الخطاب للمؤمنين كافة ، وهو حكم باق إلى يوم القيامة يدل على قطع الولاية بين المؤمنين والكافرين ، وقالت طائفة من أهل العلم : إنها نزلت في الحض على الهجرة ورفض بلاد الكفر ، فيكون الخطاب لمن كان من المؤمنين بمكة وغيرها من بلاد العرب ، نهوا أن يوالوا الآباء والإخوة فيكونون لهم تبعا في سكنى البلاد والكفر . " إن استحبوا " : أي أحبوا ، كما يقال : استجاب بمعنى أجاب ، وهو في الأصل طلب المحبة ، وقد تقدم تحقيق المقام في سورة المائدة في قوله - تعالى - : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ( المائدة : 51 ) ثم حكم على من يتولى من استحب الكفر على الإيمان من الآباء والإخوان بالظلم ، فدل ذلك على أن تولي من كان كذلك من أعظم الذنوب وأشدها .
ثم أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن يقول لهم : إن كان آباؤكم إلى آخره ، والعشيرة : الجماعة التي ترجع إلى عقد واحد ، وعشيرة الرجل : قرابته الأدنون ، وهم الذين يعاشرونه وهي اسم جمع .
وقرأ أبو بكر ، وحماد " عشيراتكم " بالجمع .
قال الأخفش لا تكاد العرب تجمع عشيرة على عشيرات ، وإنما يجمعونها على عشائر .
وقرأ الحسن " عشائركم " وقرأ الباقون " عشيرتكم " .
والاقتراف : الاكتساب ، وأصله اقتطاع الشيء من مكانه ، والتركيب يدور على الدنو ، والكاسب يدني الشيء من نفسه ويدخله تحت ملكه ، والتجارة : الأمتعة التي يشترونها ليربحوا فيها ، والكساد : عدم النفاق لفوات وقت بيعها بالهجرة ومفارقة الأوطان .
ومن غرائب التفسير ما روي ، عن أنه قال : إن المراد بالتجارة في هذه الآية البنات والأخوات ، إذا كسدن في البيت لا يجدن لهن خاطبا ، واستشهد لذلك بقول الشاعر : ابن المبارك
كسدن من الفقر في قومهن وقد زادهن مقامي كسادا
وهذا البيت وإن كان فيه إطلاق الكساد على عدم وجود الخاطب لهن فليس فيه جواز إطلاق اسم التجارة عليهن ، والمراد بالمساكن التي يرضونها : المنازل التي تعجبهم ، وتميل إليها أنفسهم ويرون الإقامة فيها أحب إليهم من المهاجرة إلى الله ورسوله ، و " أحب " خبر كان : أي كانت هذه الأشياء المذكورة في الآية أحب إليكم من الله ورسوله ومن الجهاد في سبيل الله فتربصوا أي انتظروا حتى يأتي الله بأمره فيكم وما تقتضيه مشيئته من عقوبتكم ، وقيل : المراد بأمر الله سبحانه : القتال ، وقيل : فتح مكة وفيه بعد ، فقد روي أن هذه السورة نزلت بعد الفتح .وفي هذا وعيد شديد ويؤكده إبهام الأمر وعدم التصريح به لتذهب أنفسهم كل مذهب وتتردد بين أنواع العقوبات والله لا يهدي القوم الفاسقين أي الخارجين عن طاعته ، النافرين عن امتثال أوامره ونواهيه .
وقد أخرج ، ابن أبي شيبة وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن مجاهد قال : أمروا بالهجرة فقال : أنا أسقي الحاج ، وقال العباس بن عبد المطلب طلحة أخو بني عبد الدار : أنا أحجب الكعبة فلا نهاجر ، فأنزلت : لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم الآية .
وأخرج ، عن ابن أبي حاتم مقاتل في هذه الآية قال : هي الهجرة .
وأخرج ، عبد بن حميد وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن قتادة اقترفتموها قال : أصبتموها .
وأخرج ، ابن أبي شيبة وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن مجاهد في قوله : حتى يأتي الله بأمره قال : بالفتح في أمره بالهجرة ، هذا كله قبل فتح مكة .
وأخرج البيهقي من حديث قال : جعل عبد الله بن شوذب أبو أبي ، عبيدة بن الجراح ينعت له الآلهة يوم بدر ، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه ، فلما أكثر الجراح قصده ابنه أبو عبيدة فقتله ، فأنزل الله : لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر ( المجادلة : 22 ) الآية ، وهي تؤكد معنى هذه الآية ، وقد تقدم بيان حكم الهجرة في سورة النساء .