قد تقدم تفسير اللغو ، والخلاف فيه ، في سورة البقرة ، و في أيمانكم صلة يؤاخذكم ، قيل : و " في " بمعنى من والأيمان جمع يمين . وفي الآية دليل على أن أيمان اللغو لا يؤاخذ الله الحالف بها ولا تجب بها الكفارة . وقد ذهب الجمهور من الصحابة ومن بعدهم إلى أنها قول الرجل : لا والله وبلى والله في كلامه غير معتقد لليمين ، وبه فسر الصحابة الآية وهم أعرف بمعاني القرآن . قال الشافعي : وذلك عند اللجاج والغضب والعجلة .
قوله : ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان قرئ بتشديد عقدتم وبتخفيفه ، وقرئ ( عاقدتم ) . والعقد على ضربين : حسي كعقد الحبل ، وحكمي كعقد البيع ، واليمين والعهد . قال الشاعر :
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا
فاليمين المعقدة من عقد القلب ليفعلن أو لا يفعلن في المستقبل ; أي : ولكن يؤاخذكم بأيمانكم المعقدة الموثقة بالقصد والنية إذا حنثتم فيها . وأما اليمين الغموس : فهي يمين مكر وخديعة وكذب قد باء الحالف بإثمها ، وليست بمعقودة ولا كفارة فيها كما ذهب إليه الجمهور ، وقال الشافعي : هي يمين معقودة لأنها مكتسبة بالقلب معقودة بخبر مقرونة باسم الله ، والراجح الأول وجميع الأحاديث الواردة في تكفير اليمين متوجهة إلى المعقودة ولا يدل شيء منها على الغموس ، بل ما ورد في الغموس إلا الوعيد والترهيب ، وإنها من الكبائر ، بل من أكبر الكبائر ، وفيها نزل قوله تعالى : إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا [ آل عمران : 77 ] الآية .قوله : فكفارته الكفارة : هي مأخوذة من التكفير وهو التستير ، وكذلك الكفر هو الستر ، والكافر هو الساتر; لأنها تستر الذنب وتغطيه ، والضمير في كفارته راجع إلى " ما " في قوله : بما عقدتم .
إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم المراد بالوسط هنا المتوسط بين طرفي الإسراف والتقتير ، وليس المراد به الأعلى كما في غير هذا الموضع; أي : أطعموهم من المتوسط مما تعتادون إطعام أهليكم منه ، ولا يجب عليكم أن تطعموهم من أعلاه ، ولا يجوز لكم أن تطعموهم من أدناه ، وظاهره أنه يجزئ إطعام عشرة حتى يشبعوا . وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه قال : لا يجزئ إطعام العشرة غداء دون عشاء حتى يغديهم ويعشيهم . قال أبو عمر : هو قول أئمة الفتوى بالأمصار . وقال الحسن البصري وابن سيرين : يكفيه أن يطعم عشرة مساكين أكلة واحدة خبزا وسمنا أو خبزا ولحما . وقال عمر بن الخطاب وعائشة ومجاهد والشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وميمون بن مهران وأبو مالك والضحاك والحكم ومكحول وأبو قلابة ومقاتل : يدفع إلى كل واحد من العشرة نصف صاع من بر أو تمر . وروي ذلك عن علي . وقال أبو حنيفة نصف صاع بر وصاع مما عداه . وقد أخرج ابن ماجه وابن مردويه عن ابن عباس قال : كفر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصاع من تمر وكفر الناس به ، ومن لم يجد فنصف صاع من بر ، وفي إسناده عمر بن عبد الله بن يعلى الثقفي وهو مجمع على ضعفه . وقال الدارقطني : متروك .
