قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم نزل مخففا وقرأه الباقون مشددا ، و الروح الأمين على القراءة الثانية منصوب على أنه مفعول به ، وقد اختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد ، والروح الأمين جبريل ، كما في قوله : قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك [ البقرة : 97 ] .
ومعنى على قلبك أنه تلاه على قلبه ، ووجه تخصيص القلب ، لأنه أول مدرك من الحواس الباطنة .
قال أبو حيان : إن على قلبك و لتكون متعلقان بنزل ، وقيل : يجوز أن يتعلقا بـ ( تنزيل ) ، والأول أولى ، وقرئ " نزل " مشددا مبنيا للمفعول والفاعل هو الله - تعالى - ، ويكون الروح على هذه القراءة مرفوعا على النيابة لتكون من المنذرين علة للإنزال : أي : أنزله لتنذرهم بما تضمنه من التحذيرات والإنذارات والعقوبات .
بلسان عربي مبين متعلق بالمنذرين ، أي : لتكون من المنذرين بهذا اللسان ، وجوز أبو البقاء أن يكون بدلا من " به " وقيل : متعلق بنزل ، وإنما أخر للاعتناء بذكر الإنذار ، وإنما جعل الله - سبحانه - القرآن عربيا بلسان الرسول العربي لئلا يقول مشركوا العرب لسنا نفهم ما تقوله بغير لساننا فقطع بذلك حجتهم وأزاح علتهم ودفع معذرتهم .
وإنه لفي زبر الأولين أي : إن هذا القرآن باعتبار أحكامه التي أجمعت عليها الشرائع في كتب الأولين من الأنبياء ، والزبر الكتب ، الواحد زبور ، وقد تقدم الكلام على تفسير مثل هذا .
وقيل : الضمير لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم ، وقيل : المراد بكون القرآن في زبر الأولين أنه مذكور فيها هو نفسه ، لا ما اشتمل عليه من الأحكام ، والأول أولى .
أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل الهمزة للإنكار ، والواو للعطف على مقدر كما تقدم مرارا ، والآية العلامة والدلالة ، أي : ألم يكن لهؤلاء علامة دالة على أن القرآن حق ، وأنه تنزيل رب العالمين . وأنه في زبر الأولين ، أن يعلمه علماءبني إسرائيل على العموم ، أو من آمن منهم كعبد الله بن سلام ، وإنما صارت شهادة أهل الكتاب حجة على المشركين لأنهم كانوا يرجعون إليهم ويصدقونهم .
قرأ ابن عامر " تكن " بالفوقية ، و " آية " بالرفع على أنها اسم كان ، وخبرها أن يعلمه إلخ ، ويجوز أن تكون تامة ، وقرأ الباقون يكن بالتحتية و آية بالنصب على أنها خبر يكن ، واسمها أن يعلمه إلخ .
قال الزجاج : " أن يعلمه " اسم ( يكن ) ، " وآية " خبره .
والمعنى : أو لم يكن لهم علم علماء بني إسرائيل أن محمدا نبي حق علامة ودلالة على نبوته ، لأن العلماء الذين آمنوا من بني إسرائيل كانوا يخبرون بوجود ذكره في كتبهم ، وكذا قال الفراء ، ووجها قراءة الرفع بما ذكرنا .
وفي قراءة ابن عامر نظر ، لأن جعل النكرة اسما ، والمعرفة خبرا غير سائغ ، وإن ورد شاذا في مثل قول الشاعر :
فلا يك موقف منك الوداعا
وقول الآخر :
وكان مزاجها عسل وماء
ولا وجه لما قيل : إن النكرة قد تخصصت بقولهم لهم لأنه في محل نصب على الحال ، والحال صفة في المعنى ، فأحسن ما يقال في التوجيه : ما قدمنا ذكره من أن ( يكن ) تامة .
