لما فرغ سبحانه من ذكر المؤمنين والكافرين والمنافقين أقبل عليهم بالخطاب التفاتا للنكتة السابقة في الفاتحة .
ويا حرف نداء .
والمنادى أي وهو اسم مفرد مبني على الضم ، وها حرف تنبيه مقحم بين المنادى وصفته .
قال سيبويه : كأنك كررت يا مرتين ، وصار الاسم بينهما كما قالوا : ها هو ذا .
وقد تقدم الكلام في تفسير الناس والعبادة .
وإنما خص نعمة الخلق وامتن بها عليهم ، لأن جميع النعم مترتبة [ ص: 36 ] عليها .
وهي أصلها الذي لا يوجد شيء منها بدونها ، وأيضا فالكفار مقرون بأن الله هو الخالق ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله [ الزخرف : 87 ] فامتن عليهم بما يعترفون به ولا ينكرونه .
وفي أصل معنى الخلق وجهان : أحدهما التقدير .
يقال : خلقت الأديم للسقاء : إذا قدرته قبل القطع .
قال زهير :
ولأنت تفري ما خلقت وبع ض القوم يخلق ثم لا يفري
الثاني : الإنشاء والاختراع والإبداع .ولعل أصلها الترجي والطمع والتوقع والإشفاق ، وذلك مستحيل على الله سبحانه ، ولكنه لما كانت المخاطبة منه سبحانه للبشر كان بمنزلة قوله لهم : افعلوا ذلك على الرجاء منكم والطمع وبهذا قال جماعة من أئمة العربية منهم سيبويه .
وقيل : إن العرب استعملت لعل مجردة من الشك بمعنى لام كي .
والمعنى هنا : لتتقوا : وكذلك ما وقع هذا الموقع ، ومنه قول الشاعر :
وقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم كشبه سراب في الملا متألق
وقيل : إنها بمعنى التعرض للشيء كأنه قال : متعرضين للتقوى .
وجعل هنا بمعنى صير لتعديه إلى المفعولين ، ومنه قول الشاعر :
وقد جعلت أرى الإثنين أربعة والأربع اثنين لما هدني الكبر
لما قدم نعمة خلقهم أتبعه بنعمة خلق الأرض فراشا لهم ، لما كانت الأرض التي هي مسكنهم ومحل استقرارهم من أعظم ما تدعو إليه حاجتهم ، ثم أتبع ذلك بنعمة جعل السماء كالقبة المضروبة عليهم ، والسقف للبيت الذي يسكنونه كما قال : وجعلنا السماء سقفا محفوظا [ الأنبياء : 32 ] .
وأصل البناء : وضع لبنة على أخرى .
ثم امتن عليهم بإنزال الماء من السماء .
وأصل ماء موه ، قلبت الواو لتحركها وانفتاح ما قبلها ألفا فصار : ماه ، فاجتمع حرفان خفيفان فقلبت الهاء همزة .
والثمرات جمع ثمرة .
والمعنى : أخرجنا لكم ألوانا من الثمرات وأنواعا من النبات ليكون ذلك متاعا لكم إلى حين .
والأنداد جمع ند ، وهو المثل والنظير .
وقوله : وأنتم تعلمون جملة حالية ، والخطاب للكفار والمنافقين .
فإن قيل : كيف وصفهم بالعلم وقد نعتهم بخلاف ذلك حيث قال : ولكن لا يعلمون [ البقرة : 13 ] ولكن لا يشعرون [ البقرة : 12 ] وما كانوا مهتدين [ البقرة : 16 ] صم بكم عمي [ البقرة : 18 ] .
فيقال إن المراد أن جهلهم وعدم شعورهم لا يتناول هذا : أي كونهم يعلمون أنه المنعم دون غيره من الأنداد ، فإنهم كانوا يعلمون هذا ولا ينكرونه كما حكاه الله عنهم في غير آية .
وقد يقال : المراد وأنتم تعلمون وحدانيته بالقوة والإمكان لو تدبرتم ونظرتم .
وفيه دليل على وجوب استعمال الحجج وترك التقليد .
قال ابن فورك : المراد وتجعلون لله أندادا بعد علمكم الذي هو نفي الجهل بأن الله واحد انتهى .
وحذف مفعول تعلمون للدلالة على عدم اختصاص ما هم عليه من العلم بنوع واحد من الأنواع الموجبة للتوحيد .
وقد أخرج البزار والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود قال : ما كان يا أيها الذين آمنوا فهو أنزل بالمدينة ، وما كان يا أيها الناس فهو أنزل بمكة .
وروي نحو ذلك عن ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه .
وروى نحوه أبو عبيد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر من قول علقمة .
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن مردويه وابن المنذر عن الضحاك مثله .
