يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها   فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا     ( 28 ) وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما      ( 29 ) يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا      ( 30 ) ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما      ( 31 ) يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا      ( 32 ) وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا      ( 33 ) واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا      ( 34 ) 
قوله : ياأيها النبي قل لأزواجك   قيل : هذه الآية متصلة بمعنى ما تقدمها من المنع من إيذاء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وكان قد تأذى ببعض الزوجات .  
قال الواحدي     : قال المفسرون : إن أزواج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سألنه شيئا من عرض الدنيا وطلبن منه الزيادة في النفقة وآذينه بغيرة بعضهن على بعض ، فآلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - منهن شهرا ، وأنزل الله آية التخيير هذه ، وكن يومئذ تسعا :  عائشة  و حفصة   وأم سلمة   وأم حبيبة  و  سودة  هؤلاء من نساء قريش   وصفية الخيبرية   وميمونة الهلالية  ،  وزينب بنت جحش الأسدية  ،  وجويرية بنت الحارث المصطلقية     . 
ومعنى الحياة الدنيا وزينتها  سعتها ونضارتها ورفاهيتها والتنعم فيها فتعالين  أي : أقبلن إلي أمتعكن  بالجزم جوابا للأمر أي : أعطكن المتعة " و " كذا أسرحكن بالجزم أي : أطلقكن وبالجزم في الفعلين قرأ الجمهور ، وقرأ  حميد الخراز  بالرفع في الفعلين على الاستئناف ، والمراد بالسراح الجميل : هو الواقع من غير ضرار على مقتضى السنة .  
وقيل : إن جزم الفعلين على أنهما جواب الشرط ، وعلى هذا يكون قوله  فتعالين  اعتراضا بين الشرط والجزاء . 
وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة    [ ص: 1166 ] أي : الجنة ونعيمها فإن الله أعد للمحسنات منكن   أي : اللائي عملن عملا صالحا أجرا عظيما لا يمكن وصفه ، ولا يقادر قدره وذلك بسبب إحسانهن ، وبمقابلة صالح عملهن .  
وقد اختلف العلماء في كيفية تخيير النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أزواجه على قولين : القول الأول أنه خيرهن بإذن الله في البقاء على الزوجية أو الطلاق فاخترن البقاء ، وبهذا قالت  عائشة  ومجاهد  وعكرمة   والشعبي   والزهري  وربيعة     . 
والقول الثاني أنه إنما خيرهن بين الدنيا فيفارقهن ، وبين الآخرة فيمسكهن ولم يخيرهن في الطلاق ، وبهذا قال  علي  ، والحسن  ، وقتادة  ، والراجح الأول . 
واختلفوا أيضا في المخيرة إذا اختارت زوجها هل يحسب مجرد ذلك التخيير على الزوج طلقة أم لا ؟ فذهب الجمهور من السلف والخلف إلى أنه لا يكون مع اختيار المرأة لزوجها طلاقا لا واحدة ولا أكثر .  
وقال علي   وزيد بن ثابت     : إن اختارت زوجها فواحدة بائنة ، وبه قال الحسن   والليث     : وحكاه الخطابي  والنقاش  عن مالك     . 
والراجح الأول لحديث عائشة  الثابت في الصحيحين " قالت : خيرنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فاخترناه فلم يعده طلاقا     " ولا وجه لجعل مجرد التخيير طلاقا ، ودعوى أنه كناية من كنايات الطلاق مدفوعة بأن المخير لم يرد الفرقة لمجرد التخيير ، بل أراد تفويض المرأة وجعل أمرها بيدها ، فإن اختارت البقاء بقيت على ما كانت عليه من الزوجية ، وإن اختارت الفرقة صارت مطلقة .  
واختلفوا في اختيارها لنفسها هل يكون ذلك طلقة رجعية أو بائنة .  
فقال بالأول عمر  ،  وابن مسعود  ،  وابن عباس  ،  وابن أبي ليلى  ،  والثوري  ،  والشافعي  ، وقال بالثاني علي  وأبو حنيفة  وأصحابه ، وروي عن مالك     . 
