قوله : فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين أي فلما جاء فرعون وملأه الحق من عند الله وهو المعجزات لم يؤمنوا بها بل حملوها على السحر مكابرة منهم .
فرد عليهم موسى قائلا : أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا قيل : في الكلام حذف ، والتقدير : أتقولون للحق سحر فلا تقولوا ذلك ، ثم استأنف إنكارا آخر من جهة نفسه فقال : أسحر هذا فحذف قولهم الأول اكتفاء بالثاني ، والملجئ إلى هذا أنهم لم يستفهموه عن السحر حتى يحكي ما قالوه بقوله : أسحر هذا بل هم قاطعون بأنه سحر ، لأنهم قالوا إن هذا لسحر مبين فحينئذ لا يكون قوله : أسحر هذا من قولهم ، وقال الأخفش : هو من قولهم . وفيه نظر لما قدمنا ، وقيل : معنى أتقولون أتعيبون الحق وتطعنون فيه وكان عليكم أن [ ص: 637 ] تذعنوا له ، ثم قال : أسحر هذا ؟ ! منكرا لما قالوه ، وقيل : إن مفعول أتقولون محذوف ، وهو ما دل عليه قولهم : إن هذا لسحر والتقدير : أتقولون ما تقولون ، يعني قولهم إن هذا لسحر مبين ثم قيل : أسحر هذا ، وعلى هذا التقدير والتقدير الأول فتكون جملة أسحر هذا مستأنفة من جهة موسى عليه السلام ، والاستفهام للتقريع والتوبيخ بعد الجملة الأولى المستأنفة الواقعة جواب سؤال مقدر كأنه قيل : ماذا قال لهم موسى لما قالوا إن هذا لسحر مبين فقيل : قال أتقولون للحق لما جاءكم ، على طريقة الاستفهام الإنكاري ، والمعنى : أتقولون للحق لما جاءكم إن هذا لسحر مبين ، وهو أبعد شيء من السحر .
ثم أنكر عليهم وقرعهم ووبخهم فقال : أسحر هذا فجاء موسى عليه السلام بإنكار بعد إنكار ، وتوبيخ بعد توبيخ ، وتجهيل بعد تجهيل ، وجملة ولا يفلح الساحرون في محل نصب على الحال : أي أتقولون للحق إنه سحر ، والحال أنه لا يفلح الساحرون فلا يظفرون بمطلوب ولا يفوزون بخير ولا ينجون من مكروه ، فكيف يقع في هذا من هو مرسل من عند الله ، وقد أيده بالمعجزات والبراهين الواضحة ؟ وجملة قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل : فماذا قالوا بعد أن قال لهم موسى ما قال ؟ وفي هذا ما يدل على أنهم انقطعوا عن الدليل وعجزوا عن إبراز الحجة ، ولم يجحدوا ما يجيبون به عما أورده عليهم ، بل لجئوا إلى ما يلجأ إليه أهل الجهل والبلادة ، وهو الاحتجاج بما كان عليهم آباؤهم من الكفر ، وضموا إلى ذلك ما هو غرضهم وغاية مطلبهم وسبب مكابرتهم للحق ، وجحودهم للآيات البينة ، وهو الرياسة الدنيوية التي خافوا عليها وظنوا أنها ستذهب عنهم إن آمنوا ، وكم بقي على الباطل وهو يعلم أنه باطل بهذه الذريعة من طوائف هذا العالم في سابق الدهر ولاحقه ، فمنهم من حبسه ذلك عن الخروج من الكفر ، ومنهم من حبسه عن الخروج إلى السنة من البدعة ، وإلى الرواية الصحيحة من الرأي البحت ، يقال لفته لفتا : إذا صرفه عن الشيء ولواه عنه ، ومنه قال الشاعر :
تلفت نحو الحي حتى وجدتني وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا
أي تريد أن تصرفنا عن الشيء الذي وجدنا عليه آباءنا ، وهو عبادة الأصنام ، والمراد بالكبرياء الملك .قال : سمي الملك كبرياء ; لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا ، وقيل : سمي بذلك لأن الملك يتكبر . الزجاج
والحاصل أنهم عللوا عدم قبولهم دعوة موسى بأمرين : التمسك بالتقليد للآباء ، والحرص على الرياسة الدنيوية ، لأنهم إذا أجابوا النبي وصدقوه صارت مقاليد أمر أمته إليه ولم يبق للملك رئاسة تامة ، لأن التدبير للناس بالدين يرفع تدبير الملوك لهم بالسياسات والعادات ، ثم قالوا : وما نحن لكما بمؤمنين تصريحا منهم بالتكذيب وقطعا للطمع في إيمانهم ، وقد أفرد الخطاب لموسى في قولهم : أجئتنا لتلفتنا ، ثم جمعوا بينه وبين هارون في الخطاب في قولهم : وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين ووجه ذلك أنهم أسندوا المجيء والصرف عن طريق آبائهم إلى موسى ، لكونه المقصود بالرسالة ، المبلغ عن الله ما شرعه لهم ، وجمعوا بينهما في الضميرين الآخرين ، لأن الكبرياء شامل لهما في زعمهم ، ولكون ترك الإيمان بموسى يستلزم ترك الإيمان بهارون ، وقد مرت القصة في الأعراف .
