قوله : فلما دخلوا على يوسف لعل في الكلام محذوفا مقدرا ، وهو فرحل يعقوب وأولاده وأهله إلى مصر فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه ، أي : ضمهما وأنزلهما عنده .
قال المفسرون : المراد بالأبوين هنا يعقوب وزوجته خالة يوسف ، لأن أمه قد كانت ماتت في ولادتها لأخيه بنيامين كما تقدم ، وقيل : أحيا الله له أمه تحقيقا للرؤيا حتى سجدت له وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين مما تكرهون ، وقد كانوا فيما مضى يخافون ملوك مصر ، ولا يدخلونها إلا بجواز منهم .
قيل : والتقييد بالمشيئة عائد إلى الأمن ، ولا مانع من عوده إلى الجميع ، لأن دخولهم لا يكون إلا بمشيئة الله سبحانه ، كما أنهم لا يكونون آمنين إلا بمشيئته ، وقيل : إن التقييد بالمشيئة راجع إلى قوله : سوف أستغفر لكم ربي [ يوسف : 98 ] وهو بعيد .
وظاهر النظم القرآني : أن يوسف قال لهم هذه المقالة : أي ادخلوا مصر قبل دخولهم ، وقد قيل في توجيه ذلك أنه تلقاهم إلى خارج مصر ، فوقف منتظرا لهم في مكان أو خيمة ، فدخلوا عليه ف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر فلما دخلوا مصر ودخلوا عليه دخولا آخر في المكان الذي له بمصر .
ورفع أبويه على العرش أي أجلسهما معه على السرير الذي يجلس عليه كما هو عادة الملوك وخروا له سجدا أي الأبوان والإخوة ، والمعنى : أنهم خروا ليوسف سجدا ، وكان ذلك جائزا في شريعتهم منزلا منزلة التحية ، وقيل : لم يكن ذلك سجودا بل هو مجرد إيماء ، وكانت تلك تحيتهم ، وهو يخالف معنى : وخروا له سجدا ، فإن الخرور في اللغة المقيد بالسجود لا يكون إلا بوضع الوجه على الأرض ، وقيل : الضمير في قوله له راجع إلى الله سبحانه أي وخروا لله سجدا ، وهو بعيد جدا ، وقيل : إن الضمير ليوسف ، واللام للتعليل ، أي : وخروا لأجله ، وفيه أيضا بعد وقال يوسف ياأبت هذا تأويل رؤياي يعني التي تقدم ذكرها من قبل أي من قبل هذا الوقت قد جعلها ربي حقا بوقوع تأويلها على ما دلت عليه [ ص: 715 ] وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن الأصل أن يتعدى فعل الإحسان بإلى ، وقد يتعدى بالباء كما في قوله تعالى : وبالوالدين إحسانا [ البقرة : 83 ] [ الإسراء : 23 ] ، وقيل : إنه ضمن أحسن معنى لطف أي لطف بي محسنا ، ولم يذكر إخراجه من الجب ، لأن في ذكره نوع تثريب للإخوة ، وقد قال : لا تثريب عليكم ، وقد تقدم سبب سجنه ومدة بقائه فيه ، وقد قيل : إن وجه عدم ذكر إخراجه من الجب أن المنة كانت في إخراجه من السجن أكبر من المنة في إخراجه من الجب ، وفيه نظر وجاء بكم من البدو أي البادية ، وهي أرض كنعان بالشام ، وكانوا أهل مواش وبرية ، وقيل : إن الله لم يبعث نبيا من البادية ، وإن المكان الذي كان فيه يعقوب يقال له بدا ، وإياه عنى جميل بقوله :
وأنت الذي حببت شعبا إلى بدا إلي وأوطاني بلاد سواهما
وفيه نظر من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي أي أفسد بيننا وحمل بعضنا على بعض ، يقال نزغه إذا نخسه ، فأصله من نخس الدابة ليقوى مشيها ، وأحال يوسف ذنب إخوته على الشيطان تكرما منه وتأدبا إن ربي لطيف لما يشاء اللطيف الرفيق ، قال الأزهري : معناه الرفيق بعباده ، يقال لطف فلان بفلان يلطف : إذا رفق به ، وقال اللطيف من أسماء الله تعالى : اللطيف الذي يوصل إليك أربك في لطف . عمرو بن أبي عمروقال الخطابي اللطيف هو البر بعباده الذي يلطف بهم من حيث لا يعلمون ، ويسبب لهم مصالحهم من حيث لا يحتسبون ، وقيل : اللطيف العالم بدقائق الأمور ، ومعنى لما يشاء : لأجل ما يشاء حتى يجيء على وجه الصواب إنه هو العليم الحكيم أي العليم بالأمور الحكيم في أفعاله .
