قوله : ياأيها الذين آمنوا لما شرح معايب أولئك الكفار عاد إلى ترغيب المؤمنين في قتالهم ، والاستفهام في : ما لكم ؟ للإنكار والتوبيخ ، أي : أي شيء يمنعكم من ذلك ، ولا خلاف أن هذه الآية نزلت عتابا لمن تخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تبوك ، وكانت سنة تسع من الهجرة ، بعد الفتح بعام ، والنفر : هو الانتقال بسرعة من مكان إلى مكان لأمر يحدث . غزوة
قوله : اثاقلتم إلى الأرض أصله تثاقلتم أدغمت التاء في الثاء لقربها منها ، وجيء بألف الوصل ليتوصل بها إلى النطق بالساكن ، ومثله : اداركوا ، و اطيرتم ، واطيروا ، وأنشد : الكسائي
توالى الضجيع إذا ما اشتاقها حضرا عذب المذاق إذا ما اتابع القبل
وقرأ " تثاقلتم " على الأصل ، ومعناه تباطأتم ، وعدي بـ " إلى " لتضمنه معنى الميل والإخلاد ، وقيل : معناه : ملتم إلى الإقامة بأرضكم والبقاء فيها ، وقرئ : " آثاقلتم " على الاستفهام ، ومعناه التوبيخ ، والعامل في الظرف " ما " في : " ما لكم " من معنى الفعل ، كأنه قيل : ما يمنعكم ، أو ما تصنعون إذا قيل لكم ؟ و " إلى الأرض " متعلق بـ " اثاقلتم " وكما مر . الأعمش :
قوله : أرضيتم بالحياة الدنيا أي : بنعيمها بدلا من الآخرة ، كقوله تعالى : ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون ( الزخرف : 60 ) أي بدلا منكم ، ومثله قول الشاعر :
قلبت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على طهيان
قوله : إلا تنفروا يعذبكم هذا تهديد شديد ، ووعيد مؤكد لمن ترك النفير مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعذبكم عذابا أليما أي : يهلككم بعذاب شديد مؤلم ، قيل : في الدنيا فقط ، وقيل : هو أعم من ذلك .
قوله : ويستبدل قوما غيركم أي : يجعله لرسله بدلا منكم ، ممن لا يتباطأ عند حاجتهم إليهم .
واختلف في هؤلاء القوم من هم ؟ فقيل : أهل اليمن ، وقيل : أهل فارس ، ولا وجه للتعيين بدون دليل .
قوله : ولا تضروه شيئا معطوف على " يستبدل " والضمير ، قيل : لله ، وقيل : للنبي - صلى الله عليه وسلم - أي : ولا تضروا الله بترك امتثال أمره بالنفير شيئا ، أو لا تضروا رسول الله بترك نصره والنفير معه شيئا : والله على كل شيء قدير ، ومن جملة مقدوراته [ ص: 573 ] تعذيبكم والاستبدال بكم .
قوله : إلا تنصروه فقد نصره الله أي : إن تركتم نصره فالله متكفل به ، فقد نصره في مواطن القلة ، وأظهره على عدوه بالغلبة والقهر ، أو فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلا رجل واحد وقت إخراج الذين كفروا له حال كونه ثاني اثنين ، أي : أحد اثنين ، وهما : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، رضي الله عنه . وأبو بكر الصديق
وقرئ بسكون الياء .
قال : : حكاها ابن جني ووجهها أن تسكن الياء تشبيها بالألف . أبو عمرو بن العلاء ،
قال ابن عطية : فهي كقراءة الحسن ما بقي من الربا ( البقرة : 278 ) ، وكقول جرير :
هو الخليفة فارضوا ما رضيه لكم ماضي العزيمة ما في حكمه جنف
قوله : إذ هما في الغار بدل من " إذ أخرجه " بدل بعض ، والغار : ثقب في الجبل المسمى ثورا ، وهو المشهور بغار ثور ، وهو جبل قريب من مكة ، وقصة خروجه - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة ، هو وأبو بكر ودخولهما الغار مشهورة مذكورة في كتب السير والحديث .