والراجح الأول ، لأنه يبعد كل البعد أن يطلق رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - نساءه على خلاف ما أمره الله به ، وقد أمره بقوله :  إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن      [ الطلاق : 1 ] وروي عن  زيد بن ثابت  أنها إذا اختارت نفسها فثلاث طلقات ، وليس لهذا القول وجه .  
وقد روي عن علي  أنها إذا اختارت نفسها فليس بشيء ، وإذا اختارت زوجها فواحدة رجعية .  
ثم لما اختار نساء رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - رسول الله أنزل فيهن هذه الآيات تكرمة لهن وتعظيما لحقهن ، فقال :  يانساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة   أي : ظاهرة القبح واضحة الفحش ، وقد عصمهن الله عن ذلك وبرأهن وطهرهن  يضاعف لها العذاب ضعفين  أي : يعذبهن مثلي عذاب غيرهن من النساء إذا أتين بمثل تلك الفاحشة ، وذلك لشرفهن وعلو درجتهن وارتفاع منزلتهن .  
وقد ثبت في هذه الشريعة في غير موضع أن تضاعف الشرف وارتفاع الدرجات يوجب لصاحبه إذا عصى تضاعف العقوبات .  
وقرأ أبو عمرو     " يضعف " على البناء للمفعول ، وفرق هو وأبو عبيد   بين يضاعف فقالا : يكون يضاعف ويضعف ، فقالا : يكون يضاعف ثلاثة عذابات ويضعف عذابين .  
قال النحاس     : هذه التفرقة التي جاء بها لا يعرفها أحد من أهل اللغة ، والمعنى في يضاعف ويضعف واحد أي : يجعل ضعفين وهكذا ضعف ما قالاه   ابن جرير  وكان ذلك على الله يسيرا  لا يتعاظمه ولا يصعب عليه . 
ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا   قرأ الجمهور يقنت بالتحتية ، وكذا قرءوا : يأت منكن  حملا على لفظ من في الموضعين ، وقرأ الجحدري   ويعقوب  ، وابن عامر  في رواية وأبو جعفر  بالفوقية حملا على المعنى ، ومعنى " من يقنت " من يطع ، وكذا اختلف القراء في مبينة ، فمنهم من قرأها بالكسر ومنهم من قرأها بفتح الياء كما تقدم في النساء .  
وقرأ ابن كثير  ، وابن عامر     " نضعف " بالنون ونصب " العذاب " وقرئ " نضاعف " بكسر العين على البناء للفاعل  نؤتها أجرها مرتين  قرأ حمزة   والكسائي  بالتحتية ، وكذا قرأ " يعمل " بالتحتية ، وقرأ الباقون " تعمل " بالفوقية ، و " نؤت " بالنون ، ومعنى إتيانهن الأجر مرتين أنه يكون لهن من الأجر على الطاعة مثلا ما يستحقه غيرهن من النساء إذا فعلن تلك الطاعة .  
وفي هذا دليل قوي على أن معنى يضاعف لها العذاب ضعفين   أنه يكون العذاب مرتين لا ثلاثا ، لأن المراد إظهار شرفهن ومزيتهن في الطاعة والمعصية بكون حسنتهن كحسنتين ، وسيئتهن كسيئتين ، ولو كانت سيئتهن كثلاث سيئات لم يناسب ذلك كون حسنتهن كحسنتين ، فإن الله أعدل من أن يضاعف العقوبة عليهن مضاعفة تزيد على مضاعفة أجرهن  وأعتدنا لها  زيادة على الأجر مرتين رزقا كريما      . 
قال المفسرون : الرزق الكريم هو نعيم الجنة ، حكى ذلك عنهم  النحاس     . 
ثم أظهر - سبحانه - فضيلتهن على سائر النساء تصريحا .  
فقال : يانساء النبي لستن كأحد من النساء   قال  الزجاج     : لم يقل كواحدة من النساء ، لأن أحدا نفي عام للمذكر والمؤنث والواحد والجماعة .  