ولما أتم الله نعمته على يوسف عليه السلام بما خلصه منه من المحن العظيمة وبما خوله من الملك وعلمه من العلم ، تاقت نفسه إلى الخير الأخروي الدائم الذي لا ينقطع .
فقال : رب قد آتيتني من الملك " من " للتبعيض ، أي : بعض الملك ، لأنه لم يؤت كل الملك ، إنما أوتي ملكا خاصا ، وهو ملك مصر في زمن خاص وعلمتني من تأويل الأحاديث أي بعضها ، لأنه لم يؤت جميع علم التأويل ، سواء أريد به مطلق العلم والفهم ، أو مجرد تأويل الرؤيا ، وقيل : " من " للجنس كما في قوله : فاجتنبوا الرجس من الأوثان [ الحج : 30 ] . وقيل : زائدة ، أي : آتيتني الملك وعلمتني تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض منتصب على أنه صفة ل " رب " ، لكونه منادى مضافا ، ويجوز أن يكون انتصابه على أنه منادى بحرف مقدر ، أي : يا فاطر ، والفاطر الخالق والمنشيء والمخترع والمبدع أنت وليي أي ناصري ومتولي أموري في الدنيا والآخرة تتولاني فيهما توفني مسلما وألحقني بالصالحين أي توفني على الإسلام لا يفارقني حتى أموت ، وألحق بالصالحين من النبيين من آبائي وغيرهم فأظفر بثوابهم منك ودرجاتهم عندك .
قيل : إنه لما دعا بهذا الدعاء توفاه الله عز وجل ، قيل : كان عمره عند أن ألقي في الجب سبع عشرة سنة ، وكان في العبودية والسجن والملك ثمانين سنة إلى قدوم أبيه يعقوب عليه ، ثم عاش بعد اجتماع شملهم حتى كمل عمره المقدار الذي سيأتي وتوفاه الله .
قيل : يوسف لا نبي ولا غيره . لم يتمن الموت أحد غير
وذهب الجمهور إلى أنه لم يتمن الموت بهذا الدعاء ، وإنما دعا ربه أن يتوفاه على الإسلام ويلحقه بالصالحين من عباده عند حضور أجله .
وقد أخرج أبو الشيخ عن قال : دخل أبي هريرة يعقوب مصر في ملك يوسف وهو ابن مائة وثلاثين سنة ، وعاش في ملكه ثلاثين سنة ، ومات يوسف وهو ابن مائة وعشرين .
قال : وبلغني أنه كان عمر أبو هريرة إبراهيم خليل الله مائة وخمسة وتسعين سنة .
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : آوى إليه أبويه قال : أبوه وأمه ضمهما .
وأخرجا عن وهب قال : وخالته ، وكانت توفيت أم يوسف في نفاس أخيه بنيامين وأخرج أبو الشيخ نحوه عن . سفيان بن عيينة
وأخرج ابن جرير عن وابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس ورفع أبويه على العرش قال : السرير ، وأخرج عن عدي بن حاتم في قوله : ابن أبي حاتم وخروا له سجدا قال : كانت تحية من كان قبلكم فأعطاكم الله السلام مكانها .
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة نحوه .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد قال : ذلك سجود تشرفة كما سجدت الملائكة تشرفة لأدم ، وليس سجود عبادة .
وأخرج أبو الشيخ عن قتادة في قوله : إن ربي لطيف لما يشاء قال : لطيف ليوسف وصنع له حين أخرجه من السجن ، وجاء بأهله من البدو ، ونزع من قلبه نزغ الشيطان وتحريشه على إخوته .
وأخرج عن ابن أبي حاتم قال : ما سأل نبي الوفاة غير ابن عباس يوسف .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عنه قال : اشتاق إلى لقاء الله وأحب أن يلحق به وبآبائه .
فدعا الله أن يتوفاه ، وأن يلحقه بهم وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك في قوله وألحقني بالصالحين قال : يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب .
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن وابن أبي حاتم عكرمة قال : يعني أهل الجنة .