قوله : ( ولقد آتينا موسى تسع آيات ) أي : علامات دالة على نبوته .
قيل : ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن المعجزات المذكورة كأنها مساوية لتلك الأمور التي اقترحها كفار قريش ، بل أقوى منها ، فليس عدم الاستجابة لما طلبوه من الآيات إلا لعدم المصلحة في استئصالهم إن لم يؤمنوا بها .
قال أكثر المفسرين : الآيات التسع : هي الطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والعصا ، واليد ، والسنين ، ونقص الثمرات .
وجعل الحسن مكان السنين ونقص الثمرات البحر والجبل .
وقال : هي الخمس التي في الأعراف . والبحر ، والعصا ، والحجر ، والطمس على أموالهم . محمد بن كعب القرظي
وقد تقدم الكلام على هذه الآيات مستوفى ، وسيأتي حديث صفوان بن عسال في تعداد هذه الآيات التسع فاسأل بني إسرائيل قرأ ابن عباس وابن نهيك ( فسأل ) على الخبر أي : سأل موسى فرعون أن يخلي بني إسرائيل ويطلق سبيلهم ويرسلهم معه ، وقرأ الآخرون ( فاسأل ) على الأمر أي : سلهم يا محمد حين ( جاءهم ) موسى ، والسؤال سؤال استشهاد لمزيد الطمأنينة والإيقان ؛ لأن الأدلة إذا تضافرت كان ذلك أقوى والمسئولون مؤمنو بني إسرائيل وأصحابه ( كعبد الله بن سلام فقال له فرعون إني لأظنك ياموسى مسحورا ) الفاء هي الفصيحة أي : فأظهر موسى عند فرعون ما آتيناه من الآيات البينات وبلغه ما أرسل به فقال له فرعون .
والمسحور : الذي سحر فخولط عقله .
وقال أبو عبيدة : هو بمعنى الساحر ، فوضع المفعول موضع الفاعل . والفراء
ف قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء يعني الآيات التي أظهرها ، وأنزل بمعنى أوجد إلا رب السماوات والأرض بصائر أي : دلالات يستدل بها على قدرته ووحدانيته ، وانتصاب ( بصائر ) على الحال .
قرأ بضم التاء من ( علمت ) على أنها الكسائي لموسى ، وروي ذلك عن علي ، وقرأ الباقون بفتحها على الخطاب لفرعون .
ووجه القراءة الأولى أن فرعون لم يعلم ذلك ، وإنما علمه موسى .
ووجه قراءة الجمهور أن فرعون كان عالما بذلك كما قال تعالى : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا [ النمل : 14 ] قال أبو عبيد : المأخوذ به عندنا فتح التاء ، وهو الأصح للمعنى ؛ لأن موسى لا يقول علمت أنا وهو الداعي ، وروي نحو هذا عن الزجاج وإني لأظنك يافرعون مثبورا الظن هنا بمعنى اليقين ، والثبور الهلاك والخسران .
قال : الكميت
ورأت قضاعة في الأيا من رأي مثبور وثابر
أي : مخسور وخاسر ، وقيل : المثبور : الملعون ، ومنه قول الشاعر :يا قومنا لا تروموا حزينا سفها إن السفاه وإن البغي مثبور
1 فأراد أن يستفزهم من الأرض أي : أراد فرعون أن يخرج بني إسرائيل وموسى ويزعجهم من الأرض ، يعني أرض مصر بإبعادهم عنها ، وقيل : أراد أن يقتلهم ، وعلى هذا يراد بالأرض مطلق الأرض ، وقد تقدم قريبا معنى الاستفزاز فأغرقناه ومن معه جميعا فوقع عليه وعليهم الهلاك بالغرق ، ولم يبق منهم أحدا .
1 وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض [ ص: 846 ] أي : من بعد إغراقه ومن معه ، والمراد بالأرض هنا : أرض مصر التي أراد أن يستفزهم منها فإذا جاء وعد الآخرة أي : الدار الآخرة وهو القيامة ، أو الكرة الآخرة ، أو الساعة الآخرة ( جئنا بكم لفيفا ) قال الجوهري : اللفيف ما اجتمع من الناس من قبائل شتى ، يقال : جاء القوم بلفهم ولفيفهم : أي : بأخلاطهم ، فالمراد هنا : جئنا بكم من قبوركم مختلطين من كل موضع ، قد اختلط المؤمن بالكافر .