وقد يقال : على ما ليس بآدمي كما يقال : ليس فيها أحد لا شاة ولا بعير .  
والمعنى : لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء في الفضل والشرف .  
ثم قيد هذا الشرف العظيم بقيد فقال : إن اتقيتن  فبين - سبحانه - أن هذه الفضيلة لهن إنما تكون بملازمتهن للتقوى ، لا لمجرد اتصالهن بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - .  
وقد وقعت منهن ولله الحمد التقوى البينة ، والإيمان الخالص ، والمشي على طريقة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في حياته وبعد مماته .  
وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه أي : إن اتقيتن فلستن كأحد من النساء .  
وقيل : إن جوابه فلا تخضعن  والأول أولى . 
ومعنى فلا تخضعن بالقول   لا تلن القول عند مخاطبة الناس كما تفعله المريبات من النساء ، فإنه يتسبب عن ذلك مفسدة عظيمة ، وهي قوله :  فيطمع الذي في قلبه مرض  أي : فجور وشك ونفاق ، وانتصاب يطمع لكونه جواب النهي . كذا قرأ الجمهور .  
وحكى أبو حاتم  أن  الأعرج  قرأ " فيطمع " بفتح الياء وكسر الميم . 
قال النحاس     : أحسب هذا غلطا ، ورويت هذه القراءة عن أبي السمأل   ، وعيسى بن عمر  ، وابن محيصن  ، وروي عنهم أنهم قرءوا    [ ص: 1167 ] بالجزم عطفا على محل فعل النهي وقلن قولا معروفا   عند الناس بعيدا من الريبة على سنن الشرع ، لا ينكر منه سامعه شيئا ، ولا يطمع فيهن أهل الفسق والفجور بسببه .  
وقرن في بيوتكن  قرأ الجمهور " وقرن " بكسر القاف من وقر يقر وقارا أي : سكن ، والأمر منه قر بكسر القاف ، وللنساء قرن مثل عدن وزن .  
وقال  المبرد     : هو من القرار ، لا من الوقار ، تقول قررت بالمكان بفتح الراء ، والأصل اقررن بكسر الراء ، فحذفت الراء الأولى تخفيفا كما قالوا في ظللت ظلت ، ونقلوا حركتها إلى القاف ، واستغني عن ألف الوصل بتحريك القاف .  
وقال أبو علي الفارسي     : أبدلت الراء الأولى ياء كراهة التضعيف كما أبدلت في قيراط ودينار ، وصار للياء حركة الحرف الذي أبدلت منه ، والتقدير اقيرن ، ثم تلقى حركة الياء على القاف كراهة تحريك الياء بالكسر فتسقط الياء لاجتماع الساكنين ، وتسقط همزة الوصل لتحريك ما بعدها فيصير قرن .  
وقرأ نافع  وعاصم  بفتح القاف وأصله قررت بالمكان : إذا أقمت فيه بكسر الراء ، أقر بفتح القاف كحمد يحمد ، وهي لغة  أهل الحجاز   ، ذكر ذلك أبو عبيد  عن  الكسائي  ، وذكرها  الزجاج  وغيره . 
قال الفراء     : هو كما تقول هل حست صاحبك أي : هل أحسسته ؟ قال أبو عبيد     : كان أشياخنا من أهل العربية ينكرون القراءة بالفتح للقاف ، وذلك لأن قررت بالمكان أقر لا يجوزه كثير من أهل العربية .  
والصحيح قررت أقر بالكسر ، ومعناه : الأمر لهن بالتوقر والسكون في بيوتهن وأن لا يخرجن ، وهذا يخالف ما ذكرناه هنا عنه عن   الكسائي  وهو من أجل مشايخه . 
وقد وافقه على الإنكار لهذه القراءة  أبو حاتم  فقال : إن قرن بفتح القاف لا مذهب له في كلام العرب .  