وكذا أخرج أبو عبيد عن ميمون بن مهران .
وأخرج نحوه أيضا ابن أبي شيبة وابن مردويه عن عروة وعكرمة .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : يا أيها الناس قال : هي للفريقين جميعا من الكفار والمؤمنين .
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله : لعلكم يعني كي .
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عون بن عبد الله بن عتبة قال : لعل من الله واجب .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله : الذي جعل لكم الأرض فراشا [ البقرة : 22 ] أي تمشون عليها وهي المهاد والقرار والسماء بناء [ البقرة : 22 ] قال كهيئة القبة وهي سقف الأرض .
وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن الحسن أنه سئل : المطر من السماء أم من السحاب ؟ قال : من السماء .
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن كعب قال : السحاب غربال المطر ، ولولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض والبذر .
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن خالد بن معدان قال : المطر ماء يخرج من تحت العرش فينزل من سماء إلى سماء حتى يجتمع في سماء الدنيا ، فيجتمع في موضع يقال له الأبزم ، فتجيء السحاب السود فتدخله فتشربه مثل شرب الإسفنجة فيسوقها الله حيث يشاء .
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة قال : ينزل الماء من السماء السابعة ، فتقع القطرة منه على الحساب مثل البعير .
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن خالد بن يزيد قال : المطر منه من السماء ، ومنه ما يستقيه الغيم من البحر فيعذبه الرعد والبرق ، وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب المطر عن ابن عباس قال : إذا جاء القطر من السماء تفتحت له الأصداف فكان لؤلؤا .
وأخرج الشافعي في الأم وابن أبي الدنيا في كتاب المطر وأبو الشيخ في العظمة عن المطلب بن حنطب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ما من ساعة من ليل ولا نهار إلا والسماء تمطر فيها يصرفه الله حيث يشاء .
وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : ما نزل مطر من السماء إلا ومعه البذر ، أما لو أنكم بسطتم نطعا لرأيتموه .
وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : المطر مزاجة من الجنة ، فإذا كثر المزاج عظمت البركة وإن قل المطر ، وإذا قل المزاج قلت البركة وإن كثر المطر .
وأخرج أبو الشيخ عن [ ص: 37 ] الحسن قال : ما من عام بأمطر من عام ولكن الله يصرفه حيث يشاء ، وينزل مع المطر كذا وكذا من الملائكة يكتبون حيث يقع ذلك المطر ومن يرزقه ومن يخرج منه مع كل قطرة .
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : فلا تجعلوا لله أندادا أي لا تشركوا به غيره من الأنداد التي لا تضر ولا تنفع وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أندادا قال : أشباها .
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود أندادا قال : أكفاء من الرجال يطيعونهم في معصية الله .
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أندادا قال : شركاء .
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في الأدب المفرد والنسائي وابن ماجه وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال : قال رجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : ما شاء الله وشئت ، قال : جعلتني لله ندا ما شاء الله وحده .
وأخرج ابن سعد عن قتيلة بنت صيفي قالت : جاء حبر من الأحبار إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا محمد نعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون ، قال : وكيف ؟ قال : يقول أحدكم لا والكعبة ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : من حلف فليحلف برب الكعبة .
فقال : يا محمد نعم القوم أنتم لولا أنكم تجعلون لله ندا ، قال : وكيف ذلك ؟ قال : يقول أحدكم ما شاء الله وشئت ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : فمن قال منكم ما شاء الله قال : ثم شئت وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والبيهقي عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ، قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان وأخرج أحمد وابن ماجه والبيهقي وابن مردويه عن طفيل بن سخبرة أنه رأى فيما يرى النائم كأنه مر برهط من اليهود فقال : أنتم نعم القوم لولا أنكم تزعمون أن عزيرا ابن الله ، فقالوا : وأنتم نعم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد .
ثم مر برهط من النصارى فقال : أنتم نعم القوم لولا أنكم تقولون : المسيح ابن الله ، قالوا : وأنتم نعم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد .
فلما أصبح أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فخطب فقال : إن طفيلا رأى رؤيا وإنكم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم فلا تقولوها ، ولكن قولوا : ما شاء الله وحده لا شريك له وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفا سوداء في ظلمة الليل ، وهو أن تقول : والله وحياتك يا فلان وحياتي ، وتقول : لولا كلبه هذا لأتانا اللصوص ، ولولا القط في الدار لأتى اللصوص ، وقول الرجل : ما شاء الله وشئت ، وقول الرجل : لولا الله وفلان ، هذا كله شرك .
وأخرج البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال : قلت : يا رسول الله أي الذنب أعظم ؟ قال : أن تجعل لله ندا وهو خلقك الحديث .


