قوله : خذ العفو لما عدد الله ما عدده من أحوال المشركين وتسفيه رأيهم وضلال سعيهم : أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن يأخذ العفو من أخلاقهم ، يقال : أخذت حقي عفوا أي : [ ص: 521 ] سهلا ، وهذا نوع من التيسير الذي كان يأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما ثبت في الصحيح أنه كان يقول : يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا . والمراد بالعفو هنا ضد الجهد ، وقيل : المراد : خذ العفو من صدقاتهم ولا تشدد عليهم فيها وتأخذ ما يشق عليهم ، وكان هذا قبل نزول فريضة الزكاة وأمر بالعرف أي بالمعروف .
وقرأ عيسى بن عمر " بالعرف " بضمتين ، وهما لغتان ، والعرف والمعروف والعارفة : كل خصلة حسنة ترتضيها العقول وتطمئن إليها النفوس ، ومنه قول الشاعر :
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس
وأعرض عن الجاهلين أي إذا أقمت الحجة في أمرهم بالمعروف فلم يفعلوا ، فأعرض عنهم ولا تمارهم ولا تسافههم مكافأة لما يصدر منهم من المراء والسفاهة ، قيل : وهذه الآية هي من جملة ما نسخ بآية السيف ، قاله عبد الرحمن بن زيد وعطاء ، وقيل : هي محكمة ، قاله مجاهد وقتادة ، .قوله : وإما ينزغنك من الشيطان نزغ النزغ الوسوسة وكذا النغز والنخس .
قال الزجاج : النزغ أدنى حركة تكون ، ومن الشيطان أدنى وسوسة ، وأصل النزغ : الفساد ، يقال : نزغ بيننا : أي أفسد ، وقيل : النزغ : الإغواء ، والمعنى متقارب ، أمر الله - سبحانه - نبيه - صلى الله عليه وسلم - إذا أدرك شيئا من وسوسة الشيطان أن يستعيذ بالله ، وقيل : " إنه لما نزل قوله : خذ العفو قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : كيف يا رب بالغضب " فنزلت ، وجملة إنه سميع عليم . علة لأمره بالاستعاذة أي استعذ به والتجئ إليه ، فإنه يسمع ذلك منك ويعلم به .
وجملة إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا مقررة لمضمون ما قبلها : أي إن شأن الذين يتقون الله وحالهم هو التذكر لما أمر الله به من الاستعاذة به والالتجاء إليه عند أن يمسهم طائف من الشيطان وإن كان يسيرا .
قرأ أهل البصرة " طيف " وكذا أهل مكة .
وقرأ أهل المدينة والكوفة " طائف " .
وقرأ سعيد بن جبير ، " طيف " بالتشديد .
قال النحاس : كلام العرب في مثل هذا طيف بالتخفيف على أنه مصدر من طاف يطيف .
قال الكسائي : هو مخفف مثل ميت وميت .
قال النحاس : ومعناه في اللغة ما يتخيل في القلب أو يرى في النوم ، وكذا معنى طائف .
قال أبو حاتم : سألت الأصمعي عن " طيف " فقال : ليس في المصادر فيعل .
قال النحاس : ليس هو مصدرا ولكن يكون بمعنى طائف ، وقيل : الطيف والطائف معنيان مختلفان ، فالأول : التخيل ، والثاني : الشيطان نفسه ، فالأول : من طاف الخيال يطوف طيفا ، ولم يقولوا من هذا طائف .
قال السهيلي : لأنه تخيل لا حقيقة له ، فأما قوله : فطاف عليها طائف من ربك ( القلم : 19 ) فلا يقال فيه طيف لأنه اسم فاعل حقيقة .
قال الزجاج : طفت عليهم أطوف ، فطاف الخيال يطيف .
قال حسان :
فدع هذا ولكن من لطيف يؤرقني إذا ذهب العشاء
وقرأ سعيد بن جبير ، " تذكروا " بتشديد الذال .
قال النحاس : ولا وجه له في العربية .
قوله : وإخوانهم يمدونهم في الغي قيل : المعنى : وإخوان الشياطين وهم الفجار من ضلال الإنس على أن الضمير في إخوانهم يعود إلى الشيطان المذكور سابقا ، والمراد به الجنس ، فجاز إرجاع ضمير الجمع إليه يمدونهم في الغي أي تمدهم الشياطين في الغي وتكون مددا لهم ، وسميت الفجار من الإنس إخوان الشياطين لأنهم يقبلون منهم ويقتدون بهم ، وقيل : إن المراد بالإخوان الشياطين ، وبالضمير الفجار من الإنس ، فيكون الخبر جاريا على من هو له .
وقال الزجاج : في الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى : والذين تدعون من دونه لا يستطيعون لكم نصرا ولا أنفسهم ينصرون وإخوانهم يمدونهم في الغي لأن الكفار إخوان الشياطين ، ثم لا يقصرون الإقصار : الانتهاء عن الشيء : أي لا تقصر الشياطين في مد الكفار في الغي ، قيل : إن " في الغي " متصلا بقوله : يمدونهم وقيل : بالإخوان ، والغي : الجهل .
