في انتصاب كافة وجوه ، فقيل : إنه منتصب على الحال من الكاف في أرسلناك قال أي : وما أرسلناك إلا جامعا للناس بالإنذار والإبلاغ ، والكافة بمعنى : الجامع ، والهاء فيه للمبالغة كعلامة . الزجاج
قال أبو حيان : أما قول إن كافة بمعنى : جامعا ، والهاء فيه للمبالغة ، فإن اللغة لا تساعد عليه ؛ لأن كف ليس معناه جمع ، بل معناه منع . يقال : كف يكف أي : منع يمنع . الزجاج
والمعنى : إلا مانعا لهم من الكفر ، ومنه الكف لأنها تمنع من خروج ما فيه .
وقيل : إنه منتصب على المصدرية والهاء للمبالغة كالعاقبة والعافية ، والمراد أنها صفة مصدر محذوف أي : إلا رسالة كافة .
وقيل : إنه حال من الناس والتقدير : وما أرسلناك إلا للناس كافة ، ورد بأنه لا يتقدم الحال من المجرور عليه كما هو مقرر في علم الإعراب .
ويجاب عنه بأنه قد جوز ذلك أبو علي الفارسي ، وابن كيسان ، وابن برهان ، ومنه قول الشاعر :
إذا المرء أعيته السيادة ناشئا فمطلبها كهلا عليه عسير
وقول الآخر :
تسليت طرا عنكم بعد بينكم بذكراكم حتى كأنكم عندي
وقول الآخر :
غافلا تعرض المنية للمر ء فيدعى ولات حين إباء
وقيل : المعنى إلا ذا كافة أي : ذا منع ، فحذف المضاف .
قيل : واللام في للناس بمعنى إلى أي : وما أرسلناك إلى الناس إلا جامعا لهم بالإنذار والإبلاغ ، أو مانعا لهم من الكفر والمعاصي ، وانتصاب بشيرا ونذيرا على الحال أي : مبشرا لهم بالجنة ، ومنذرا لهم من النار ولكن أكثر الناس لا يعلمون ما عند الله من النفع في إرسال الرسل .
ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين أي : متى يكون هذا الوعد الذي تعدونا به وهو قيام الساعة أخبرونا به إن كنتم صادقين ، قالوا هذا على طريقة الاستهزاء برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ومن معه من المؤمنين فأمر الله رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يجيب عنهم فقال : قل لكم ميعاد يوم أي : ميقات يوم ، وهو يوم البعث . وقيل : وقت حضور الموت ، وقيل : أراد يوم بدر ; لأنه كان يوم عذابهم في الدنيا ، وعلى كل تقدير فهذه الإضافة للبيان ، ويجوز في ميعاد : أن يكون مصدرا مرادا به الوعد ، وأن يكون اسم زمان .
قال أبو عبيدة : الوعد والوعيد والميعاد بمعنى .
وقرأ بتنوين " ميعاد " ورفعه ، ونصب " يوم " على أن يكون ميعاد مبتدأ ، ويوما ظرف ، والخبر لكم . ابن أبي عبلة
وقرأ عيسى بن عمر برفع " ميعاد " منونا ، ونصب " يوم " مضافا إلى الجملة بعده .
وأجاز النحويون " ميعاد يوم " برفعهما منونين على أن ( ميعاد ) مبتدأ ( ويوم ) بدل منه ، وجملة لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون صفة ل ميعاد أي : هذا الميعاد المضروب لكم لا تتأخرون عنه ولا تتقدمون عليه ، بل يكون لا محالة في الوقت الذي قد قدر الله وقوعه فيه .
ثم ذكر - سبحانه - طرفا من قبائح الكفار ونوعا من أنواع كفرهم ، فقال : وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه وهي الكتب القديمة ، كالتوراة والإنجيل ، والرسل المتقدمون .
وقيل : المراد بـ الذي بين يديه الدار الآخرة .
ثم أخبر - سبحانه - عن حالهم في الآخرة ، فقال : ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم الخطاب لمحمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ، أو لكل من يصلح له ، ومعنى موقوفون عند ربهم : محبوسون في موقف الحساب [ ص: 1199 ] يرجع بعضهم إلى بعض القول أي : يتراجعون الكلام فيما بينهم باللوم والعتاب بعد أن كانوا في الدنيا متعارضين متناصرين متحابين .
