذكر نحو قصة الرجل اليهودي .
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن قال : ابن عباس أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفر من اليهود ، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فقال : أؤمن بالله وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم ، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ، فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته ، وقالوا : لا نؤمن بعيسى ولا نؤمن بمن آمن به ، فأنزل الله فيهم قل ياأهل الكتاب هل تنقمون منا إلى قوله : ( فاسقون ) .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن مجاهد في قوله : وجعل منهم القردة والخنازير قال : مسخت من يهود . وأخرج أبو الشيخ ، عن أبي مالك أنه قيل له : كانت القردة والخنازير قبل أن يمسخوا ؟ قال : نعم ، وكانوا مما خلق من الأمم . وأخرج مسلم وابن مردويه ، عن ابن مسعود قال : . سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن القردة والخنازير هما مما مسخ الله ، فقال : إن الله لم يهلك قوما ، أو قال : لم يمسخ قوما فيجعل لهم نسلا ولا عاقبة ، وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم قتادة في قوله : وإذا جاءوكم قالوا آمنا الآية ، قال : أناس من اليهود : كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيخبرونه أنهم مؤمنون راضون بالذي جاء به ، وهم متمسكون بضلالتهم وبالكفر ، فكانوا يدخلون بذلك ويخرجون به من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . وأخرج ، عن السدي في الآية قال : هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يهودا ، يقول : دخلوا كفارا وخرجوا كفارا . وأخرج ابن جرير ابن جرير ، عن وابن أبي حاتم أبي زيد في قوله : وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان قال : هؤلاء اليهود ( لبئس ما كانوا يعملون ) إلى قوله : ( لبئس ما كانوا يصنعون ) قال : يصنعون ويعملون واحد ، قال لهؤلاء حين لم ينتهوا كما قال لهؤلاء حين عملوا . وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن في قوله : ابن عباس لولا ينهاهم الربانيون والأحبار قال : فهلا ينهاهم الربانيون والأحبار ، وهم الفقهاء والعلماء .
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ ، عن قال : ما في القرآن آية أشد توبيخا من هذه الآية ابن عباس لولا ينهاهم الربانيون والأحبار وأخرجه في الزهد ابن المبارك وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن نحوه ، وقد وردت أحاديث كثيرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا حاجة لنا في بسطها هنا . الضحاك بن مزاحم