قرأ نافع " يمدونهم " بضم حرف المضارعة وكسر الميم .
وقرأ الباقون بفتح حرف المضارعة وضم الميم ، وهما لغتان : يقال : مد وأمد .
قال مكي : ومد أكثر .
وقال أبو عبيد وجماعة من أهل اللغة : فإنه يقال إذا كثر شيء شيئا بنفسه مده ، وإذا كثره بغيره ، قيل : أمده نحو يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة ( آل عمران : 125 ) وقيل : يقال مددت في الشر وأمددت في الخير .
وقرأ عاصم الجحدري " يمادونهم في الغي " .
وقرأ عيسى بن عمر " ثم لا يقصرون " بفتح الياء وضم الصاد وتخفيف القاف .
قوله : وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها اجتبى الشيء بمعنى جباه لنفسه : أي جمعه أي هلا اجتمعتها افتعالا لها من عند نفسك ؟ وقيل : المعنى : اختلقتها ، يقال : اجتبيت الكلام : انتحلته واختلقته واخترعته إذا جئت به من عند نفسك ، كانوا يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا تراخى الوحي هذه المقالة ، فأمره الله بأن يجيب عليهم بقوله : إنما أتبع ما يوحى إلي أي لست ممن يأتي بالآيات من قبل نفسه كما تزعمون قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي فما أوحاه إلي وأنزله علي أبلغته إليكم ، وبصائر : جمع بصيرة ، أي : هذا القرآن المنزل علي هو بصائر من ربكم يتبصر بها من قبلها ، وقيل : البصائر الحجج والبراهين .
وقال الزجاج : البصائر الطرق وهدى ورحمة لقوم يؤمنون معطوف على بصائر ، أي : هذا القرآن هو بصائر وهدى يهتدي به المؤمنون ورحمة لهم .
قوله : وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا أمرهم الله - سبحانه - بالاستماع للقرآن والإنصات له عند قراءته لينتفعوا به ويتدبروا ما فيه من الحكم والمصالح ، قيل : هذا الأمر خاص بوقت الصلاة عند قراءة الإمام ، ولا يخفاك أن اللفظ أوسع من هذا ، والعام لا يقصر على سببه ، فيكون الاستماع والإنصات عند قراءة [ ص: 522 ] القرآن في كل حالة وعلى أي صفة مما يجب على السامع ، وقيل : هذا خاص بقراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للقرآن دون غيره ولا وجه لذلك ، لعلكم ترحمون أي تنالون الرحمة وتفوزون بها بامتثال أمر الله - سبحانه - ثم أمره الله - سبحانه - أن يذكره في نفسه ، فإن الإخفاء أدخل في الإخلاص وأدعى للقبول ، قيل : المراد بالذكر هنا ما هو أعم من القرآن وغيره من الأذكار التي يذكر الله بها .
وقال النحاس : لم يختلف في معنى واذكر ربك في نفسك أنه الدعاء ، وقيل : هو خاص بالقرآن : أي اقرأ القرآن بتأمل وتدبر و تضرعا وخيفة منتصبان على الحال ، أي متضرعا وخائفا ، والخيفة : الخوف ، وأصلها خوفة قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها . وحكى الفراء أنه يقال في جمع خيفة خيف . قال الجوهري : والخيفة الخوف والجمع خيف ، وأصله الواو ، أي : خوف
ودون الجهر من القول أي دون المجهور به من القول وهو معطوف على ما قبله ، أي متضرعا ، وخائفا ، ومتكلما بكلام هو دون الجهر من القول ، و بالغدو والآصال متعلق بـ " اذكر " أي : أوقات الغدوات وأوقات الأصائل ، والغدو : جمع غدوة ، والآصال : جمع أصيل ، قاله الزجاج والأخفش ، مثل يمين وأيمان ، وقيل : الآصال جمع أصل ، والأصل جمع أصيل فهو على هذا جمع الجمع ، قاله الفراء .
قال الجوهري : الأصيل الوقت من بعد العصر إلى المغرب ، وجمعه أصل وآصال وأصائل كأنه جمع أصيلة .
قال الشاعر :
لعمري لأنت البيت أكرم أهله وأقعد في أفنائه بالأصائل
وخص هذين الوقتين لشرفهما ، والمراد دوام الذكر لله ولا تكن من الغافلين أي عن ذكر الله .
إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته المراد بهم الملائكة ، قال القرطبي : بالإجماع .
قال الزجاج : وقال " عند ربك " والله - عز وجل - بكل مكان لأنهم قريبون من رحمته ، وكل قريب من رحمة الله - عز وجل - فهو عنده .
