لما فرغ - سبحانه - من ذكر حال أتباع الأحبار والرهبان المتخذين لهم أربابا ذكر حال المتبوعين فقال : إن كثيرا من الأحبار إلى آخره ، ومعنى أكلهم لأموال الناس بالباطل أنهم يأخذونها بالوجوه الباطلة كالرشوة ، وأثبت هذا للكثير منهم ؛ لأن فيهم من لم يتلبس بذلك ، بل بقي على ما يوجبه دينه من غير تحريف ولا تبديل ولا ميل إلى حطام الدنيا ، ولقد اقتدى بهؤلاء الأحبار والرهبان من علماء الإسلام من لا يأتي عليه الحصر في كل زمان ، فالله المستعان .
ويصدون عن سبيل الله أي عن الطريق إليه وهو دين الإسلام ، أو عن ما كان حقا في شريعتهم قبل نسخها بسبب أكلهم لأموال الناس بالباطل .
قوله : والذين يكنزون الذهب والفضة قيل : هم المتقدم ذكرهم من الأحبار والرهبان ، وإنهم كانوا يصنعون هذا الصنع ، وقيل : هم من يفعل ذلك من المسلمين ، والأولى حمل الآية على عموم اللفظ فهو أوسع من ذلك ، وأصل الكنز في اللغة الضم والجمع ، ولا يختص بالذهب والفضة .
قال : الكنز كل شيء مجموع بعضه إلى بعض في بطن الأرض كان أو على ظهرها ، انتهى . ابن جرير
ومنه ناقة كناز : أي مكتنزة اللحم ، واكتنز الشيء : اجتمع .
واختلف أهل العلم في فقال قوم : هو كنز ، وقال آخرون : ليس بكنز . المال الذي أديت زكاته هل يسمى كنزا أم لا ؟
ومن القائلين بالقول الأول أبو ذر ، وقيده بما فضل عن الحاجة .
ومن القائلين بالقول الثاني ، عمر بن الخطاب ، وابن عمر ، وابن عباس ، وجابر ، ، وأبو هريرة وغيرهم ، وهو الحق لما سيأتي من الأدلة المصرحة بأن ما أديت زكاته فليس بكنز . وعمر بن عبد العزيز
قوله : ولا ينفقونها في سبيل الله .
اختلف في وجه إفراد الضمير مع كون المذكور قبله شيئين ، هما الذهب والفضة ، فقال : إنه قصد إلى الأعم الأغلب وهو الفضة قال : ومثله قوله - تعالى - : ابن الأنباري واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة ( البقرة : 45 ) رد الكناية إلى الصلاة لأنها أعم ، ومثله قوله : وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها ( الجمعة : 11 ) أعاد الضمير إلى التجارة ؛ لأنها الأهم ، وقيل : إن الضمير راجع إلى الذهب والفضة معطوفة عليه ، والعرب تؤنث الذهب وتذكره ، وقيل : إن الضمير راجع إلى الكنوز المدلول عليها بقوله : يكنزون ، وقيل : إلى الأموال ، وقيل : للزكاة ، وقيل : إنه اكتفى بضمير أحدهما عن ضمير الآخر مع فهم المعنى ، وهو كثير في كلام العرب ، وأنشد : سيبويه
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف
ولم يقل راضون ، ومثله قول الآخر :
رماني بأمر كنت منه ووالدي بريا ومن أجل الطوى رماني
ولم يقل بريين ، ومثله قول حسان :
إن شرخ الشباب والشعر الأس ود ما لم يعاض كان جنونا
ولم يقل يعاضا ، وقيل : إن إفراد الضمير من باب الذهاب إلى المعنى دون اللفظ ؛ لأن كل واحد من الذهب والفضة جملة وافية ، وعدة كثيرة ، ودنانير ودراهم ، فهو كقوله : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ( الحجرات : 9 ) وإنما خص الذهب والفضة بالذكر دون سائر الأموال لكونهما أثمان الأشياء ، وغالب ما يكنز وإن كان غيرهما له حكمهما في تحريم الكنز .
قوله : فبشرهم بعذاب أليم وهو خبر الموصول ، وهو من باب التهكم بهم كما في قوله :
تحية بينهم ضرب وجيع
وقيل : إن البشارة هي الخبر الذي يتغير له لون البشرة لتأثيره في القلب ، سواء كان في الفرح أو في الغم .
ومعنى يوم يحمى عليها في نار جهنم أن النار توقد عليها وهي ذات حمى وحر شديد ، ولو قال " يوم تحمى : أي الكنوز لم يعط هذا المعنى ، فجعل الإحماء للنار مبالغة ، ثم حذف النار وأسند الفعل إلى الجار ، كما تقول رفعت القصة إلى الأمير ، فإن لم تذكر القصة قلت رفع إلى الأمير .
وقرأ ابن عامر " تحمى " بالمثناة الفوقية .
وقرأ أبو حيوة " فيكوى " بالتحتية .