قال النحاس     : قد خولف أبو حاتم  في قوله إنه لا مذهب له في كلام العرب بل فيه مذهبان : أحدهما حكاه   الكسائي  ، والآخر عن علي بن سليمان  فأما المذهب الذي حكاه  الكسائي  فهو ما قدمناه من رواية أبي عبيد  عنه ، وأما المذهب الذي حكاه علي بن سليمان   فقال : إنه من قررت به عينا أقر . والمعنى : واقررن به عينا في بيوتكن . قال  النحاس     : وهو وجه حسن . 
وأقول : ليس بحسن ولا هو معنى الآية ، فإن المراد بها أمرهن بالسكون والاستقرار في بيوتهن ، وليس من قرة العين .  
وقرأ  ابن أبي عبلة     " واقررن " بألف وصل وراءين ، الأولى مكسورة على الأصل  ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى  التبرج : أن تبدي المرأة من زينتها ومحاسنها ما يجب عليها ستره مما تستدعي به شهوة الرجل . وقد تقدم معنى التبرج في سورة النور .  
قال  المبرد     : هو مأخوذ من السعة ، يقال : في أسنانه برج : إذا كانت متفرقة . وقيل : التبرج هو التبختر في المشي ، وهذا ضعيف جدا .  
وقد اختلف في المراد بالجاهلية الأولى ، فقيل : ما بين  آدم  ونوح  ، وقيل : ما بين نوح  وإدريس  ، وقيل : ما بين نوح  وإبراهيم  وقيل : ما بين موسى  وعيسى  ، وقيل : ما بين عيسى  ومحمد     . 
وقال  المبرد     : الجاهلية الأولى كما تقول الجاهلية الجهلاء . 
قال : وكان نساء الجاهلية تظهر ما يقبح إظهاره ، حتى كانت المرأة تجلس مع زوجها وخليلها ، فينفرد خليلها بما فوق الإزار إلى أعلى ، وينفرد زوجها بما دون الإزار إلى أسفل ، وربما سأل أحدهما صاحبه البدل . 
قال ابن عطية     : والذي يظهر لي أنه أشار إلى الجاهلية التي لحقنها فأمرن بالنقلة عن سيرتهن فيها ، وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة ؛ لأنهم كانوا لا غيرة عندهم ، وليس المعنى أن ثم جاهلية أخرى كذا قال ، وهو قول حسن .  
ويمكن أن يراد بالجاهلية الأخرى ما يقع في الإسلام من التشبه بأهل الجاهلية بقول أو فعل ، فيكون المعنى : ولا تبرجن أيها المسلمات بعد إسلامكن تبرجا مثل تبرج الجاهلية التي كنتن عليها ، وكان عليها من قبلكن أي : لا تحدثن بأفعالكن وأقوالكن جاهلية تشابه الجاهلية التي كانت من قبل  وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله   خص الصلاة والزكاة لأنهما أصل الطاعات البدنية والمالية .  
ثم عمم فأمرهن بالطاعة لله ولرسوله في كل ما هو شرع  إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت   أي : إنما أوصاكن الله بما أوصاكن من التقوى ، وأن لا تخضعن بالقول ، ومن قول المعروف ، والسكون في البيوت وعدم التبرج ، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، والطاعة ; ليذهب عنكم الرجس  أهل البيت  ، والمراد بالرجس الإثم والذنب المدنسان للأعراض الحاصلان بسبب ترك ما أمر الله به ، وفعل ما نهى عنه ، فيدخل تحت ذلك كل ما ليس فيه لله رضا ، وانتصاب  أهل البيت  على المدح كما قال  الزجاج  ، قال : وإن شئت على البدل . قال : ويجوز الرفع والخفض .  
قال النحاس     : إن خفض فعلى أنه بدل من الكاف والميم ، واعترضه  المبرد  بأنه لا يجوز البدل من المخاطب ، ويجوز أن يكون نصبه على النداء  ويطهركم تطهيرا  أي : يطهركم من الأرجاس والأدران تطهيرا كاملا . 
