ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم
[ ص: 87 ] هذا الاستفهام فيه أبلغ دلالة على أن هذا الظلم متناه وأنه بمنزلة لا ينبغي أن يلحقه سائر أنواع الظلم ، أي لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله ، واسم الاستفهام في محل رفع على الابتداء و أظلم خبره .
وقوله : أن يذكر فيها اسمه قيل : هو بدل من مساجد ، وقيل : إنه مفعول له بتقدير كراهية أن يذكر ، وقيل : إن التقدير من أن يذكر ، ثم حذف حرف الجر لطول الكلام ، وقيل : إنه مفعول ثان لقوله : منع والمراد بمنع المساجد أن يذكر فيها اسم الله : منع من يأتي إليها للصلاة والتلاوة والذكر وتعليمه .
والمراد بالسعي في خرابها : هو السعي في هدمها ورفع بنيانها . ويجوز أن يراد بالخراب تعطيلها عن الطاعات التي وضعت لها فيكون أعم من قوله : أن يذكر فيها اسمه فيشمل جميع ما يمنع من الأمور التي بنيت لها المساجد كتعلم العلم وتعليمه ، والقعود للاعتكاف ، وانتظار الصلاة ، ويجوز أن يراد ما هو أعم من الأمرين من باب عموم المجاز كما قيل في قوله تعالى : إنما يعمر مساجد الله وقوله : ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين أي : ما كان ينبغي لهم دخولها إلا حال خوفهم ، وفيه إرشاد للعباد من الله عز وجل أنه ينبغي لهم أن يمنعوا مساجد الله من أهل الكفر من غير فرق بين مسجد ومسجد ، وبين كافر وكافر ، كما يفيده عموم اللفظ ، ولا ينافيه خصوص السبب ، وأن يجعلوهم بحالة إذا أرادوا الدخول كانوا على وجل وخوف من أن يفطن لهم أحد من المسلمين فينزلون بهم ما يوجب الإهانة والإذلال ، وليس فيه الإذن لنا بتمكينهم من ذلك حال خوفهم ، بل هو كناية عن المنع لهم منا عن دخول مساجدنا .
والخزي : قيل : هو ضرب الجزية عليهم وإذلالهم ، وقيل غير ذلك ، وقد تقدم تفسيره .
والمشرق : موضع الشروق .
والمغرب : موضع الغروب ، أي هما ملك لله وما بينهما من الجهات والمخلوقات فيشمل الأرض كلها .
قوله : فأينما تولوا أي أي جهة تستقبلونها فهناك وجه الله : أي المكان الذي يرتضي لكم استقباله ، وذلك يكون عند التباس جهة القبلة التي أمرنا بالتوجه إليها بقوله سبحانه : فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره قال في الكشاف : والمعنى أنكم إذا منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام ، أو في بيت المقدس فقد جعلت لكم الأرض مسجدا ، فصلوا في أي بقعة شئتم من بقاعها ، وافعلوا التولية فيها ، فإن التولية ممكنة في كل مكان لا تختص أماكنها في مسجد دون مسجد ولا في مكان دون مكان . انتهى .
وهذا التخصيص لا وجه له فإن اللفظ أوسع منه .
وإن كان المقصود به بيان السبب فلا بأس .
وقوله : إن الله واسع عليم فيه إرشاد إلى سعة رحمته .
وأنه يوسع على عباده في دينهم ولا يكلفهم ما ليس في وسعهم ، وقيل : واسع بمعنى أنه يسع علمه كل شيء كما قال : وسع كل شيء علما وقال الفراء : الواسع الجواد الذي يسع عطاؤه كل شيء .
وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس أن قريشا منعوا النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام فأنزل الله : ومن أظلم ممن منع مساجد الله .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه قال : هم النصارى .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد نحوه .
وأخرج ابن جرير عن السدي قال : هم الروم كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس .
وفي قوله : أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين قال : فليس في الأرض رومي يدخله اليوم إلا وهو خائف أن يضرب عنقه ، وقد أخيف بأداء الجزية فهو يؤديها .
وفي قوله : لهم في الدنيا خزي قال : أما خزيهم في الدنيا فإنه إذا قام المهدي وفتحت القسطنطينية قتلهم فذلك الخزي .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنهم الروم .
وأخرج ابن جرير عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال : هم المشركون حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت يوم الحديبية .
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي صالح قال : ليس للمشركين أن يدخلوا المسجد إلا خائفين .
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة في قوله : لهم في الدنيا خزي قال : يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون .
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : أول ما نسخ من القرآن فيما ذكر لنا والله أعلم شأن القبلة ، قال الله تعالى : ولله المشرق والمغرب الآية ، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق ، ثم صرفه الله إلى البيت العتيق ونسخها فقال : ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام .
وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود نحوه .
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عمر قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته تطوعا أينما توجهت به ، ثم قرأ ابن عمر هذه الآية : أينما تولوا فثم وجه الله وقال : في هذا أنزلت هذه الآية .
وأخرج نحوه عنه ابن جرير والدارقطني والحاكم وصححه .
وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي على راحلته قبل المشرق ، فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل واستقبل القبلة وصلى .
وروي نحوه من حديث أنس مرفوعا .
أخرجه ابن أبي شيبة وأبو داود .
وأخرج عبد بن حميد والترمذي وضعفه وابن ماجه وابن جرير وغيرهم عن عامر بن ربيعة قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة سوداء مظلمة ، فنزلنا منزلا فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجدا فيصلي فيه ، فلما أن أصبحنا إذا نحن قد صلينا على غير القبلة ، فقلنا : يا رسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة ، فأنزل الله ولله المشرق والمغرب الآية ، [ ص: 88 ] فقال : مضت صلاتكم .
وأخرج الدارقطني وابن مردويه والبيهقي عن جابر مرفوعا نحوه إلا أنه ذكر أنهم خطوا خطوطا .
وأخرج نحوه ابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعا .
وأخرج نحوه أيضا سعيد بن منصور وابن المنذر عن عطاء يرفعه وهو مرسل .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس : فثم وجه الله قال : قبلة لله أينما توجهت شرقا أو غربا .
وأخرج ابن أبي شيبة والترمذي وصححه وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما بين المشرق والمغرب قبلة وأخرج ابن أبي شيبة والدارقطني والبيهقي عن ابن عمر مثله .
وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن عمر نحوه .