ولو نزلناه على بعض الأعجمين أي : لو نزلنا القرآن على الصفة التي هو عليها على رجل من الأعجمين الذين لا يقدرون على التكلم بالعربية .
فقرأه عليهم قراءة صحيحة ما كانوا به مؤمنين مع انضمام إعجاز القراءة من الرجل الأعجمي للكلام العربي إلى إعجاز القرآن .
وقيل : المعنى : ولو نزلناه على بعض الأعجمين بلغة العجم ، فقرأه عليهم بلغته لم يؤمنوا به وقالوا : ما نفقه هذا ولا نفهمه ، ومثل هذا قوله : ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته [ فصلت : 44 ] يقال : رجل أعجم وأعجمي إذا كان غير فصيح اللسان وإن كان عربيا ، ورجل عجمي إذا كان أصله من العجم وإن كان فصيحا إلا أن الفراء أجاز أن يقال : رجل عجمي بمعنى أعجمي ، وقرأ الحسن " على بعض الأعجميين " وكذلك قرأ الجحدري .
قال أبو الفتح بن جني : أصل الأعجمين : الأعجميين ، ثم حذفت ياء النسب ، وجعل جمعه بالياء والنون دليلا عليها .
كذلك سلكناه في قلوب المجرمين أي : مثل ذلك السلك سلكناه ، أي : أدخلناه في قلوبهم يعني القرآن حتى فهموا معانيه وعرفوا فصاحته وأنه معجز .
وقال الحسن وغيره : سلكنا الشرك والتكذيب في قلوب المجرمين .
وقال عكرمة : سلكنا القسوة والأول أولى ، لأن السياق في القرآن ، وجملة لا يؤمنون تحتمل وجهين : الأول الاستئناف على جهة البيان والإيضاح لما قبلها .
والثاني أنها في محل نصب على الحال من الضمير في سلكناه ، ويجوز أن يكون حالا من المجرمين .
وأجاز الفراء الجزم في لا يؤمنون ، لأنه فيه معنى الشرط والمجازاة ، وزعم أن من شأن العرب إذا وضعت ( لا ) موضع ( كيلا ) مثل هذا ربما جزمت ما بعدها ، وربما رفعت ، فتقول : ربطت الفرس لا ينفلت ، بالرفع والجزم ؛ لأن معناه : إن لم أربطه ينفلت ، وأنشد لبعض بني عقيل :
وحتى رأينا أحسن الفعل بيننا مساكنه لا يقرب الشر قارب
بالرفع ، ومن الجزم قول الآخر :
لطال ما حللتماها لا ترد فخلياها والسخال تبترد
قال النحاس : وهذا كله في لا يؤمنون خطأ عند البصريين ، ولا يجوز الجزم بلا جازم حتى يروا العذاب الأليم أي : لا يؤمنون إلى هذه الغاية وهي مشاهدتهم للعذاب الأليم .
فيأتيهم العذاب بغتة أي : فجأة " و " الحال وهم لا يشعرون بإتيانه ، وقرأ الحسن " فتأتيهم " بالفوقية : أي : الساعة وإن لم يتقدم لها ذكر ، لكنه قد دل على العذاب عليها .
فيقولوا هل نحن منظرون أي : مؤخرون وممهلون .
قالوا هذا تحسرا على ما فات من الإيمان ، وتمنيا للرجعة إلى الدنيا لاستدراك ما فرط منهم .
وقيل : إن المراد بقولهم : هل نحن منظرون الاستعجال للعذاب على طريقة الاستهزاء .
لقوله : [ ص: 1068 ] أفبعذابنا يستعجلون ولا يخفى ما في هذا من البعد والمخالفة للمعنى الظاهر ، فإن معنى هل نحن منظرون طلب النظرة والإمهال ، وأما قوله : أفبعذابنا يستعجلون فالمراد به الرد عليهم والإنكار لما وقع منهم من قولهم فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم [ الأنفال : 32 ] وقولهم : فأتنا بما تعدنا [ الأعراف : 70 ، هود : 32 ، الأحقاف : 22 ] .
