قوله : وما لهم ألا يعذبهم الله لما بين - سبحانه - أن المانع من تعذيبهم هو الأمران المتقدمان : وجود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين ظهورهم ، ووقوع الاستغفار ، ذكر بعد ذلك أن هؤلاء الكفار ، أعني مكة مستحقون لعذاب الله لما ارتكبوا من القبائح . كفار
والمعنى : أي شيء لهم يمنع من تعذيبهم ؟ قال الأخفش : إن " أن " زائدة .
قال النحاس : لو كان كما قال لرفع " يعذبهم " ، وجملة وهم يصدون عن المسجد الحرام في محل نصب على الحال : أي وما يمنع من تعذيبهم ؟ والحال أنهم يصدون الناس عن المسجد الحرام كما وقع منهم عام الحديبية من وجملة منع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من البيت ، وما كانوا أولياءه في محل نصب على أنها حال من فاعل يصدون ، وهذا كالرد لما كانوا يقولونه من أنهم ولاة البيت ، وأن أمره مفوض إليهم ، ثم قال مبينا لمن له ذلك : إن أولياؤه إلا المتقون أي ما أولياؤه إلا من كان في عداد المتقين للشرك والمعاصي ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك ، والحكم على الأكثرين بالجهل يفيد أن الأقلين يعلمون ولكنهم يعاندون .
قوله : وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية المكاء : الصفير من مكا يمكو مكاء ، ومنه قول عنترة :
وخليل غانية تركت مجندلا تمكو فريصته كشدق الأعلم
أي تصوت ، ومنه مكت است الدابة : إذا نفخت بالريح ، قيل : المكاء : هو الصفير على لحن طائر أبيض بالحجاز يقال له المكاء ، قال الشاعر :إذا غرد المكاء في غير دوحة فويل لأهل الشاء والحمرات
وظلوا جميعا لهم ضجة مكاء لدى البيت بالتصدية
ومعنى الآية : أن المشركين كانوا يصفرون ويصفقون عند البيت الذي هو موضع للصلاة والعبادة ، فوضعوا ذلك موضع الصلاة قاصدين به أن يشغلوا المصلين من المسلمين عن الصلاة ، وقرئ بنصب " صلاتهم " على أنها خبر كان ، وما بعده اسمها .
قوله : فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون هذا التفات إلى مخاطبة الكفار تهديدا لهم ومبالغة في إدخال الروعة في قلوبهم ، والمراد به : عذاب الدنيا كيوم بدر وعذاب الآخرة .
قوله : إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله لما فرغ - سبحانه - من شرح أحوال هؤلاء الكفرة في الطاعات البدنية ، أتبعها شرح أحوالهم في الطاعات المالية .
والمعنى : أن غرض هؤلاء الكفار في إنفاق أموالهم هو الصد عن سبيل الحق بمحاربة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجمع الجيوش لذلك ، وإنفاق أموالهم عليها وذلك كما وقع من كفار قريش يوم بدر ، ويوم أحد ، ويوم الأحزاب ، فإن الرؤساء كانوا ينفقون أموالهم على الجيش ، ثم أخبر الله - سبحانه - عن الغيب على وجه الإعجاز فقال : " فسينفقونها " أي سيقع منهم هذا الإنفاق ثم تكون عاقبة ذلك أن يكون إنفاقهم حسرة عليهم ، وكأن ذات الأموال تنقلب حسرة تصير ندما ، ثم آخر الأمور يغلبون كما وعد الله به في مثل قوله : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ( المجادلة : 21 ) .
ومعنى " ثم " في الموضعين إما التراخي في الزمان لما بين الإنفاق المذكور وبين ظهور دولة الإسلام من الامتداد ، وإما التراخي في الرتبة لما بين بذل المال وعدم حصول المقصود من المباينة ، ثم قال : والذين كفروا إلى جهنم يحشرون أي استمروا على الكفر ؛ لأن من هؤلاء الكفار المذكورين سابقا من أسلم وحسن إسلامه ، أي يساقون إليها لا إلى غيرها .
ثم بين العلة التي لأجلها فعل بهم ما فعله فقال : ليميز الله الخبيث أي : الفريق الخبيث من الكفار من الفريق الطيب وهم المؤمنون ويجعل الخبيث بعضه على بعض أي : يجعل فريق الكفار الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا ، عبارة عن الجمع والضم : أي يجمع بعضهم على بعض ، ويضم بعضهم إلى بعض حتى يتراكموا لفرط ازدحامهم ، يقال : ركم الشيء يركمه : إذا جمعه وألقى بعضه على بعض ، والإشارة بقوله : أولئك إلى الفريق الخبيث هم الخاسرون أي الكاملون في الخسران ، وقيل : الخبيث والطيب : صفة للمال ، والتقدير : يميز المال الخبيث الذي أنفقه المشركون من المال الطيب الذي أنفقه المسلمون ، فيضم تلك الأموال الخبيثة بعضها إلى بعض فيلقيها في جهنم ويعذبهم بها ، كما في قوله - تعالى - : فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ( التوبة : 35 ) .