وفي استعارة الرجس للمعصية والترشيح لها بالتطهير تنفير عنها بليغ ، وزجر لفاعلها شديد .  
وقد اختلف أهل العلم في أهل البيت   المذكورين في الآية ، فقال  ابن عباس  وعكرمة  وعطاء  والكلبي  ومقاتل   وسعيد بن جبير     : إن أهل البيت  المذكورين في الآية هن زوجات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - خاصة .  
قالوا : والمراد بالبيت بيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ومساكن زوجاته لقوله :  واذكرن ما يتلى في بيوتكن     . 
وأيضا السياق في الزوجات من قوله : ياأيها النبي قل لأزواجك  إلى قوله : واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا      . 
وقال  أبو سعيد الخدري  ومجاهد  ، وقتادة  ، وروي عن الكلبي  أن أهل البيت  المذكورين في الآية هم : علي  ، وفاطمة  ، والحسن  ، والحسين  خاصة ، ومن حججهم الخطاب في الآية بما يصلح للذكور لا للإناث ، وهو قوله : عنكم و ليطهركم ، ولو كان للنساء خاصة لقال عنكن ويطهركن .  
وأجاب الأولون عن هذا أن التذكير باعتبار لفظ الأهل كما قال - سبحانه - :     [ ص: 1168 ] أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت      [ هود : 73 ] وكما يقول الرجل لصاحبه : كيف أهلك ؟ يريد زوجته أو زوجاته ، فيقول : هم بخير .  
ولنذكر هاهنا ما تمسك به كل فريق : أما الأولون فتمسكوا بالسياق ، فإنه في الزوجات كما ذكرنا ، وبما أخرجه   ابن أبي حاتم   وابن عساكر  من طريق عكرمة  عن  ابن عباس  في قوله : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت   قال : نزلت في نساء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - خاصة     . 
وقال عكرمة     : من شاء باهلته أنها نزلت في أزواج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - .  
وأخرج نحوه ابن مردويه  من طريق  سعيد بن جبير  عن  ابن عباس     . وأخرج  ابن جرير  وابن مردويه  عن عكرمة  نحوه . وأخرج ابن سعد  عن عروة  نحوه . 
وأما ما تمسك به الآخرون ، فأخرج الترمذي   وصححه ،  وابن جرير  ، وابن المنذر  ، والحاكم  وصححه وابن مردويه  ، والبيهقي  في سننه من طرق " عن  أم سلمة  قالت : في بيتي نزلت  إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت   وفي البيت فاطمة  وعلي  ، والحسن  والحسين  ، فجللهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بكساء كان عليه ، ثم قال : هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا     . 
وأخرج  ابن جرير  ، وابن المنذر  ،  وابن أبي حاتم  ،  والطبراني  وابن مردويه     " عن  أم سلمة  أيضا أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان في بيتها على منامه له عليه كساء خيبري ، فجاءت  فاطمة  ببرمة فيها خزيرة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ادعي زوجك وابنيك  حسنا  وحسينا  فدعتهم ، فبينما هم يأكلون إذ نزلت على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - :  إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا   فأخذ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بفضلة كسائه فغشاهم إياها ، ثم أخرج يده من الكساء وألوى بها إلى السماء ، ثم قال : اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، قالها ثلاث مرات .  
قالت  أم سلمة    : فأدخلت رأسي في الستر فقلت : يا رسول الله وأنا معكم ؟ فقال : إنك إلى خير مرتين  وأخرجه أيضا أحمد  من حديثها ، قال : ، حدثنا  عبد الله بن نمير  ، حدثنا  عبد الملك بن أبي سليمان  عن  عطاء بن أبي رباح  ، حدثني من سمع  أم سلمة  تذكر أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فذكره .  
وفي إسناده مجهول وهو شيخ عطاء  ، وبقية رجاله ثقات . 
وقد أخرجه  الطبراني   عنها من طريقين بنحوه . 