وخص الجباه والجنوب والظهور لكون التألم بكيها أشد لما في داخلها من الأعضاء الشريفة ، وقيل : ليكون الكي في الجهات الأربع : من قدام ، وخلف ، وعن يمين ، وعن يسار ، وقيل : لأن الجمال في الوجه ، والقوة في الظهر والجنبين ، والإنسان إنما يطلب المال للجمال والقوة ، وقيل : غير ذلك مما لا يخلو عن تكلف .
قوله : هذا ما كنزتم لأنفسكم أي يقال لهم هذا ما كنزتم لأنفسكم : أي كنزتموه لتنتفعوا به فهذا نفعه على طريقة التهكم والتوبيخ فذوقوا ما كنتم تكنزون ما مصدرية أو موصولة : أي ذوقوا وباله ، وسوء عاقبته ، وقبح مغبته ، وشؤم فائدته .
وقد أخرج أبو الشيخ ، عن الضحاك ، في قوله : إن كثيرا من الأحبار والرهبان يعني علماء اليهود والنصارى ليأكلون أموال الناس بالباطل والباطل : كتب كتبوها لم ينزلها الله فأكلوا بها أموال الناس ، وذلك قول الله تعالى : فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ( البقرة : 79 ) .
وأخرج ابن المنذر ، عن في [ ص: 570 ] قوله : ابن عباس ، والذين يكنزون الذهب والفضة قال : هؤلاء الذين لا يؤدون الزكاة من أموالهم ، وكل مال لا تؤدى زكاته كان على ظهر الأرض أو في بطنها فهو كنز ، وكل مال أديت زكاته فليس بكنز ، كان على ظهر الأرض أو في بطنها .
وأخرجه عنه ، ابن أبي شيبة وابن المنذر ، وأبو الشيخ من وجه آخر .
وأخرج مالك ، ، وابن أبي شيبة وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن نحوه . ابن عمر
وأخرج ابن مردويه ، عنه نحوه مرفوعا .
وأخرج ، ابن عدي والخطيب ، عن جابر نحوه مرفوعا أيضا .
وأخرجه عنه موقوفا . ابن أبي شيبة
وأخرج أحمد في الزهد ، ، والبخاري ، ، وابن ماجه ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن في الآية قال : إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة ، فلما نزلت الزكاة جعلها الله طهرة للأموال ، ثم قال : ما أبالي لو كان عندي مثل ابن عمر أحد ذهبا أعلم عدده وأزكيه وأعمل فيه بطاعات الله .
وأخرج ، ابن أبي شيبة وأبو الشيخ ، عن قال : ليس بكنز ما أدي زكاته . عمر بن الخطاب
وأخرج ابن مردويه ، ، والبيهقي عن مرفوعا نحوه . أم سلمة
وأخرج في مسنده ابن أبي شيبة وأبو داود ، وأبو يعلى ، ، ، وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن قال : ابن عباس ، والذين يكنزون الذهب والفضة كبر ذلك على المسلمين ، وقالوا : ما يستطيع أحد منا لولده ما لا يبقى بعده ، فقال عمر : أنا أفرج عنكم ، فانطلق عمر واتبعه فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا نبي الله إنه قد كبر على أصحابك هذه الآية ، فقال : إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم ، وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم ، فكبر ثوبان عمر ، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء ؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرته ، وإذا أمرها أطاعته ، وإذا غاب عنها حفظته . لما نزلت هذه الآية
وقد أخرجه أحمد ، ، وحسنه والترمذي ، عن وابن ماجه ، من غير وجه ، عن سالم بن أبي الجعد . ثوبان
وحكى أن البخاري ، سالما لم يسمعه من . ثوبان
وأخرج ابن مردويه ، ، عن في قوله : ابن عباس ، والذين يكنزون الذهب والفضة قال : هم أهل الكتاب ، وقال : هي خاصة وعامة .
وأخرج ، ابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن قال : أربعة آلاف فما دونها نفقة وما فوقها كنز . علي بن أبي طالب
وأخرج ، ابن أبي حاتم ، عن والطبراني أبي أمامة قال : حلية السيوف من الكنوز ما أحدثكم إلا ما سمعت .
وأخرج ، ابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن ، عراك بن مالك أنهما قالا في قوله : وعمر بن عبد العزيز والذين يكنزون الذهب والفضة إنها نسختها الآية الأخرى خذ من أموالهم صدقة التوبة : 103 ) الآية .
وأخرج ، البخاري ، ومسلم ، وغيرهما ، عن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أبي هريرة ، ثم يكوى بها جنباه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله ، إما إلى الجنة ، وإما إلى النار ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها ، إلا جعل لها يوم القيامة صفائح ، ثم أحمى عليها في نار جهنم .
وأخرج ، ابن أبي شيبة ، والبخاري ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن قال : مررت على زيد بن وهب أبي ذر بالزبدة فقلت : ما أنزلك بهذه الأرض ؟ فقال : كنا بالشام فقرأت : والذين يكنزون الذهب والفضة الآية ، فقال معاوية : ما هذه فينا ، ما هذه إلا في أهل الكتاب ، قلت : إنها لفينا وفيهم .