أفرأيت إن متعناهم سنين الاستفهام للإنكار ، والفاء للعطف على مقدر يناسب المقام كما مر في غير موضع ، ومعنى ( أرأيت ) ، أخبرني ، والخطاب لكل من يصلح له ، أي : أخبرني إن متعناهم سنين في الدنيا متطاولة ، وطولنا لهم الأعمار .
ثم جاءهم ما كانوا يوعدون من العذاب والهلاك .
ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون ( ما ) هي الاستفهامية ، والمعنى : أي شيء أغنى عنهم كونهم ممتعين ذلك التمتع الطويل ، و " ما " في ما كانوا يمتعون يجوز أن تكون المصدرية ، ويجوز أن تكون الموصولة ، والاستفهام للإنكار التقريري ، ويجوز أن تكون ما الأولى نافية ، والمفعول محذوف ، أي : لم يغن عنهم تمتيعهم شيئا ، وقرئ " يمتعون " بإسكان الميم وتخفيف التاء من أمتع الله زيدا بكذا .
وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون " من " مزيدة للتأكيد ، أي : وما أهلكنا قرية من القرى إلا لها منذرون .
وجملة إلا لها منذرون يجوز أن تكون صفة لقرية ، ويجوز أن تكون حالا منها ، وسوغ ذلك سبق النفي ، والمعنى : ما أهلكنا قرية من القرى إلا بعد الإنذار إليهم والإعذار بإرسال الرسل وإنزال الكتب .
وقوله : ذكرى بمعنى تذكرة ، وهي في محل نصب على العلة أو المصدرية .
وقال الكسائي : ذكرى ، في موضع نصب على الحال .
وقال الفراء والزجاج : أنها في موضع نصب على المصدرية ، أي : يذكرون ذكرى .
قال النحاس : وهذا قول صحيح ، لأن معنى إلا لها منذرون إلا لها مذكرون .
قال الزجاج : ويجوز أن يكون ذكرى في موضع رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي : إنذارنا ذكرى ، أو ذلك ذكرى .
قال ابن الأنباري : المعنى هي ذكرى ، أو يذكرهم ذكرى ، وقد رجح الأخفش أنها خبر مبتدأ محذوف وما كنا ظالمين في تعذيبهم ، فقد قدمنا الحجة إليهم وأنذرناهم وأعذرنا إليهم .
وما تنزلت به الشياطين أي : بالقرآن ، وهذا رد لما زعمه الكفرة في القرآن أنه من قبيل ما يلقيه الشياطين على الكهنة .
وما ينبغي لهم ذلك ، ولا يصح منهم وما يستطيعون ما نسبه الكفار إليهم أصلا .
إنهم عن السمع للقرآن ، أو لكلام الملائكة لمعزولون محجوبون مرجومون بالشهب .
وقرأ الحسن ، وابن السميفع ، والأعمش و " ما تنزلت به الشياطين " بالواو والنون إجراء له مجرى السلامة .
قال النحاس : وهذا غلط عند جميع النحويين .
قال : وسمعت علي بن سليمان يقول : سمعت محمد بن يزيد يقول : هذا من غلط العلماء ، وإنما يكون بشبهة لما رأى الحسن في آخره ياء ونونا ، وهو في موضع رفع اشتبه عليه بالجمع السالم فغلط .
قال الفراء : غلط الشيخ : يعني الحسن ، فقيل : ذلك للنضر بن شميل فقال : إن جاز أن يحتج بقول رؤبة والعجاج وذويهما جاز أن يحتج بقول الحسن وصاحبه : يعني محمد بن السميفع مع أنا نعلم أنهما لم يقرءا بذلك إلا وقد سمعا فيه شيئا .
وقال المؤرج : إن كان الشيطان من شاط يشيط كان لقراءتهما وجه .
قال يونس بن حبيب : سمعت أعرابيا يقول : دخلنا بساتين من ورائها بساتون .