وقد ذكر ابن كثير   في تفسيره لحديث  أم سلمة  طرقا كثيرة في مسند أحمد  وغيره . 
وأخرج ابن مردويه  والخطيب  من حديث  أبي سعيد الخدري  نحوه . 
وأخرج الترمذي  ،  وابن جرير  ، وابن مردويه  ،  والطبراني  ، وابن مردويه  عن  عمر بن أبي سلمة ربيب النبي     - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : لما نزلت هذه الآية على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -  إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت   وذكر نحو حديث  أم سلمة     . 
وأخرج  ابن أبي شيبة  وأحمد  ، ومسلم  ،  وابن جرير  ،  وابن أبي حاتم  ، والحاكم  عن عائشة  قالت : خرج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود ، فجاءه  الحسن  ، والحسين  فأدخلهما معه ، ثم جاءت  فاطمة  فأدخلها معه ، ثم جاء علي  فأدخله معه ، ثم قال : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا      . 
وأخرج  ابن أبي شيبة  ، وأحمد  ،  وابن جرير  وابن المنذر  ،  وابن أبي حاتم  ،  والطبراني  والحاكم  وصححه ، والبيهقي  في سننه عن  واثلة بن الأسقع  قال جاء رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى  فاطمة  ومعه علي  ، وحسن  وحسين  حتى دخل ، فأدنى عليا  وفاطمة  وأجلسهما بين يديه ، وأجلس حسنا   وحسينا  كل واحد منهما على فخذه ، ثم لف عليهم ثوبه وأنا مستدبرهم ثم تلا هذه الآية  إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت   وقال : اللهم هؤلاء أهل بيتي ، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، قلت : يا رسول الله وأنا من أهلك ؟ قال : وأنت من أهلي     . 
قال واثلة     : إنه لأرجا ما أرجوه . وله طرق في مسند أحمد      . 
وأخرج  ابن أبي شيبة  وأحمد  ،  والترمذي  وحسنه ،  وابن جرير  ، وابن المنذر  ،  والطبراني  والحاكم  وصححه وابن مردويه  عن أنس  أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يمر بباب  فاطمة  إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول : الصلاة يا أهل البيت الصلاة  إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا      . 
وأخرج مسلم  عن  زيد بن أرقم  أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : أذكركم الله في أهل بيتي فقيل : لزيد     : ومن أهل بيته ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال : نساؤه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده :  آل علي  وآل عقيل     : وآل جعفر  ، وآل العباس     . 
وأخرج الحكيم  الترمذي   والطبراني  وابن مردويه  ، والبيهقي  في الدلائل عن  ابن عباس  قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : إن الله قسم الخلق قسمين ، فجعلني في خيرهما قسما ، فذلك قوله :  وأصحاب اليمين    [ الواقعة : 7 ] وأصحاب الشمال    [ الواقعة : 41 ] فأنا من أصحاب اليمين ، وأنا خير أصحاب اليمين . ثم جعل القسمين أثلاثا ، فجعلني في خيرها ثلاثا ، فذلك قوله :  فأصحاب الميمنة    [ الواقعة : 8 ] وأصحاب المشأمة    [ الواقعة : 9 ] والسابقون السابقون    [ الواقعة : 10 ] فأنا من السابقين ، وأنا خير السابقين . ثم جعل الأثلاث قبائل ، فجعلني في خيرها قبيلة ، وذلك قوله :  وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم     [ الحجرات : 13 ] وأنا أتقى ولد آدم  وأكرمهم على الله ولا فخر . ثم جعل القبائل بيوتا ، فجعلني في خيرها بيتا ، فذلك قوله :  إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا   فأنا ، وأهل بيتي مطهرون من الذنوب    . 
وأخرج  ابن جرير  ، وابن مردويه  عن أبي الحمراء  قال : رابطت المدينة  سبعة أشهر على عهد رسول الله ، قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا طلع الفجر جاء إلى باب  علي  وفاطمة  فقال : الصلاة الصلاة  إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا      . 