قوله : أو كسوتهم عطف على إطعام . قرئ بضم الكاف وكسرها وهما لغتان مثل أسوة وإسوة . وقرأ سعيد بن جبير ومحمد بن السميفع اليماني أو كأسوتهم : يعني كأسوة أهليكم والكسوة في الرجال تصدق على ما يكسو البدن ولو كان ثوبا واحدا ، وهكذا في كسوة النساء ، وقيل : الكسوة للنساء درع وخمار ، وقيل : المراد بالكسوة ما تجزئ به الصلاة . قوله : أو تحرير رقبة أي : إعتاق مملوك ، والتحرير : الإخراج من الرق ، ويستعمل التحرير في فك الأسير وإعفاء المجهود بعمل عن عمله وترك إنزال الضرر به ، ومنه قول الفرزدق :
أبني غدانة إنني حررتكم فوهبتكم لعطية بن جعال
ولأهل العلم أبحاث في الرقبة التي تجزئ في الكفارة ، وظاهر هذه الآية أنها تجزئ كل رقبة على أي صفة كانت . وذهب جماعة منهم الشافعي إلى اشتراط الإيمان فيها قياسا على كفارة القتل فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام أي فمن لم يجد شيئا من الأمور المذكورة فكفارته صيام ثلاثة أيام ، وقرئ متتابعات حكي ذلك عن ابن مسعود وأبي ، فتكون هذه القراءة مقيدة لمطلق الصوم . وبه قال أبو حنيفة والثوري وهو أحد قولي الشافعي . وقال مالك والشافعي في قوله الآخر : يجزئ التفريق ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم أي ذلك المذكور كفارة أيمانكم إذا حلفتم وحنثتم ، ثم أمرهم بحفظ الأيمان وعدم المسارعة إليها أو إلى الحنث بها ، والإشارة بقوله : " كذلك " إلى مصدر الفعل المذكور بعده ، أي : مثل ذلك البيان يبين الله لكم وقد تكرر هذا في مواضع من الكتاب العزيز لعلكم تشكرون ما أنعم به عليكم من بيان شرائعه وإيضاح أحكامه .
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : لما نزلت : ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم في القوم الذين كانوا حرموا على أنفسهم النساء واللحم قالوا : يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها ؟ فأنزل الله : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم . وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير في اللغو قال : هو الرجل يحلف على الحلال .
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال : هما الرجلان يتبايعان ، يقول أحدهما : والله لا أبيعك بكذا ، ويقول الآخر : والله لا أشتريه بكذا . وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن النخعي قال : اللغو أن يصل كلامه بالحلف : والله لتأكلن ، والله لتشربن ، ونحو هذا لا يريد به يمينا ولا يتعمد حلفا ، فهو لغو اليمين ليس عليه كفارة ، وقد تقدم الكلام في [ ص: 392 ] البقرة .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان قال : بما تعبدتم . وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة نحوه .
وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقيم كفارة اليمين مدا من حنطة ، وفي إسناده النضر بن زرارة بن عبد الكريم الذهلي الكوفي . قال أبو حاتم : مجهول ، وذكره ابن حبان في الثقات . وقد تقدم حديث ابن عباس وتضعيفه . وأخرج ابن مردويه عن أسماء بنت أبي بكر قالت : كنا نعطي في كفارة اليمين بالمد الذي نقتات به .
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عمر بن الخطاب قال : إني أحلف لا أعطي أقواما ، ثم يبدو لي فأعطيهم ، فأطعم عشرة مساكين كل مسكين صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو نصف صاع من قمح . وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن علي بن أبي طالب قال : في كفارة اليمين إطعام عشرة مساكين لكل مسكين نصف صاع من حنطة . وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس مثله . وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ من طرق قال : في كفارة اليمين مد من حنطة لكل مسكين . وأخرج هؤلاء إلا ابن أبي حاتم عن زيد بن ثابت مثله . وأخرج هؤلاء أيضا عن ابن عمر مثله . وأخرج ابن المنذر عن أبي هريرة مثله . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب قال : تغديهم وتعشيهم إن شئت خبزا ولحما أو خبزا وزيتا أو خبزا وسمنا أو خبزا وتمرا .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : من أوسط ما تطعمون أهليكم قال : من عسركم ويسركم . وأخرج ابن ماجه عنه قال : الرجل يقوت أهله قوتا فيه سعة وكان الرجل يقوت أهله قوتا فيه شدة ، فنزلت : من أوسط ما تطعمون أهليكم . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عنه نحو ذلك . وأخرج الطبراني وابن مردويه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله : أو كسوتهم قال : عباءة لكل مسكين ، قال ابن كثير : حديث غريب . وأخرج ابن مردويه عن حذيفة قال : قلت يا رسول الله أو كسوتهم ما هو ؟ قال : عباءة عباءة . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : عباءة لكل مسكين أو شملة . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر قال : الكسوة ثوب أو إزار . وأخرج ابن جرير والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : في كفارة اليمين هو بالخيار في هؤلاء الثلاثة الأول فالأول فإن لم يجد من ذلك شيئا فصيام ثلاثة أيام متتابعات . وأخرج ابن مردويه عنه نحوه .