ثم لما قرر - سبحانه - حقية القرآن وأنه منزل من عنده أمر نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - بدعاء الله وحده ، فقال : فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين وخطاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بهذا مع كونه منزها عنه معصوما منه لحث العباد على التوحيد ونهيهم عن شوائب الشرك ، وكأنه قال : أنت أكرم الخلق علي وأعزهم عندي ، ولو اتخذت معي إلها لعذبتك ، فكيف بغيرك من العباد .
وأنذر عشيرتك الأقربين خص الأقربين لأن الاهتمام بشأنهم أولى ، وهدايتهم إلى الحق أقدم .
قيل : هم قريش ، وقيل : بنو عبد مناف ، وقيل : بنو هاشم .
وقد ثبت في الصحيح أن هذه الآية لما نزلت دعا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قريشا ، فاجتمعوا فعم وخص ، فذلك منه - صلى الله عليه وآله وسلم - بيان للعشيرة الأقربين ، وسيأتي بيان ذلك .
واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين يقال : خفض جناحه إذا ألانه ، وفيه استعارة حسنة .
والمعنى : ألن جناحك وتواضع لمن اتبعك من المؤمنين وأظهر لهم المحبة والكرامة وتجاوز عنهم .
فإن عصوك أي : خالفوا أمرك ولم يتبعوك فقل إني بريء مما تعملون أي : من عملكم ، أو من الذي تعملونه ، وهذا يدل على أن المراد بالمؤمنين المشارفون للإيمان المصدقون باللسان ، لأن المؤمنين الخلص لا يعصونه ولا يخالفونه .
ثم بين له ما يعتمد عليه عند عصيانهم له فقال وتوكل على العزيز الرحيم أي : فوض أمورك إليه فإنه القادر على قهر الأعداء ، وهو الرحيم للأولياء .
قرأ نافع ، وابن عامر " فتوكل " بالفاء .
وقرأ الباقون وتوكل بالواو ، فعلى القراءة الأولى يكون ما بعد الفاء كالجزء مما قبلها مترتبا عليه ، وعلى القراءة الثانية يكون ما بعد الواو معطوفا على ما قبلها عطف جملة على جملة من غير ترتيب .
الذي يراك حين تقوم أي : حين تقوم إلى الصلاة وحدك في قول أكثر المفسرين .
وقال مجاهد : حين تقوم حيثما كنت .
وتقلبك في الساجدين أي : ويراك إن صليت في الجماعة راكعا وساجدا وقائما ، كذا قال أكثر المفسرين .
وقيل : يراك في الموحدين من نبي إلى نبي حتى أخرجك في هذه الأمة .
وقيل : المراد بقوله يراك حين تقوم قيامه إلى التهجد ، وقوله : وتقلبك في الساجدين يريد ترددك في تصفح أحوال المجتهدين في العبادة وتقلب بصرك فيهم ، كذا قال مجاهد .
إنه هو السميع لما تقوله العليم به .
ثم أكد - سبحانه - معنى قوله : وما تنزلت به الشياطين وبينه ، فقال هل أنبئكم على من تنزل الشياطين أي : على من تتنزل ، فحذف إحدى التاءين ، وفيه بيان استحالة تنزل [ ص: 1069 ] الشياطين على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - .
تنزل على كل أفاك أثيم والأفاك الكثير الإفك ، والأثيم كثير الإثم ، والمراد بهم كل من كان كاهنا ، فإن الشياطين كانت تسترق السمع ثم يأتون إليهم فيلقونه إليهم .
وهو معنى قوله : يلقون السمع أي : ما يسمعونه مما يسترقونه ، فتكون جملة يلقون السمع على هذا راجعة إلى الشياطين في محل نصب على الحال ، أي : حال كون الشياطين ملقين السمع ، أي : ما يسمعونه من الملأ الأعلى إلى الكهان .