قوله : إذ يقول لصاحبه بدل ثان ، أي : وقت قوله لأبي بكر : لا تحزن إن الله معنا أي : دع الحزن ، فإن الله بنصره وعونه وتأييده معنا ، ومن كان الله معه فلن يغلب ، ومن لا يغلب فيحق له أن لا يحزن .
قوله : فأنزل الله سكينته عليه السكينة : تسكين جأشه وتأمينه حتى ذهب روعه وحصل له الأمن ، على أن الضمير في عليه لأبي بكر ، وقيل : هو للنبي - صلى الله عليه وسلم - ويكون المراد بالسكينة النازلة عليه : عصمته عن حصول سبب من أسباب الخوف له ، ويؤيد كون الضمير في " عليه " للنبي - صلى الله عليه وسلم - الضمير في وأيده بجنود لم تروها فإنه للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه المؤيد بهذه الجنود التي هي الملائكة كما كان في يوم بدر ، وقيل : إنه لا محذور في رجوع الضمير من " عليه " إلى أبي بكر ومن " وأيده " إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن ذلك كثير في القرآن وفي كلام العرب وجعل كلمة الذين كفروا السفلى أي : كلمة الشرك ، وهي : دعوتهم إليه ونداؤهم للأصنام وكلمة الله هي العليا .
قرأ ، الأعمش ويعقوب بنصب كلمة حملا على " جعل " ، وقرأ الباقون برفعها على الاستئناف .
وقد ضعف قراءة النصب الفراء ، وأبو حاتم ، وفي ضمير الفصل - أعني هي - تأكيد لفضل كلمته في العلو ، وأنها المختصة به دون غيرها ، . وكلمة الله هي كلمة التوحيد والدعوة إلى الإسلام والله عزيز حكيم أي : غالب قاهر ، لا يفعل إلا ما فيه حكمة وصواب .
ثم لما توعد من لم ينفر مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وضرب له من الأمثال ما ذكره ، عقبه بالأمر الجزم ، فقال : انفروا خفافا وثقالا أي : حال كونكم خفافا وثقالا ، قيل : المراد منفردين أو مجتمعين ، وقيل : نشاطا وغير نشاط ، وقيل : فقراء وأغنياء ، وقيل : شبابا وشيوخا ، وقيل : رجالا وفرسانا ، وقيل : من لا عيال له ومن له عيال ، وقيل : من يسبق إلى الحرب كالطلائع ، ومن يتأخر كالجيش ، وقيل : غير ذلك .
ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه المعاني ؛ لأن معنى الآية : انفروا خفت عليكم الحركة أو ثقلت .
قيل : وهذه الآية منسوخة بقوله - تعالى - : ليس على الضعفاء ولا على المرضى ( التوبة : 91 ) ، وقيل : الناسخ لها قوله : فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ( التوبة : 122 ) الآية ، وقيل : هي محكمة وليست بمنسوخة ، ويكون إخراج الأعمى والأعرج بقوله : ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ( النور : 61 ) وإخراج الضعيف والمريض بقوله : ليس على الضعفاء ولا على المرضى ( التوبة : 91 ) من باب التخصيص ، لا من باب النسخ على فرض دخول هؤلاء تحت قوله : خفافا وثقالا والظاهر عدم دخولهم تحت العموم .
قوله : وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله فيه الأمر بالجهاد بالأنفس والأموال وإيجابه على العباد ، فالفقراء يجاهدون بأنفسهم ، والأغنياء بأموالهم وأنفسهم .
، وهو فرض كفاية مهما كان البعض يقوم بجهاد العدو وبدفعه ، فإن كان لا يقوم بالعدو إلا جميع المسلمين في قطر من الأرض ، أو أقطار وجب عليهم ذلك وجوب عين ، والإشارة بقوله : " ذلكم " إلى ما تقدم من الأمر بالنفير والأمر بالجهاد . " خير لكم " أي : خير عظيم في نفسه ، وخير من السكون والدعة ، إن كنتم تعلمون ذلك وتعرفون الأشياء الفاضلة وتميزونها عن المفضولة . والجهاد من آكد الفرائض وأعظمها
قوله : لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك .
قال : لو كان المدعو إليه ، فحذف لدلالة ما تقدم عليه ، والعرض : ما يعرض من منافع الدنيا . الزجاج
والمعنى : غنيمة قريبة غير بعيدة وسفرا قاصدا عطف على ما قبله : أي : سفرا متوسطا بين القرب والبعد ، وكل متوسط بين الإفراط والتفريط فهو قاصد ولكن بعدت عليهم الشقة .
قال أبو عبيدة وغيره : إن الشقة السفر إلى أرض بعيدة ، يقال منه شقة شاقة .
قال الجوهري : الشقة بالضم من الثياب ، والشقة أيضا : السفر البعيد ، وربما قالوه بالكسر ، والمراد بهذا غزوة تبوك فإنها كانت سفرة بعيدة شاقة .
وقرأ عيسى بن عمر : " بعدت عليهم الشقة " بكسر العين والشين . " وسيحلفون بالله " أي : المتخلفون عن غزوة تبوك حال كونكم قائلين لو استطعنا لخرجنا معكم أي : لو قدرنا على الخروج ووجدنا ما نحتاج إليه فيه مما لا بد منه لخرجنا معكم . هذه الجملة سادة مسد جواب القسم والشرط .
قوله : يهلكون أنفسهم هو بدل من قوله : سيحلفون لأن من حلف كاذبا فقد أهلك نفسه . أو يكون حالا ، أي : مهلكين أنفسهم موقعين لها موقع الهلاك والله يعلم إنهم لكاذبون في حلفهم الذي سيحلفون به لكم .
وقد أخرج ، سعيد بن منصور ، وابن جرير وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن مجاهد في قوله : ياأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا الآية ، قال هذا حين أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح ، وحين أمرهم بالنفير في الصيف ، وحين خرفت النخل وطابت الثمار واشتهوا الظلال وشق عليهم المخرج ، فأنزل الله : انفروا خفافا وثقالا .
[ ص: 574 ] وأخرج أبو داود ، ، وابن جرير وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن في قوله : ابن عباس إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما قال : . إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استنفر حيا من أحياء العرب فتثاقلوا عنه ، فأنزل الله هذه الآية فأمسك عنهم المطر فكان ذلك عذابهم
وأخرج ، عن ابن أبي حاتم عكرمة قال : لما نزلت : إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما وقد كان تخلف عنه أناس في البدو يفقهون قومهم ، فقال المؤمنون : قد بقي ناس في البوادي وقالوا هلك أصحاب البوادي ، فنزلت : وما كان المؤمنون لينفروا كافة ( التوبة : 122 ) .
وأخرج أبو داود ، ، وابن أبي حاتم والنحاس ، ، والبيهقي في سننه ، عن في قوله : ابن عباس إلا تنفروا الآية ، قال : نسختها وما كان المؤمنون لينفروا كافة ( التوبة : 122 ) .
وأخرج ، ابن أبي شيبة وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن مجاهد في قوله : إلا تنصروه فقد نصره الله قال : ذكر ما كان من أول شأنه حين بعث ، يقول : فأنا فاعل ذلك به ، وناصره كما نصرته إذ ذاك وهو ثاني اثنين .
وأخرج أبو نعيم ، والبيهقي في الدلائل ، عن ، ابن شهاب وعروة : ثور ، الجبل الذي فيه الغار ، والذي فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى طلعوا فوقه ، وسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر أصواتهم ، فأشفق أبو بكر وأقبل عليه الهم والخوف ، فعند ذلك يقول له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تحزن إن الله معنا ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت عليه السكينة من الله فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ، الآية . أنهم ركبوا في كل وجه ، يعني المشركين يطلبون النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعثوا إلى أهل المياه يأمرونهم ويجعلون لهم الحمل العظيم ، وأتوا على
وأخرج ابن شاهين ، وابن مردويه ، ، عن وابن عساكر حبشي بن جنادة قال : أبو بكر : يا رسول الله لو أن أحدا من المشركين رفع قدمه لأبصرنا ، فقال : يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا . قال
وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، عن في قوله : الزهري إذ هما في الغار قال : هو الغار الذي في الجبل الذي يسمى ثورا .
