معنى : بدا لهم ظهر لهم ، والضمير للعزيز وأصحابه الذين يدبرون الأمر معه ويشيرون عليه ، وأما فاعل بدا لهم فقال هو ليسجننه : أي ظهر لهم أن يسجنوه . سيبويه
قال : وهذا غلط لأن الفاعل لا يكون جملة ، ولكن الفاعل ما دل عليه بدا وهو المصدر كما قال الشاعر : المبرد
وحق لمن أبو موسى أبوه يوفقه الذي نصب الجبالا
أي وحق الحق فحذف الفاعل لدلالة الفعل عليه : وقيل الفاعل المحذوف هو رأى : أي وظهر لهم رأي لم يكونوا يعرفونه من قبل ، وهذا الفاعل حذف لدلالة ليسجننه عليه ، واللام في ليسجننه جواب قسم محذوف على تقدير القول : أي ظهر لهم من بعد ما رأوا الآيات قائلين والله ليسجننه .وقرئ لتسجننه بالمثناة الفوقية على الخطاب ، إما للعزيز ومن معه ، أو له وحده على طريق التعظيم ، والآيات قيل هي القميص وشهادة الشاهد وقطع الأيدي ، وقيل هي يوسف إليهم ولم يجد ذلك فيهم بل كانت امرأته هي الغالبة على رأيه الفاعلة لما يطابق هواها في البركات التي فتحها الله عليهم بعد وصول يوسف ، وإنفاذ ما تقدم منها من الوعيد له بقولها ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين [ يوسف 32 ] قيل وسبب ظهور هذا الرأي لهم في يوسف أنهم أرادوا ستر القالة وكتم ما شاع في الناس من قصة سجن امرأة العزيز معه ، وقيل إن العزيز قصد بسجنه الحيلولة بينه وبين امرأته لما علم أنها قد صارت بمكان من حبه لا تبالي معه بحمل نفسها عليه على أي صفة كانت ، ومعنى قوله حتى حين إلى مدة غير معلومة كما قال أكثر المفسرين ، وقيل إلى انقطاع ما شاع في المدينة .
وقال : إلى سبع سنين ، وقيل إلى خمس ، وقيل إلى ستة أشهر ، وقد تقدم في البقرة الكلام في تفسير الحين ، وحتى بمعنى إلى . سعيد بن جبير
ودخل معه السجن فتيان في الكلام حذف متقدم عليه ، والتقدير : وبدا لهم من بعد ما رأو الآيات ليسجننه حتى حين فسجنوه ، ودخل معه السجن فتيان ، ومع للمصاحبة ، وفتيان تثنية فتى ، وذلك يدل على أنهما عبدان له ، ويحتمل أن يكون الفتى اسما للخادم وإن لم يكن مملوكا ، وقد قيل إن أحدهما خباز الملك ، والآخر ساقيه ، وقد كانا وضعا للملك سما لما ضمن لهما قوله : أهل مصر مالا في مقابلة ذلك ، ثم إن الساقي رجع عن ذلك وقال للملك : لا تأكل الطعام فإنه مسموم ، وقال الخباز : لا تشرب فإن الشراب مسموم ، فقال الملك للساقي : اشرب فشرب فلم يضره ، وقال للخباز كل فأبى ، فجرب الطعام على حيوان فهلك مكانه فحبسهما ، وكان دخولهما السجن مع دخول يوسف ، وقيل قبله ، وقيل بعده .
قال : إنهما سألا ابن جرير يوسف عن علمه فقال : إني أعبر الرؤيا ، فسألاه عن رؤياهما كما قص الله سبحانه قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا أي رأيتني ، والتعبير بالمضارع لاستحضار الصورة .
والمعنى : إني أراني أعصر عنبا ، فسماه باسم ما يئول إليه لكونه المقصود من العصر .