وفي إسناده أبو داود الأعمى  ، وهو وضاع كذاب . 
وفي الباب أحاديث وآثار ، وقد ذكرنا هاهنا ما يصلح للتمسك به دون ما يصلح .  
وقد توسطت طائفة ثالثة بين الطائفتين ، فجعلت هذه الآية     [ ص: 1169 ] شاملة للزوجات ولعلي  وفاطمة  ، والحسن  والحسين  ، أما الزوجات فلكونهن المرادات في سياق هذه الآيات كما قدمنا ، ولكونهن الساكنات في بيوته - صلى الله عليه وآله وسلم - النازلات في منازله ، ويعضد ذلك ما تقدم عن   ابن عباس  وغيره . 
وأما دخول علي  وفاطمة  ، والحسن  والحسين  فلكونهم قرابته وأهل بيته في النسب ، ويؤيد ذلك ما ذكرناه من الأحاديث المصرحة بأنهم سبب النزول ، فمن جعل الآية خاصة بأحد الفريقين فقد أعمل بعض ما يجب إعماله وأهمل ما لا يجوز إهماله .  
وقد رجح هذا القول جماعة من المحققين منهم القرطبي  وابن كثير  وغيرهما . 
وقال جماعة : هم بنو هاشم  ، واستدلوا بما تقدم من حديث  ابن عباس  وبقول  زيد بن أرقم  المتقدم حيث قال : ولكن آله من حرم الصدقة بعده :  آل علي  ، وآل عقيل    : ، وآل جعفر  ، وآل العباس   ، فهؤلاء ذهبوا إلى أن المراد بالبيت بيت النسب . 
قوله : واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة   أي : اذكرن موضع النعمة إذ صيركن الله في بيوت يتلى فيها آيات الله والحكمة اذكرنها وتفكرن فيها لتتعظن بمواعظ الله ، أو اذكرنها للناس ليتعظوا بها ويهتدوا بهداها ، أو اذكرنها بالتلاوة لها لتحفظنها ولا تتركن الاستكثار من التلاوة .  
قال القرطبي     : قال أهل التأويل وآيات الله هي القرآن ، والحكمة السنة .  
وقال مقاتل  المراد بالآيات والحكمة أمره ونهيه في القرآن     . 
وقيل : إن القرآن جامع بين كونه آيات بينات دالة على التوحيد وصدق النبوة وبين كونه حكمة مشتملة على فنون من العلوم والشرائع  إن الله كان لطيفا خبيرا  أي : لطيفا بأوليائه خبيرا بجميع خلقه وجميع ما يصدر منهم من خير وشر وطاعة ومعصية ، فهو يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته .  
وقد أخرج أحمد  ، ومسلم  ،  والنسائي  وابن مردويه  من طريق أبي الزبير  عن جابر  قال أقبل أبو بكر  يستأذن على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - والناس ببابه جلوس والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - جالس فلم يؤذن له ، ثم أقبل  عمر  فاستأذن فلم يؤذن له ، ثم أذن لأبي بكر  وعمر  فدخلا والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - جالس وحوله نساؤه وهو ساكت ، فقال  عمر    : لأكلمن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لعله يضحك ، فقال  عمر    : يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد امرأة عمر   سألت النفقة آنفا فوجأت في عنقها ، فضحك النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى بدت نواجذه وقال : هن حولي يسألنني النفقة ، فقام  أبو بكر  إلى عائشة  ليضربها ، وقام  عمر  إلى حفصة  ، كلاهما يقولان : تسألان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ما ليس عنده ، فنهاهما رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فقلن نساؤه : والله لا نسأل رسول الله بعد هذا المجلس ما ليس عنده ، وأنزل الله الخيار ، فنادى  بعائشة  فقال : إني ذاكر لك أمرا ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك ، قالت : ما هو ؟ فتلا عليها  ياأيها النبي قل لأزواجك  الآية ، قالت  عائشة    : أفيك أستأمر أبوي ، بل أختار الله رسوله ، وأسألك أن لا تذكر لنسائك ما اخترت ، فقال : إن الله لن يبعثني متعنتا ولكن بعثني معلما مبشرا ، لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها     . 