قال في الكشاف : واللام على هذا متعلقة بقوله : ثم تكون عليهم حسرة ، وعلى الأول بـ " يحشرون " ، و أولئك إشارة إلى الذين كفروا انتهى .
وقد أخرج ، عن ابن أبي حاتم ابن عباس ، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ثم استثنى أهل الشرك فقال : وما لهم ألا يعذبهم الله .
وأخرج ، ابن أبي شيبة وابن المنذر ، عن في قوله : سعيد بن جبير ، وما لهم ألا يعذبهم الله قال : عذابهم فتح مكة .
وأخرج ، ابن إسحاق وأبو حاتم ، ، عن عباد بن عبد الله بن الزبير وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يجحدون بآيات الله ويكذبون رسله .
وأخرج وابن ابن إسحاق أبي حاتم ، عن في قوله : عروة بن الزبير وهم يصدون عن المسجد الحرام أي من آمن بالله وعبده ، أنت ومن اتبعك وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون الذين يخرجون منه ويقيمون الصلاة عنده : أي أنت ومن آمن بك .
وأخرج ، ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن مجاهد في قوله : إن أولياؤه إلا المتقون قال : من كانوا حيث كانوا .
وأخرج ، عبد بن حميد ، عن وابن جرير قال : كانت سعيد بن جبير ، قريش يعارضون النبي - صلى الله عليه وسلم - في الطواف ، ويستهزئون ويصفرون ويصفقون ، فنزلت : وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية .
وأخرج ، ابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والضياء عن قال : كانت ابن عباس ، قريش يطوفون بالكعبة عراة تصفر وتصفق ، فأنزل الله : وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية قال : والمكاء الصفير ، إنما شبهوا بصفير الطير .
" وتصدية " : التصفيق وأنزل الله فيهم : قل من حرم زينة الله ( الأعراف : 32 ) الآية .
وأخرج ابن المنذر ، عن نحوه . ابن عباس ،
وأخرج ، الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير وابن المنذر عنه نحوه أيضا .
وأخرج ، ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن قال : المكاء الصفير ، والتصدية التصفيق . ابن عمر
وأخرج ، ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير وابن المنذر ، ، عن وابن أبي حاتم مجاهد : قال : المكاء إدخال أصابعهم في أفواههم ، والتصدية الصفير ، يخلطون بذلك كله على محمد - صلى الله عليه وسلم - صلاته .
وأخرج ، ابن جرير ، عن وابن أبي حاتم : قال : المكاء الصفير على نحو طير أبيض يقال له المكاء يكون بأرض السدي ، الحجاز ، والتصدية التصفيق .
وأخرج ، ابن جرير ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن في قوله : " إلا مكاء " قال : كانوا يشبكون أصابعهم ويصفرون فيهن ، " وتصدية " قال : صدهم الناس . سعيد بن جبير ،
وأخرج عن عبد بن حميد عكرمة قال : كان المشركون يطوفون بالبيت على الشمال ، وهو قوله : وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فالمكاء مثل نفخ البوق ، والتصدية طوافهم على الشمال .
وأخرج ، ابن جرير وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك ، في قوله : فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون قال : يعني أهل بدر عذبهم الله بالقتل والأسر .
وأخرج ابن [ ص: 539 ] إسحاق ، ، وابن جرير وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل كلهم من طريقه : قال : حدثني ، الزهري ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، والحسين بن عبد الرحمن بن عمرو قالوا : لما أصيبت قريش يوم بدر ورجع فلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيره ، مشى عبد الله بن أبي ربيعة ، ، وعكرمة بن أبي جهل ، في رجال من وصفوان بن أمية ، قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم ، فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة فقالوا : يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم ، فأعينوا بهذا المال على حربه فلعلنا أن ندرك منه ثأرا ، ففعلوا ، ففيهم كما ذكر ، أنزل الله : ابن عباس إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله إلى والذين كفروا إلى جهنم يحشرون .
وأخرج ابن مردويه ، ، عن قال : نزلت هذه الآية في ابن عباس ، . أبي سفيان بن حرب
وأخرج ، عبد بن حميد ، وابن جرير وأبو الشيخ ، عن مجاهد نحوه .
وأخرج هؤلاء وغيرهم ، عن نحوه . سعيد بن جبير ،
وأخرج ، ابن جرير وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن في الآية قال : نزلت في الحكم بن عتيبة أبي سفيان أنفق على مشركي قريش يوم أحد أربعين أوقية من ذهب ، وكانت الوقية يومئذ اثنين وأربعين مثقالا من ذهب .
وأخرج ، ابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن شمر بن عطية في قوله : ليميز الله الخبيث من الطيب قال : يميز يوم القيامة ما كان من عمل صالح في الدنيا ، ثم تؤخذ الدنيا بأسرها فتلقى في جهنم .
وأخرج ، ابن جرير ، عن وابن أبي حاتم ابن زيد في قوله : فيركمه جميعا قال : يجمعه جميعا .