وفي قراءة : أعصر عنبا ، قال ابن مسعود : أخبرني الأصمعي أنه لقي أعرابيا ومعه عنب ، فقال له : ما معك ؟ فقال خمر . المعتمر بن سليمان
وقيل معنى أعصر خمرا .
أي عنب خمر ، فهو على حذف المضاف ، وهذا الذي رأى هذه الرؤيا هو الساقي ، وهذه الجملة مستأنفة بتقدير سؤال ، وكذلك الجملة التي بعدها وهي وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا ثم وصف الخبز هذا بقوله : تأكل الطير منه وهذا الرائي لهذه الرؤيا هو الخباز ، ثم قالا ليوسف جميعا بعد أن قصا رؤياهما عليه نبئنا بتأويله أي بتأويل ما قصصناه عليك من مجموع المرئيين ، أو بتأويل المذكور لك من كلامنا ، وقيل إن كل واحد منهما قال له ذلك عقب قص رؤياه عليه ، فيكون الضمير راجعا إلى ما رآه كل واحد منهما ، وقيل إن الضمير في بتأويله موضوع موضع اسم الإشارة ، والتقدير بتأويل ذلك إنا نراك من المحسنين [ ص: 696 ] أي من وكذا قال الذين يحسنون عبارة الرؤيا الفراء : إن معنى من المحسنين من العالمين الذين أحسنوا العلم .
وقال : من المحسنين إلينا إن فسرت ذلك ، أو من المحسنين إلى أهل السجن ، فقد روي أنه كان كذلك . ابن إسحاق
وجملة قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما مستأنفة جواب سؤال مقدر ، ومعنى ذلك أنه يعلم شيئا من الغيب ، وأنه لا يأتيهما إلى السجن طعام إلا أخبرهما بماهيته قبل أن يأتيهما ، وهذا ليس من جواب سؤالهما تعبير ما قصاه عليه ، بل جعله عليه السلام مقدمة قبل تعبيره لرؤياهما بيانا لعلو مرتبته في العلم ، وأنه ليس من المعبرين الذين يعبرون الرؤيا عن ظن وتخمين ، فهو كقول عيسى عليه السلام وأنبئكم بما تأكلون [ آل عمران 49 ] وإنما قال يوسف عليه السلام لهما بهذا ليحصل الانقياد منها له فيما يدعوهما إليه بعد ذلك من الإيمان بالله والخروج من الكفر ، ومعنى ترزقانه : يجري عليهما من جهة الملك أو غيره ، والجملة صفة لطعام ، أو يرزقكما الله سبحانه ، والاستثناء بقوله : إلا نبأتكما بتأويله مفرغ من أعم الأحوال : أي لا يأتيكما طعام في حال من الأحوال إلا حال ما نبأتكما أي : بينت لكما ماهيته وكيفيته قبل أن يأتيكما ، وسماه تأويلا بطريق المشاكلة ، لأن الكلام في تأويل الرؤيا ، أو المعنى : إلا نبأتكما بما يئول إليه الكلام من مطابقة ما أخبركما به للواقع ، والإشارة بقوله : ذلكما إلى التأويل ، والخطاب للسائلين له عن تعبير رؤياهما مما علمني ربي بما أوحاه إلي وألهمني إياه لا من قبيل الكهانة والتنجيم ونحو ذلك مما يكثر فيه الخطأ ، ثم بين لهما أن ذلك الذي ناله من هذه الرتبة العلية والعلوم الجمة هو بسبب ترك الملة التي لا يؤمن أهلها بالله ولا بالآخرة واتباعه لملة الأنبياء من آبائه فقال : إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهو كلام مستأنف يتضمن التعليل لما قبله ، والمراد بالترك هو عدم التلبس بذلك من الأصل ، لا أنه قد كان تلبس به ، ثم تركه كما يدل عليه قوله : ما كان لنا أن نشرك بالله ثم وصف هؤلاء القوم بما يدل على تصلبهم في الكفر وتهالكهم عليه .