ويجوز أن يكون المعنى : إن الشياطين يلقون السمع ؛ أي : ينصتون إلى الملإ الأعلى ليسترقوا منهم شيئا ، ويكون المراد بالسمع على الوجه الأول المسموع ، وعلى الوجه الثاني نفس حاسة السمع . ويجوز أن تكون جملة يلقون السمع راجعة إلى كل أفاك أثيم على أنها صفة أو مستأنفة ، ومعنى الإلقاء : أنهم يسمعون ما تلقيه إليهم الشياطين من الكلمات التي تصدق الواحدة منها ، وتكذب المائة الكلمة كما ورد في الحديث ، وجملة وأكثرهم كاذبون راجعة إلى كل أفاك أثيم ، أي : وأكثر هؤلاء الكهنة كاذبون فيما يتلقونه من الشياطين ، لأنهم يضمون إلى ما يسمعونه كثيرا من أكاذيبهم المختلفة ، أو أكثرهم كاذبون فيما يلقونه من السمع : أي : المسموع من الشياطين إلى الناس ، ويجوز أن تكون جملة وأكثرهم كاذبون راجعة إلى الشياطين أي : وأكثر الشياطين كاذبون فيما يلقونه إلى الكهنة مما يسمعونه ، فإنهم يضمون إلى ذلك من عند أنفسهم كثيرا من الكذب .
وقد قيل : كيف يصح على الوجه الأول وصف الأفاكين بأن أكثرهم كاذبون بعد ما وصفوا جميعا بالإفك . وأجيب بأن المراد بالأفاك الذي يكثر الكذب لا الذي لا ينطق إلا بالكذب ، فالمراد بقوله وأكثرهم كاذبون أنه قل من يصدق منهم فيما يحكي عن الشياطين ، والغرض الذي سبق لأجله هذا الكلام رد ما كان يزعمه المشركون من كون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من جملة من يلقي إليه الشيطان السمع من الكهنة ببيان أن الأغلب على الكهنة الكذب ، ولم يظهر من أحوال محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - إلا الصدق ، فكيف يكون كما زعموا ، ثم إن هؤلاء الكهنة يعظمون الشياطين ، وهذا النبي المرسل من عند الله برسالته إلى الناس يذمهم ويلعنهم ويأمر بالتعوذ منهم ، ثم لما كان قد قال قائل من المشركين : إن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - شاعر ، بين - سبحانه - حال الشعراء ومنافاة ما هم عليه لما عليه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال : والشعراء يتبعهم الغاوون والمعنى : أن الشعراء يتبعهم أي : يجاريهم ويسلك مسلكهم ويكون من جملتهم الغاوون أي : الضالون عن الحق ، والشعراء جمع شاعر ، والغاوون جمع غاو ، وهم ضلال الجن والإنس .
وقيل : الزائلون عن الحق ، وقيل : الذين يروون الشعر المشتمل على الهجاء وما لا يجوز ، وقيل : المراد شعراء الكفار خاصة .
قرأ الجمهور والشعراء بالرفع على أنه مبتدأ وخبره ما بعده ، وقرأ عيسى بن عمر " الشعراء " بالنصب على الاشتغال ، وقرأ نافع وشيبة ، والحسن ، والسلمي " يتبعهم " بالتخفيف ، وقرأ الباقون بالتشديد .
ثم بين - سبحانه - قبائح شعراء الباطل فقال : ألم تر أنهم في كل واد يهيمون والجملة مقررة لما قبلها ، والخطاب لكل من تتأتى منه الرؤية ، يقال : هام يهيم هيما ، وهيمانا إذا ذهب على وجهه أي : ألم تر أنهم في كل فن من فنون الكذب يخوضون ، وفي كل شعب من شعاب الزور يتكلمون ، فتارة يمزقون الأعراض بالهجاء ، وتارة يأتون من المجون بكل ما يمجه السمع ويستقبحه العقل ، وتارة يخوضون في بحر السفاهة والوقاحة ، ويذمون الحق ويمدحون الباطل ، ويرغبون في فعل المحرمات ، ويدعون الناس إلى فعل المنكرات كما تسمعه في أشعارهم من مدح الخمر والزنا واللواط ونحو هذه الرذائل الملعونة .