قوله : وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم قال : هكذا لما رأى اليد البيضاء والعصا ، لأنه اعتقد أنهما من السحر ، فأمر قومه بأن يأتوه بكل ساحر عليم ، هكذا قرأ حمزة والكسائي وابن وثاب " سحار " . والأعمش
وقرأ الباقون ساحر وقد تقدم الكلام على هذا في الأعراف .
والسحار صيغة مبالغة : أي كثير السحر كثير العلم بعمله وأنواعه .
فلما جاء السحرة في الكلام حذف ، والتقدير هكذا : وقال فرعون ائتوني بكل سحار عليم فأتوا بهم إليه ، فلما جاء السحرة ، فتكون الفاء للعطف على المقدر المحذوف .
قوله : قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون أي قال لهم هذه المقالة بعد أن قالوا له : إما أن تلقي ، وإما أن نكون نحن الملقين : أي اطرحوا على الأرض ما معكم من حبالكم وعصيكم .
فلما ألقوا ما ألقوه من ذلك قال لهم موسى ما جئتم به السحر أي الذي جئتم به السحر على أن ما موصولة مبتدأ والخبر السحر ، والمعنى أنه سحر ، لا أنه آية من آيات الله .
وأجاز الفراء نصب السحر بـ ( جئتم ) ، وتكون ( ما ) شرطية ، والشرط ( جئتم ) ، والجزاء ( إن الله سيبطله ) على تقدير الفاء : أي فإن الله سيبطله ، وقيل : إن السحر منتصب على المصدر : أي ما جئتم به سحرا ، ثم دخلت الألف واللام فلا يحتاج على هذا إلى حذف الفاء ، واختاره النحاس .
وقال : حذف الفاء في المجازاة لا يجيزه كثير من النحويين إلا في ضرورة الشعر .
وقرأ أبو عمرو وأبو جعفر " آلسحر " على أن الهمزة للاستفهام ، والتقدير : أهو السحر فتكون ما على هذه القراءة استفهامية .
وقرأ أبي " ما أتيتم به سحر إن الله سيبطله " أي سيمحقه فيصير باطلا بما يظهره على يدي من الآيات المعجزة إن الله لا يصلح عمل المفسدين أي عمل هذا الجنس ، فيشمل كل من يصدق عليه أنه مفسد ويدخل فيه السحر والسحرة دخولا أوليا .
والواو في ويحق الله الحق للعطف على سيبطله : أي يبينه ويوضحه بكلماته التي أنزلها في كتبه على أنبيائه لاشتمالها على الحجج والبراهين ولو كره المجرمون من آل فرعون أو المجرمون على العموم ويدخل تحتهم آل فرعون دخولا أوليا ، والإجرام الآثام .
قوله : فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه الضمير يرجع إلى موسى أي : من قوم موسى ، وهم طائفة من ذراري بني إسرائيل ، وقيل : المراد طائفة من ذراري فرعون فيكون الضمير عائدا على فرعون ، قيل : ومنهم مؤمن آل فرعون وامرأته وماشطة ابنته وامرأة خازنه ، وقيل : هم قوم آباؤهم [ ص: 638 ] من القبط وأمهاتهم من بني إسرائيل ، روي هذا عن الفراء على خوف من فرعون وملئهم الضمير لفرعون ، وجمع لأنه لما كان جبارا جمعوا ضميره تعظيما له ، وقيل : إن قوم فرعون سموا بفرعون مثل ثمود ، فرجع الضمير إليهم بهذا الاعتبار ، وقيل : إنه عائد على مضاف محذوف ، والتقدير : على خوف من آل فرعون ، وروي هذا عن الفراء .
ومنع ذلك الخليل ، فلا يجوز عندهما قامت هند وأنت تريد غلامها . وسيبويه
وروي عن الأخفش أن الضمير يعود على الذرية ، وقواه النحاس أن يفتنهم أي يصرفهم عن دينهم بالعذاب الذي كان ينزله بهم ، وهو بدل اشتمال .
ويجوز أن يكون في موضع نصب بالمصدر وإن فرعون لعال في الأرض أي عات متكبر متغلب على أرض مصر وإنه لمن المسرفين المجاوزين للحد في الكفر وما يفعله من القتل والصلب وتنويع العقوبات .
قوله : وقال موسى ياقوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين قيل : إن هذا من باب التكرير للشرط ، فشرط في التوكل على الله الإيمان به والإسلام أي : الاستسلام لقضائه وقدره ، وقيل : إن هذا ليس من تعليق الحكم بشرطين بل المعلق بالإيمان هو وجوب التوكل ، والمشروط بالإسلام وجوده ، والمعنى : أن يسلموا أنفسهم لله أي : يجعلوها له سالمة خالصة لا حظ للشيطان فيها لأن التوكل لا يكون مع التخليط .