فقال وهم بالآخرة هم كافرون أي هم مختصون بذلك دون غيرهم لإفراطهم في الكفر بالله .
وقوله : واتبعت معطوف على تركت ، وسماهم آباء جميعا لأن الأجداد آباء ، وقدم الجد الأعلى ، ثم الجد الأقرب ثم الأب لكون إبراهيم هو أصل هذه الملة التي كان عليها أولاده ثم تلقاها عنه إسحاق ثم يعقوب ، وهذا منه عليه السلام لترغيب صاحبيه في الإيمان بالله ما كان لنا أن نشرك بالله أي ما صح لنا ذلك فضلا عن وقوعه ، والضمير في لنا له وللأنبياء المذكورين ، والإشارة بقوله : ذلك إلى الإيمان المفهوم من قوله ما كان لنا أن نشرك بالله ، و من فضل الله علينا خبر اسم الإشارة : أي ناشئ من تفضلات الله علينا ولطفه بنا بما جعله لنا من النبوة المتضمنة للعصمة عن معاصيه ، ومن وهدايتهم إلى ربهم وتبيين طرائق الحق لهم فضل الله على الناس كافة ببعثة الأنبياء إليهم ولكن أكثر الناس لا يشكرون الله سبحانه على نعمه التي أنعم بها عليهم فيؤمنون به ويوحدونه ويعملون بما شرعه لهم .
ياصاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار جعلهما مصاحبين للسجن لطول مقامهما فيه ، وقيل المراد : يا صاحبي في السجن ، لأن السجن ليس بمصحوب بل مصحوب فيه ، وأن ذلك من باب يا سارق الليلة . قوله :
وعلى الأول يكون من باب قوله : أصحاب الجنة أصحاب النار [ الأعراف 44 ] والاستفهام للإنكار مع التقريع والتوبيخ ، ومعنى التفرق هنا هو التفرق في الذوات والصفات والعدد : أي هل الأرباب المتفرقون في ذواتهم المختلفون في صفاتهم المتنافون في عددهم خير لكما يا صاحبي السجن ، أم الله المعبود بحق المتفرد في ذاته وصفاته الذي لا ضد له ولا ند ولا شريك ، القهار الذي لا يغالبه مغالب ولا يعانده معاند ؟ أورد يوسف عليه السلام على صاحبي السجن هذه الحجة القاهرة على طريق الاستفهام ، لأنهما كانا ممن يعبد الأصنام ، وقد قيل إنه كان بين أيديهما أصنام يعبدونها عند أن خاطبهما بهذا الخطاب .
ولهذا قال لهما ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أي إلا أسماء فارغة سميتموها ولا مسميات لها ، وإن كنتم تزعمون أن لها مسميات ، وهي الآلهة التي تعبدونها ، لكنها لما كانت لا تستحق التسمية بذلك صارت الأسماء كأنها لا مسميات لها ، وقيل المعنى : ما تعبدون من دون الله إلا مسميات أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم من تلقاء أنفسكم ، وليس لها من الإلهية شيء إلا مجرد الأسماء لكونها جمادات لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر ، وإنما قال : ما تعبدون على خطاب الجمع وكذلك ما بعده من الضمائر ، لأنه قصد خطاب صاحبي السجن ومن كان على دينهم ، ومفعول سميتموها الثاني محذوف : أي سميتموها آلهة من عند أنفسكم ما أنزل الله بها أي بتلك التسمية من سلطان من حجة تدل على صحتها إن الحكم إلا لله أي ما الحكم إلا لله في العبادة ، فهو الذي خلقكم وخلق هذه الأصنام التي جعلتموها معبودة بدون حجة ولا برهان ، وجملة أمر أن لا تعبدوا إلا إياه مستأنفة ، والمعنى : أنه أمركم بتخصيصه بالعبادة دون غيره مما تزعمون أنه معبود ، ثم بين لهم أن عبادته وحده دون غيره هي دين الله الذي لا دين غيره فقال : ذلك أي تخصيصه بالعبادة الدين القيم أي المستقيم الثابت ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن ذلك هو دينه القويم ، وصراطه المستقيم ، لجهلكم وبعدكم عن الحقائق .
وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة قال : سألت عن قوله : ابن عباس ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات فقال : ما سألني عنها أحد قبلك ، من الآيات قد القميص وأثرها في جسده ، وأثر السكين ، وقالت امرأة [ ص: 697 ] العزيز : إن أنت لم تسجنه ليصدقنه الناس .
وأخرج أبو الشيخ عن ابن زيد قال : من الآيات كلام الصبي .
وأخرج عن ابن جرير قتادة قال : الآيات حزهن أيديهن وقد القميص .
وأقول : إن كان المراد بالآيات : الآيات الدالة على براءته فلا يصح عد قطع أيدي النسوة منها ، لأنه وقع منهن ذلك لما حصل لهن من الدهشة عند ظهوره لهن مع ما ألبسه الله سبحانه من الجمال الذي تنقطع عند مشاهدته عرى الصبر وتضعف عند رؤيته قوى التجلد ، وإن كان المراد بالآيات الدالة على أنه قد أعطي من الحسن ما يسلب عقول المبصرين ، ويذهب بإدراك الناظرين ، فنعم يصح عد قطع الأيدي من جملة الآيات ، ولكن ليس هذه الآيات هي المرادة هنا .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه عن قال : ابن عباس يوسف ثلاث مرات : أما أول مرة فبالحبس لما كان من همه بها ، والثانية لقوله : عوقب اذكرني عند ربك فلبث في السجن بضع سنين [ يوسف 76 ] عوقب بطول الحبس ، والثالثة حيث قال : أيتها العير إنكم لسارقون يوسف 76 70 فاستقبل في وجهه إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل يوسف 77 .
وأخرج عن ابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس ودخل معه السجن فتيان قال : أحدهما خازن الملك على طعامه ، والآخر ساقيه على شرابه .
وأخرج عنه في قوله : ابن جرير إني أراني أعصر خمرا قال : عنبا .
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد نبئنا بتأويله قال : عبارته .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : إنا نراك من المحسنين قال : كان إحسانه فيما ذكر لنا أنه كان يعزي حزينهم ويداوي مريضهم ، ورأو منه عبادة واجتهادا فأحبوه .
وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الشعب عن الضحاك قال : كان إحسانه أنه إذا مرض إنسان في السجن قام عليه .
وإذا ضاق عليه المكان أوسع له ، وإذا احتاج جمع له .
وأخرج أبو الشيخ عن قال : دعا ابن عباس يوسف لأهل السجن فقال : اللهم لا تعم عليهم الأخبار وهون عليهم مر الأيام .
وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم في قوله : ابن جريح لا يأتيكما طعام الآية قال : كره العبارة لهما فأجابهما بغير جوابهما ليريهما أن عنده علما ، وكان الملك إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاما معلوما فأرسل به إليه ، فقال يوسف لا يأتيكما طعام ترزقانه إلى قوله : يشكرون ، فلم يدعه صاحبا الرؤيا حتى يعبر لهما ، فكره العبارة فقال : ياصاحبي السجن أأرباب متفرقون إلى قوله : ولكن أكثر الناس لا يعلمون قال : فلم يدعاه ، فعبر لهما .
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس قال : إن المؤمن ليشكر ما به من نعمة الله ، ويشكر ما بالناس من نعم الله ، ذكر لنا أن كان يقول : يا رب شاكر نعمة غير منعم عليه لا يدري ، ويا رب حامل فقه غير فقيه . أبا الدرداء
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : أأرباب متفرقون الآية قال : لما عرف يوسف أن أحدهما مقتول دعاهما إلى حظهما من ربهما وإلى نصيبهما من آخرتهما .
وأخرج أبو الشيخ عن في قوله : ابن جريج ذلك الدين القيم قال : العدل .
فقال :