ثم قال - سبحانه : وأنهم يقولون ما لا يفعلون أي : يقولون فعلنا وفعلنا وهم كذبة في ذلك ، فقد يدلون بكلامهم على الكرم والخير ولا يفعلونه ، وقد ينسبون إلى أنفسهم من أفعال الشر ما لا يقدرون على فعله كما تجده في كثير من أشعارهم من الدعاوى الكاذبة والزور الخالص المتضمن لقذف المحصنات ، وأنهم فعلوا بهن كذا وكذا ، وذلك كذب محض وافتراء بحت .
ثم استثنى - سبحانه - الشعراء المؤمنين الصالحين الذين أغلب أحوالهم تحري الحق والصدق ، فقال : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات أي : دخلوا في حزب المؤمنين وعملوا بأعمالهم الصالحة ، وذكروا الله كثيرا في أشعارهم وانتصروا من بعد ما ظلموا كمن يهجو منهم من هجاه ، أو ينتصر لعالم أو فاضل كما كان يقع من شعراء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فإنهم كانوا يهجون من يهجوه ، ويحمون عنه ويذبون عن عرضه ، ويكافحون شعراء المشركين وينافحونهم ، ويدخل في هذا من انتصر بشعره لأهل السنة ، وكافح أهل البدعة ، وزيف ما يقوله شعراؤهم من مدح بدعتهم وهجو السنة المطهرة ، كما يقع ذلك كثيرا من شعراء الرافضة ونحوهم ، فإن الانتصار للحق بالشعر وتزييف الباطل به من أعظم المجاهدة ، وفاعله من المجاهدين في سبيل الله المنتصرين لدينه القائمين بما أمر الله بالقيام به .
واعلم أن الشعر في نفسه ينقسم إلى أقسام ، فقد يبلغ ما لا خير فيه منه إلى قسم الحرام ، وقد يبلغ ما فيه خير منه إلى قسم الواجب ، وقد وردت أحاديث في ذمه وذم الاستكثار منه ، ووردت أحاديث أخر في إباحته وتجويزه ، والكلام في تحقيق ذلك يطول ، وسنذكر في آخر البحث ما ورد في ذلك من الأحاديث .
ثم ختم - سبحانه - هذه السورة بآية جامعة للوعيد كله فقال : وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون فإن في قوله سيعلم تهويلا عظيما وتهديدا شديدا ، وكذا في إطلاق " الذين ظلموا " وإبهام " أي منقلب ينقلبون " ، وخصص هذه الآية بعضهم بالشعراء ، ولا وجه لذلك فإن الاعتبار بعموم اللفظ .
وقوله : أي منقلب صفة لمصدر محذوف أي : ينقلبون منقلبا أي منقلب ، وقدم لتضمنه معنى الاستفهام ، ولا يعمل فيه ( سيعلم ) ، لأن [ ص: 1070 ] الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ، بل هو معلق عن العمل فيه .
وقرأ ابن عباس ، والحسن " أي منفلت ينفلتون " بالفاء مكان القاف ، والتاء مكان الباء من الانفلات بالنون والفاء الفوقية .
وقرأ الباقون بالقاف والباء من الانقلاب بالنون والقاف الموحدة ، والمعنى على قراءة ابن عباس ، والحسن : أن الظالمين يطمعون في الانفلات من عذاب الله والانفكاك منه ولا يقدرون على ذلك .
وقد أخرج ، عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة وإنه لتنزيل رب العالمين قال : هذا القرآن نزل به الروح الأمين قال : جبريل .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس نزل به الروح الأمين قال : جبريل ، وأخرج أبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في قوله الروح الأمين قال الروح الأمين رأيت له ستمائة جناح من لؤلؤ قد نشرها فيها مثل ريش الطواويس .