وأخرج ، ابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل في تاريخه ، عن وابن عساكر ، في قوله : ابن عباس فأنزل الله سكينته عليه قال : على أبي بكر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تزل معه السكينة .
وأخرج ابن مردويه ، ، عن أنس قال : وأبو بكر غار حراء ، فقال أبو بكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - : لو أن أحدهم يبصر موضع قدمه لأبصرني وإياك ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : ما ظنك باثنين الله ثالثهما يا أبا بكر ؟ إن الله أنزل سكينته عليك وأيدني بجنود لم يروها . دخل النبي - صلى الله عليه وسلم -
وأخرج الخطيب في تاريخه ، عن حبيب بن أبي ثابت فأنزل الله سكينته عليه قال : على أبي بكر ، فأما النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد كانت عليه السكينة .
وأخرج ابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم والبيهقي ، عن في قوله : ابن عباس وجعل كلمة الذين كفروا السفلى قال : هي الشرك بالله وكلمة الله هي العليا قال : لا إله إلا الله .
وأخرج ، الفريابي وأبو الشيخ ، عن أبي الضحى قال : أول ما أنزل من " براءة " انفروا خفافا وثقالا ثم نزل أولها وآخرها .
وأخرج ، ابن أبي شيبة وابن المنذر ، عن أبي مالك نحوه .
وأخرج ، عن ابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس خفافا وثقالا قال : نشاطا وغير نشاط .
وأخرج ، ابن أبي شيبة وابن المنذر ، ، عن وابن أبي حاتم الحكم في الآية قال : مشاغيل وغير مشاغيل .
وأخرج ، ابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن الحسن قال : في العسر واليسر .
وأخرج ابن المنذر ، عن قال : فتيانا وكهولا . زيد بن أسلم
وأخرج ، ابن أبي شيبة وابن المنذر ، عن عكرمة قال : شبابا وشيوخا .
أخرج ، ابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن مجاهد قال : قالوا إن فينا الثقيل ، وذا الحاجة والضيعة والشغل ، فأنزل الله : انفروا خفافا وثقالا وأبى أن يعذرهم دون أن ينفروا خفافا وثقالا ، وعلى ما كان منهم .
وأخرج ، ابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن قال : جاء رجل زعموا أنه السدي المقداد ، وكان عظيما سمينا ، فشكا إليه وسأله أن يأذن له فأبى ، فنزلت : انفروا خفافا وثقالا فلما نزلت هذه الآية اشتد على الناس شأنها فنسخها الله ، فقال : ليس على الضعفاء ولا على المرضى ( التوبة : 91 ) الآية .
وأخرج ، عن ابن جرير قال : ابن عباس ، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قيل له : ألا تغزو بني الأصفر لعلك أن تصيب ابنة عظيم الروم ؟ فقال رجلان : قد علمت يا رسول الله أن النساء فتنة فلا تفتنا بهن فأذن لنا ، فأذن لهما ، فلما انطلقنا قال أحدهما : إن هو إلا شحمة لأول آكل ، فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم ينزل عليه شيء في ذلك ، فلما كان بعض الطريق نزل عليه وهو على بعض المناة لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ونزل عليه : عفا الله عنك لم أذنت لهم ( التوبة : 43 ) ونزل عليه : إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ( التوبة : 45 ) ونزل عليه : إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون ( التوبة : 95 ) .
وأخرج ، ابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن : ابن عباس لو كان عرضا قريبا قال : غنيمة قريبة ، ولكن بعدت عليهم الشقة قال : المسير .
وأخرج ، عبد بن حميد وابن المنذر ، عن قتادة في قوله : والله يعلم إنهم لكاذبون قال : لقد كانوا يستطيعون الخروج ولكن كان تبطئة من عند أنفسهم وزهادة في الجهاد .