ثم بين - سبحانه - تلك المراجعة فقال : يقول الذين استضعفوا وهم : الأتباع للذين استكبروا وهم : الرؤساء المتبوعون لولا أنتم صددتمونا عن الإيمان بالله والاتباع لرسوله لكنا مؤمنين بالله مصدقين لرسوله وكتابه قال الذين استكبروا للذين استضعفوا مجيبين عليهم مستنكرين لما قالوه : أنحن صددناكم عن الهدى أي : منعناكم عن الإيمان بعد إذ جاءكم الهدى ، قالوا هذا منكرين لما ادعوه عليهم من الصد لهم ، وجاحدين لما نسبوه إليهم من ذلك ، ثم بينوا لهم أنهم الصادون لأنفسهم ، الممتنعون من الهدى بعد إذ جاءهم ، فقالوا : بل كنتم مجرمين أي : مصرين على الكفر ، كثيري الإجرام ، عظيمي الآثام .
وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا ردا لما أجابوا به عليهم ، ودفعا لما نسبوه إليهم من صدهم لأنفسهم بل مكر الليل والنهار أصل المكر في كلام العرب : الخديعة ، والحيلة ، يقال : مكر به : إذا خدعه واحتال عليه .
والمعنى : بل مكركم بنا الليل والنهار ، فحذف المضاف إليه ، وأقيم الظرف مقامه اتساعا .
وقال الأخفش : هو على تقدير هذا مكر الليل والنهار .
قال النحاس : المعنى والله أعلم ، بل مكركم في الليل والنهار ، ودعاؤكم لنا إلى الكفر هو الذي حملنا على هذا .
وقال : بل عملكم في الليل والنهار ، ويجوز أن يجعل الليل والنهار ماكرين على الإسناد المجازي كما تقرر في علم المعاني . سفيان الثوري
قال كما تقول العرب : نهاره صائم ، وليله قائم ، وأنشد قول المبرد جرير :
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ونمت وما ليل المطي بنائم
وأنشد : سيبويه
قيام ليلي وتجلي همي
وقرأ قتادة ، برفع " مكر " منونا ، ونصب " الليل والنهار " ، والتقدير : بل مكر كائن في الليل والنهار . ويحيى بن يعمر
وقرأ ، سعيد بن جبير وأبو رزين بفتح الكاف وتشديد الراء مضافا بمعنى الكرور ، من كر يكر : إذا جاء وذهب ، وارتفاع مكر على هذه القراءات على أنه مبتدأ وخبره محذوف أي : مكر الليل والنهار صدنا ، أو على أنه فاعل لفعل محذوف أي : صدنا مكر الليل والنهار ، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف كما تقدم عن الأخفش .
وقرأ طلحة بن راشد كما قرأ ، ولكنه نصب مكر على المصدرية أي : بل تكررن الإغواء مكرا دائما لا تفترون عنه ، وانتصاب إذ تأمروننا على أنه ظرف للمكر أي : بل مكركم بنا وقت أمركم لنا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا أي : أشباها ، وأمثالا . سعيد بن جبير
قال : يقال : ند فلان فلان أي : مثله وأنشد : المبرد
أتيما تجعلون إلي ندا وما تيم بذي حسب نديد
والضمير في قوله : وأسروا الندامة لما رأوا العذاب راجع إلى الفريقين أي : أضمر الفريقان الندامة على ما فعلوا من الكفر ، وأخفوها عن غيرهم ، أو أخفاها كل منهم عن الآخر مخافة الشماتة .
وقيل : المراد بأسروا هنا أظهروا ; لأنه من الأضداد يكون ، تارة بمعنى الإخفاء ، وتارة بمعنى الإظهار ، ومنه قول امرئ القيس :
تجاوزت أحراسا وأهوال معشر علي حراص لو يسرون مقتلي
وقيل : معنى أسروا في : تبينت الندامة في أسرة وجوههم وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا الأغلال جمع غل ، يقال : في رقبته غل من حديد أي : جعلت الأغلال من الحديد في أعناق هؤلاء في النار ، والمراد بالذين كفروا : هم المذكورون سابقا ، والإظهار لمزيد الذم أو للكفار على العموم فيدخل هؤلاء فيهم دخولا أوليا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون أي : إلا جزاء ما كانوا يعملونه من الشرك بالله ، أو إلا بما كانوا يعملون على حذف الخافض .
وقد أخرج ، ابن أبي شيبة وابن المنذر ، عن مجاهد في قوله : وما أرسلناك إلا كافة للناس قال : إلى الناس جميعا .
وأخرج ، عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن وابن أبي حاتم قتادة قال : أرسل الله محمدا إلى العرب والعجم فأكرمهم على الله أطوعهم له .
وأخرج هؤلاء عنه في قوله : وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن قال : هذا قول مشركي العرب كفروا بالقرآن وبالذي بين يديه من الكتب والأنبياء .