قال في الكشاف : ونظيره في الكلام : إن ضربك زيد فاضربه إن كانت لك به قوة .
فقالوا أي قوم موسى مجيبين له على الله توكلنا ثم دعوا الله مخلصين فقالوا : ربنا لا تجعلنا فتنة أي موضع فتنة للقوم الظالمين والمعنى : لا تسلطهم علينا فيعذبونا حتى يفتنونا عن ديننا ، ولا تجعلنا فتنة لهم يفتنون بنا غيرنا فيقولون لهم : لو كان هؤلاء على حق لما سلطنا عليهم وعذبناهم ، وعلى المعنى الأول تكون الفتنة بمعنى المفتون .
ولما قدموا التضرع إلى الله سبحانه في أن يصون دينهم عن الفساد أتبعوه بسؤال عصمة أنفسهم فقالوا : ونجنا برحمتك من القوم الكافرين وفي هذا دليل على أنه كان لهم اهتمام بأمر الدين فوق اهتمامهم بسلامة أنفسهم .
قوله : وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا ( أن ) هي المفسرة لأن في الإيحاء معنى أن تبوآ أي : اتخذا لقومكما بمصر بيوتا ، يقال : بوأت زيدا مكانا وبوأت لزيد مكانا ، والمبوأ : المنزل الملزوم ، ومنه بوأه الله منزلا أي : ألزمه إياه وأسكنه فيه ، ومنه الحديث : ومنه قول الراجز : من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار
نحن بنو عدنان ليس شك تبوأ المجد بنا والملك
وقد أخرج عبد الرزاق ، ، وابن جرير وابن المنذر ، ، عن وابن أبي حاتم قتادة ، في قوله : لتلفتنا قال : لتلوينا .
وأخرج ، ابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن ، قال : لتصدنا عن آلهتنا . السدي
وأخرج ، ابن أبي شيبة وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن مجاهد في قوله : وتكون لكما الكبرياء في الأرض قال : العظمة والملك والسلطان .
وأخرج ، ابن جرير ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن ، في قوله : ابن عباس فما آمن لموسى إلا ذرية قال : الذرية القليل .
وأخرج هؤلاء عنه في قوله : ذرية من قومه قال : من بني إسرائيل .
وأخرج ، ابن أبي شيبة وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد قال : هم أولاد الذين أرسل إليهم موسى من طول الزمان ومات آباؤهم .
وأخرج ، عن ابن جرير ، قال : كانت الذرية التي آمنت ابن عباس لموسى من أناس غير بني إسرائيل من قوم فرعون ، منهم امرأة فرعون ومؤمن آل فرعون وخازن فرعون وامرأة خازنه .
وأخرج عبد الرزاق ، ، وسعيد بن منصور في الفتن ونعيم بن حماد وأبو الشيخ ، عن مجاهد في قوله : ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين قال : لا تسلطهم علينا فيفتنونا .
وأخرج ، ابن أبي شيبة وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عنه قال في تفسير الآية : لا تعذبنا بأيدي قوم فرعون ، ولا بعذاب من عندك ، فيقول قوم فرعون : لو كانوا على الحق ما عذبوا ولا سلطنا عليهم فيفتنون بنا .
وأخرج ، ابن أبي شيبة وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن أبي قلابة في الآية قال : سأل ربه أن لا يظهر علينا عدونا ، فيحسبون أنهم أولى بالعدل فيفتنون بذلك .
وأخرج ، ابن جرير وابن المنذر ، ، عن وابن أبي حاتم أبي مجلز نحوه .
وأخرج أبو الشيخ ، عن قتادة ، في قوله : وأوحينا إلى موسى وأخيه الآية ، قال ذلك حين منعهم فرعون الصلاة ، فأمروا أن يجعلوا مساجدهم [ ص: 639 ] في بيوتهم وأن يوجهوها نحو القبلة .
وأخرج ، ابن أبي شيبة ، وابن جرير وابن المنذر ، ، عن وابن أبي حاتم مجاهد في قوله : أن تبوآ لقومكما بمصر قال : مصر الإسكندرية .
وأخرج ، سعيد بن منصور وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن مجاهد في الآية قال : كانوا لا يصلون إلا في البيع حتى خافوا من آل فرعون ، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم .
وأخرج ، الفريابي ، وابن جرير وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن ، في الآية قال : أمروا أن يتخذوا في بيوتهم مساجد . ابن عباس
وأخرج أبو الشيخ ، عن أبي سنان قال : القبلة : الكعبة ، وذكر أن آدم فمن بعده كانوا يصلون قبل الكعبة .
وأخرج ، عن ابن أبي حاتم ، في قوله : ابن عباس واجعلوا بيوتكم قبلة قال : يقابل بعضها بعضا .