قال : اللفيف جمع وليس له واحد ، وهو مثل الجمع . الأصمعي
وبالحق أنزلناه وبالحق نزل الضمير يرجع إلى القرآن ، ومعنى ( بالحق أنزلناه ) أوحيناه متلبسا بالحق ، ومعنى ( وبالحق نزل ) أنه نزل وفيه الحق ، وقيل : الباقي ، ( وبالحق ) الأول بمعنى ( مع ) أي مع الحق أنزلناه ، كقولهم ركب الأمير بسيفه . أي : مع سيفه ( وبالحق نزل ) أي : بمحمد كما تقول : نزلت بزيد .
وقال أبو علي الفارسي : الباء في الموضعين بمعنى ( مع ) وقيل : يجوز أن يكون المعنى : وبالحق قدرنا أن ينزل وكذلك نزل ، أو ما أنزلناه من السماء إلا محفوظا ، وما نزل على الرسول إلا محفوظا من تخليط الشياطين ، والتقديم في الموضعين للتخصيص وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا أي : مبشرا لمن أطاع بالجنة ونذيرا مخوفا لمن عصى بالنار .
( وقرآنا فرقناه ) انتصاب ( قرآنا ) بفعل مضمر يفسره ما بعده ، قرأ علي وابن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب وقتادة وأبو رجاء ( فرقناه ) بالتشديد أي : أنزلناه شيئا بعد شيء لا جملة واحدة . والشعبي
وقرأ الجمهور ( فرقناه ) بالتخفيف أي : بيناه وأوضحناه ، وفرقنا فيه بين الحق والباطل .
وقال : فرقه في التنزيل ليفهمه الناس . الزجاج
قال أبو عبيد : التخفيف أعجب إلي ؛ لأن تفسيره : بيناه ، وليس للتشديد معنى إلا أنه نزل متفرقا .
ويؤيده ما رواه ثعلب ، عن أنه قال : فرقت - مخففا - بين الكلام ، وفرقت - مشددا - بين الأجسام ، ثم ذكر سبحانه العلة لقوله : ( فرقناه ) ، فقال : ابن الأعرابي لتقرأه على الناس على مكث أي : على تطاول في المدة شيئا بعد شيء على القراءة الأولى ، أو أنزلناه آية آية ، وسورة سورة .
ومعناه على القراءة الثانية ( على مكث ) أي : على ترسل وتمهل في التلاوة ، فإن ذلك أقرب إلى الفهم وأسهل للحفظ .
وقد اتفق القراء على ضم الميم في ( مكث ) إلا ابن محيصن فإنه قرأ بفتح الميم .
( ونزلناه تنزيلا ) التأكيد بالمصدر للمبالغة ، والمعنى : أنزلناه منجما مفرقا لما في ذلك من المصلحة ، ولو أخذوا بجميع الفرائض في وقت واحد لنفروا ولم يطيقوا .
1 قل آمنوا به أو لا تؤمنوا أمر الله سبحانه نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يقول للكافرين المقترحين للآيات : آمنوا به أو لا تؤمنوا ، فسواء إيمانكم به وامتناعكم عنه لا يزيده ذلك ولا ينقصه .
وفي هذا وعيد شديد لأمره - صلى الله عليه وآله وسلم - بالإعراض عنهم واحتقارهم ، ثم علل ذلك بقوله : إن الذين أوتوا العلم من قبله أي : أن العلماء الذين قرءوا الكتب السابقة قبل إنزال القرآن وعرفوا حقيقة الوحي وأمارات النبوة كزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل ( وعبد الله بن سلام إذا يتلى عليهم ) أي : القرآن يخرون للأذقان سجدا أي : يسقطون على وجوههم ساجدين لله سبحانه .
وإنما قيد الخرور وهو السقوط بكونه للأذقان أي : عليها ؛ لأن الذقن ، وهو مجتمع اللحيين ، أول ما يحاذي الأرض .