وأخرج  البخاري  ، ومسلم  وغيرهما عن عائشة  أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - جاءها حين أمره الله أن يخير أزواجه قالت : فبدأ بي فقال : إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك ، وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه ، فقال : إن الله قال :  ياأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا   إلى تمام الآية ، فقلت له : ففي أي هذا أستأمر أبوي ، فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة ، وفعل أزواج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مثل ما فعلت     . 
وأخرج  ابن أبي حاتم  وابن مردويه  عن  ابن عباس  في قوله : ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا   قال يقول : من يطع الله منكن وتعمل منكن لله ورسوله بطاعته     . 
وأخرج ابن المنذر  عنه في قوله : فلا تخضعن بالقول  قال : يقول لا ترخصن بالقول ولا تخضعن بالكلام . 
وأخرج  ابن المنذر  عنه أيضا في قوله : فلا تخضعن بالقول   قال : مقارنة الرجال في القول حتى يطمع الذي في قلبه مرض .  
وأخرج  عبد بن حميد  ، وابن المنذر  ، عن  محمد بن سيرين  قال : نبئت أنه قيل :  لسودة زوج النبي    - صلى الله عليه وآله وسلم - : ما لك لا تحجين ولا تعتمرين كما يفعل أخواتك ؟ فقالت : قد حججت واعتمرت وأمرني الله أن أقر في بيتي ، فوالله لا أخرج من بيتي حتى أموت ، قال : فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت بجنازتها     . 
وأخرج  ابن أبي شيبة  وابن سعد  ، وعبد الله بن أحمد  في زوائد الزهد ، وابن المنذر  ، عن مسروق  قال : كانت عائشة  إذا قرأت وقرن في بيوتكن  بكت حتى تبل خمارها    . 
وأخرج  ابن جرير  ، وابن المنذر  ،  وابن أبي حاتم  ، والحاكم  وابن مردويه  ، والبيهقي  في الشعب قال : كانت الجاهلية الأولى فيما بين نوح  وإدريس  وكانت ألف سنة . 
وأخرج  ابن جرير  ، وابن المنذر  ،  وابن أبي حاتم  ، وابن مردويه  عن  ابن عباس  أن  عمر بن الخطاب  سأله فقال : أرأيت قول الله لأزواج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -  ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى  هل كانت جاهلية غير واحدة ، فقال  ابن عباس    : ما سمعت بأولى إلا ولها آخرة ، فقال له  عمر    : فأتني من كتاب الله ما يصدق ذلك ، فقال : إن الله يقول :  وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم     [ الحج : 78 ] أول مرة فقال عمر    : من أمرنا أن نجاهد ؟ قال :  مخزوم  وعبد شمس     . 
وأخرج  ابن أبي حاتم  عن  ابن عباس  أيضا في الآية قال : تكون جاهلية أخرى . وأخرج  ابن أبي حاتم  عن عائشة    : أنها تلت هذه الآية فقالت : الجاهلية الأولى كانت على عهد  إبراهيم     . وأخرج ابن مردويه  عن  ابن عباس  قال : الجاهلية الأولى ما بين  عيسى  ومحمد     . 
وقد قدمنا ذكر الآثار الواردة في سبب نزول قوله :  إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت      . 
وأخرج ، عبد الرزاق  ، وابن سعد  ،  وابن جرير  ، وابن المنذر  ،  وابن أبي حاتم  ، عن قتادة  في قوله : واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة   قال : القرآن والسنة يمتن بذلك عليهن    . 
وأخرج ابن سعد  عن أبي أمامة  عن سهل  في قوله : واذكرن ما يتلى في بيوتكن   الآية قال : كان رسول الله   [ ص: 1170 ]   - صلى الله عليه وآله وسلم - يصلي في بيوت أزواجه النوافل بالليل والنهار     . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					