وأخرج ابن النجار في تاريخه عن ابن عباس في قوله : بلسان عربي مبين قال : بلسان قريش ولو كان غير عربي ما فهموه .
وأخرج الحاكم وصححه البيهقي في الشعب عن بريدة في قوله : بلسان عربي مبين قال : بلسان جرهم .
وأخرج مثله أيضا عنه ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : كان عبد الله بن سلام من علماء بني إسرائيل ، وكان من خيارهم فآمن بكتاب محمد ، فقال لهم الله : أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل .
وأخرج البخاري ، ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال : " لما نزلت هذه الآية وأنذر عشيرتك الأقربين دعا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قريشا وعم وخص فقال : يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار ، فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا ، يا معشر بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا ، يا معشر بني قصي أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا ، يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا ، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لك ضرا ولا نفعا إلا أن لكم رحما وسأبلها ببلالها وفي الباب أحاديث من طريق جماعة من الصحابة .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : الذي يراك حين تقوم قال : للصلاة .
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين يقول : قيامك وركوعك وسجودك .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عنه أيضا وتقلبك في الساجدين قال : يراك وأنت مع الساجدين تقوم وتقعد معهم .
وأخرج ابن مردويه عنه أيضا في قوله : وتقلبك في الساجدين قال : كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا قام إلى الصلاة يرى من خلفه كما يرى من بين يديه .
ومنه الحديث في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم : هل ترون قبلتي هاهنا ؟ فوالله ما يخفى علي خشوعكم ولا ركوعكم ، وإني لأراكم من وراء ظهري .
وأخرج ابن عمر العدني في مسنده ، والبزار ، وابن أبي حاتم ، والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس في قوله : وتقلبك في الساجدين قال : من نبي إلى نبي حتى أخرجت نبيا .
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم عنه في الآية نحوه .
وأخرج البخاري ، ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت : " سأل أناس النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن الكهان قال : إنهم ليسوا بشيء ، قالوا : يا رسول الله إنهم يحدثون أحيانا بالشيء يكون حقا ؟ قال : تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقذفها في أذن وليه فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة .
وفي لفظ للبخاري : فيزيدون معها مائة كذبة .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : تهاجى رجلان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أحدهما من الأنصار والآخر من قوم آخرين ، وكان مع كل واحد منهما غواة من قومه وهم السفهاء ، فأنزل الله والشعراء يتبعهم الغاوون الآيات .
وأخرج ابن سعد وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، وابن عساكر عن عروة قال : لما نزلت والشعراء إلى قوله : ما لا يفعلون قال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله قد علم الله أني منهم ، فأنزل الله إلا الذين آمنوا إلى قوله : ينقلبون وروي نحو هذا من طرق .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس يتبعهم الغاوون قال : هم الكفار يتبعون ضلال الجن والإنس في كل واد يهيمون قال : في كل لغو يخوضون وأنهم يقولون ما لا يفعلون أكثر قولهم يكذبون ثم استثنى منهم فقال : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا قال : ردوا على الكفار الذين كانوا يهجون المؤمنين .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عنه أيضا نحوه .
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضا والشعراء قال : المشركون منهم الذين كانوا يهجون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يتبعهم الغاوون قال : قال غواة الجن في كل واد يهيمون في كل فن من الكلام يأخذون .
ثم استثنى فقال : إلا الذين آمنوا الآية .
يعني حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك كانوا يذبون عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه بهجاء المشركين .
وأخرج الفريابي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عنه الغاوون قال : هم الرواة .
وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عنه أيضا إلا الذين آمنوا الآية ، قال : أبو بكر وعمر وعلي وعبد الله بن رواحة .
وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه وأبو يعلى وابن مردويه عن كعب بن مالك أنه قال للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله قد أنزل في الشعراء ما أنزل فكيف ترى فيه ؟ فقال : إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه ، والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل .
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد عن أبي سعيد قال : بينما نحن نسير مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إذ عرض شاعر ينشد ، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم : [ ص: 1071 ] لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا .
وأخرج الديلمي عن ابن مسعود مرفوعا الشعراء الذين يموتون في الإسلام يأمرهم الله أن يقولوا شعرا يتغنى به الحور العين لأزواجهن في الجنة ، والذين ماتوا في الشرك يدعون بالويل والثبور في النار .
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم : إن من الشعر لحكمة .
قال : وأتاه قريظة بن كعب وعبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت فقالوا : إنا نقول الشعر وقد نزلت هذه الآية ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم : اقرءوا فقرأوا والشعراء إلى قوله : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فقال : أنتم هم وذكروا الله كثيرا فقال : أنتم هم وانتصروا من بعد ما ظلموا فقال : أنتم هم .
وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة عن البراء بن عازب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم : لحسان بن ثابت : اهج المشركين فإن جبريل معك .
وأخرج ابن سعد عن البراء بن عازب قال : قيل : " يا رسول الله إن أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يهجوك ، فقام ابن رواحة فقال : يا رسول الله ائذن لي فيه ، فقال : أنت الذي تقول ثبت الله ؟ فقال : نعم يا رسول الله ، قلت :
ثبت الله ما أعطاك من حسن تثبيت موسى ونصرا مثل ما نصرا
قال : وأنت ، ففعل الله بك مثل ذلك ، ثم وثب كعب فقال : يا رسول الله ائذن لي فيه ؟ فقال : أنت الذي تقول همت ؟ قال : نعم يا رسول الله ، قلت :
همت سخينة أن تغالب ربها فلتغلبن مغالب الغلاب
فقال : أما إن الله لم ينس ذلك لك ، ثم قام حسان فقال : يا رسول الله ائذن لي فيه ، وأخرج لسانا له أسود ، فقال : يا رسول الله لو شئت لفريت به المراد ، ائذن لي فيه ، فقال : اذهب إلى أبي بكر فليحدثك حديث القوم وأيامهم وأحسابهم واهجهم وجبريل معك " .
وأخرج أحمد وابن سعد عن أبي هريرة قال : " مر عمر بحسان وهو ينشد في المسجد فلحظ إليه ، فنظر إليه ، فقال : قد كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك ، فسكت ثم التفت حسان إلى أبي هريرة : فقال : أنشدك بالله هل سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول : أجب عني اللهم أيده بروح القدس ؟ قال نعم " .
وأخرج ابن سعد من حديث جابر مرفوعا نحوه .
وأخرج ابن أبي شيبة عن بريدة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم : " إن من الشعر حكما " .
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود ، عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم : إن من الشعر حكما ، ومن البيان لسحرا ، وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا يريه ، خير من أن يمتلئ شعرا .
وفي الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم : لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا .
قال في الصحاح : وروى القيح جوفه يريه وريا : إذا أكله .
قال القرطبي : روى إسماعيل بن عباس عن عبد الله بن عون عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم : حسن الشعر كحسن الكلام وقبيح الشعر كقبيح الكلام .
قال القرطبي : رواه إسماعيل عن عبد الله بن عون الشامي وحديثه عن أهل الشام صحيح فيما قال يحيى بن معين وغيره .
قال : وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم : " الشعر بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام ، وقبيحه كقبيح الكلام " .
وأخرج مسلم من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه قال : ردفت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال : هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت ؟ قلت : نعم .
قال : هيه ، فأنشدته بيتا ، فقال هيه ، ثم أنشدته بيتا ، فقال هيه ، حتى أنشدته مائة بيت " .
وأخرج ابن أبي حاتم عن فضالة بن عبيد في قوله : وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون قال : هؤلاء الذين يخربون البيت .