قال : لأن الذقن مجتمع اللحيين ، وكما يبتدئ الإنسان بالخرور للسجود ، فأول ما يحاذي الأرض به من وجهه الذقن ، وقيل : المراد تعفير اللحية في التراب ، فإن ذلك غاية الخضوع ، وإيثار اللام في الأذقان على ( على ) للدلالة على الاختصاص ، فكأنهم خصوا أذقانهم بالخرور ، أو خصوا الخرور بأذقانهم ، وقيل : الضمير في قوله : ( من قبله ) راجع إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، والأولى ما ذكرناه من رجوعه إلى القرآن ؛ لدلالة السياق على ذلك ، وفي هذا تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - . الزجاج
وحاصلها : أنه إن لم يؤمن به هؤلاء الجهال الذين لا علم عندهم ولا معرفة بكتب الله ولا بأنبيائه ، فلا تبال بذلك ، فقد آمن به أهل العلم وخشعوا له وخضعوا عند تلاوته عليهم خضوعا ظهر أثره البالغ بكونهم يخرون على أذقانهم سجدا لله .
ويقولون سبحان ربنا أي : يقولون في سجودهم تنزيها لربنا عما يقوله الجاهلون من التكذيب أو تنزيها له عن خلف وعده إن كان وعد ربنا لمفعولا ( إن ) هذه هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة .
ثم ذكر أنهم خروا لأذقانهم باكين فقال : ويخرون للأذقان يبكون وكرر ذكر الخرور للأذقان لاختلاف السبب ، فإن الأول لتعظيم الله سبحانه وتنزيهه ، والثاني للبكاء بتأثير مواعظ القرآن في قلوبهم ومزيد خشوعهم ، ولهذا قال : ( ويزيدهم ) أي : سماع القرآن ، أو القرآن بسماعهم له خشوعا أي : لين قلب ورطوبة عين .
وقد أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم في قوله : ( ابن عباس تسع آيات ) فذكر ما ذكرناه عن أكثر المفسرين .
وأخرج ابن جرير عنه قال : يده ، وعصاه ، ولسانه ، والبحر ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم . وأخرج وابن أبي حاتم الطيالسي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأحمد وصححه والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن قانع والحاكم وصححه وأبو نعيم والبيهقي وابن مردويه ، عن صفوان بن عسال ولقد آتينا موسى تسع آيات فقال : لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تزنوا ، ولا تسرفوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ولا تسرقوا ، ولا تسحروا ، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان فيقتله ، ولا تأكلوا الربا ، ولا تقذفوا محصنة - أو قال : لا تفروا من الزحف ، شك شعبة - وعليكم يا يهود خاصة أن لا تعتدوا في السبت ، فقبلا يديه ورجليه وقالا : نشهد أنك نبي الله ، قال : فما يمنعكما أن تسلما ؟ قالا : إن داود دعا الله أن لا يزال في ذريته نبي ، وإنا نخاف إن أسلمنا أن يقتلنا اليهود . أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه : انطلق بنا إلى هذا النبي نسأله ، فأتياه فسألاه عن قول الله :
[ ص: 847 ] وأخرج في ذم الغضب عن ابن أبي الدنيا أنه سئل عن قوله : أنس بن مالك وإني لأظنك يافرعون مثبورا قال : مخالفا ، وقال : الأنبياء أكرم من أن تلعن أو تسب .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر من طرق ، عن وابن أبي حاتم ( ابن عباس مثبورا ) قال : ملعونا .
وأخرج الشيرازي في الألقاب وابن مردويه عنه قال : قليل العقل .
وأخرج عنه أيضا ( لفيفا ) قال : جميعا . ابن جرير
وأخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي ، عن أنه قرأ : ( ابن عباس وقرآنا فرقناه ) مثقلا قال : من رمضان جملة واحدة ، فكان المشركون إذا أحدثوا شيئا أحدث الله لهم جوابا ، ففرقه الله في عشرين سنة . نزل القرآن إلى السماء الدنيا في ليلة القدر
وقد روي نحو هذا عنه من طرق .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا ( فرقناه ) قال : فصلناه ( على مكث ) بأمد يخرون للأذقان يقول : للوجوه .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر ، عن مجاهد إذا يتلى عليهم قال : كتابهم .