وقال غيره : لأنهم في موضع لا ينفذ فيه إلا حكم الله ، وقيل : إنهم رسل الله كما يقال عند الخليفة جيش كثير ، وقيل : هذا على جهة التشريف والتكريم لهم ، ومعنى ويسبحونه يعظمونه وينزهونه عن كل شين وله يسجدون أي يخصونه بعبادة السجود التي هي أشرف عبادة ، وقيل : المراد بالسجود الخضوع والذلة ، وفي ذكر الملأ الأعلى تعريض لبني آدم .
وقد أخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، والبخاري ، وأبو داود والنسائي ، والنحاس ، في ناسخه وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن عبد الله بن الزبير في قوله : خذ العفو الآية قال : ما نزلت هذه الآية إلا في اختلاف الناس ، وفي لفظ : أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ العفو من أخلاق الناس .
وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني في الأوسط وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه وابن مردويه ، عن ابن عمر في قوله : خذ العفو قال : أمر الله نبيه أن يأخذ العفو من أخلاق الناس .
وأخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن الشعبي ، قال : " لما أنزل الله خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما هذا يا جبريل ؟ قال : لا أدري حتى أسأل العالم ، فذهب ثم رجع فقال : إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك .
وأخرج ابن مردويه ، عن جابر نحوه .
وأخرج ابن مردويه ، عن قيس بن سعد بن عبادة قال : لما نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حمزة بن عبد المطلب قال : والله لأمثلن بسبعين منهم ، فجاءه جبريل بهذه الآية .
وأخرج ابن مردويه ، عن عائشة في قوله : خذ العفو قال : ما عفا لك من مكارم الأخلاق .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عباس ، في قوله : خذ العفو قال : خذ ما عفا من أموالهم ، ما أتوك به من شيء فخذه ، وهذا قبل أن تنزل " براءة " بفرائض الصدقة وتفصيلها .
وأخرج ابن جرير ، والنحاس ، في ناسخه عن السدي ، في الآية قال : الفضل من المال نسخته الزكاة .
وأخرج ابن جرير ، عن ابن زيد قال : لما نزل خذ العفو الآية قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كيف بالغضب يا رب ؟ فنزل وإما ينزغنك من الشيطان نزغ . .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد في قوله : إن الذين اتقوا قال : هم المؤمنون .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد في قوله : إذا مسهم طائف من الشيطان قال : الغضب .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، قال : الطيف الغضب .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن السدي ، في قوله : تذكروا قال : إذا زلوا تابوا .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، في الآية قال الطائف : اللمة من الشيطان .
تذكروا فإذا هم مبصرون يقول : فإذا هم منتهون عن المعصية آخذون بأمر الله عاصون للشيطان وإخوانهم قال : إخوان الشياطين يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون قال : لا الإنس يمسكون عما يعملون من السيئات ، ولا الشياطين تمسك عنهم و وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها يقول : لولا أحدثتها لولا تلقيتها فأنشأتها .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عنه وإخوانهم يمدونهم في الغي قال : هم الجن يوحون إلى أوليائهم من الإنس ثم لا يقصرون يقول : لا يسأمون وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها يقول : هلا افتعلتها من تلقاء نفسك .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، وابن عساكر ، عن أبي هريرة في قوله : وإذا قرئ القرآن الآية قال : نزلت في رفع الأصوات وهم خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي عن ابن عباس ، في الآية قال : يعني في الصلاة المفروضة .
وأخرج ابن مردويه ، والبيهقي عنه قال : صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقرأ خلفه قوم فخلطوا ، [ ص: 523 ] فنزلت وإذا قرئ القرآن الآية ، فهذه في المكتوبة .
قال : وإن كنا لم نستمع لمن يقرأ بالأخفى من الجهر .
وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن محمد بن كعب القرظي نحوه .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن مجاهد نحوه .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي عن عبد الله بن مغفل نحوه .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والبيهقي عن ابن مسعود نحوه أيضا ، وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف ، وصرحوا بأن هذه الآية نزلت في قراءة الصلاة من الإمام .
وأخرج ابن أبي شيبة ، عن الحسن في الآية قال : عند الصلاة المكتوبة ، وعند الذكر .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في الآية قال : في الصلاة وحين ينزل الوحي .
وأخرج البيهقي عنه في الآية أنه قال : هذا في الصلاة .
وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة ، في قوله : واذكر ربك في نفسك الآية قال : أمره الله أن يذكره ، ونهاه عن الغفلة ، أما بالغدو فصلاة الصبح ، والآصال بالعشي .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي صخر قال : الآصال ما بين الظهر والعصر .
وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن ابن زيد في الآية قال : لا تجهر بذاك بالغدو والآصال بالبكر والعشي .
وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد بالغدو قال : آخر الفجر صلاة الصبح ، والآصال آخر العشي صلاة العصر ، والأحاديث والآثار عن الصحابة في سجود التلاوة ، وعدد المواضع التي يسجد فيها ، وكيفية السجود وما يقال فيه مستوفاة في كتب الحديث والفقه فلا نطول بإيراد ذلك هاهنا .


