[ ص: 96 ] قوله : أم كنتم شهداء ( أم ) هذه قيل : هي المنقطعة ، وقيل : هي المتصلة ، وفي الهمزة الإنكار المفيد للتقريع والتوبيخ ، والخطابلليهود والنصارى الذين ينسبون إلى إبراهيم وإلى بنيه أنهم على اليهودية والنصرانية ، فرد الله ذلك عليهم وقال لهم : أشهدتم يعقوب وعلمتم بما أوصى به بنيه فتدعون ذلك عن علم ، أم لم تشهدوا بل أنتم مفترون .
والشهداء جمع شاهد ، ولم ينصرف لأن فيه ألف التأنيث التي لتأنيث الجماعة ، والعامل في ( إذ ) الأولى معنى الشهادة ، و ( إذ ) الثانية بدل من الأولى ، والمراد بحضور الموت حضور مقدماته ، وإنما جاء بـ " ما " دون " من " في قوله : ما تعبدون لأن المعبودات من دون الله غالبها جمادات كالأوثان والنار والشمس والكواكب .
ومعنى من بعدي أي من بعد موتي .
وقوله : إبراهيم وإسماعيل وإسحاق عطف بيان لقوله : آبائك وإسماعيل وإن كان عما ليعقوب لأن العرب تسمي العم أبا وقوله : إلها بدل من إلهك وإن كان نكرة فذلك جائز ولا سيما بعد تخصيصه بالصفة التي هي قوله : واحدا فإنه قد حصل المطلوب من الإبدال بهذه الصفة .
وقيل : إن إلها منصوب على الاختصاص ، وقيل : إنه حال .
قال ابن عطية : وهو قول حسن ، لأن الغرض إثبات حال الوحدانية .
وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر وأبو رجاء العطاردي " وإله أبيك " فقيل : أراد إبراهيم وحده .
ويكون قوله : وإسماعيل عطفا على أبيك وكذلك إسحاق وإن كان هو أباه حقيقة وإبراهيم جده ، ولكن لإبراهيم مزيد خصوصية ، وقيل : إن قوله : ( أبيك ) جمع كما روي عن سيبويه أن ( أبين ) جمع سلامة ومثله أبون ، ومنه قول الشاعر :
فلما تبين أصواتنا بكين وفديننا بالأبينا
وقوله : ونحن له مسلمون جملة حالية ، أي نعبده حال إسلامنا له ، وجوز الزمخشري أن تكون إعتراضية على ما يذهب إليه من جواز وقوع الجمل الاعتراضية آخر الكلام . والإشارة بقوله : تلك إلى إبراهيم وبنيه ويعقوب وبنيه و أمة بدل منه وخبره قد خلت أو ( أمة ) خبره ، و قد خلت نعت ل ( أمة ) وقوله : لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون بيان لحال تلك الأمة وحال المخاطبين بأن لكل من الفريقين كسبه ، لا ينفعه كسب غيره ولا يناله منه شيء ولا يضره ذنب غيره ، وفيه الرد على من يتكل على عمل سلفه ويروح نفسه بالأماني الباطلة ، ومنه ما ورد في الحديث : من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه والمراد : أنكم لا تنتفعون بحسناتهم ولا تؤاخذون بسيئاتهم ولا تسألون عن أعمالهم كما لا يسألون عن أعمالكم ، ومثله ولا تزر وازرة وزر أخرى ، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى .
ولما ادعت اليهود والنصارى أن الهداية بيدها والخير مقصور عليها رد الله ذلك عليهم بقوله : بل ملة إبراهيم أي قل يا محمد هذه المقالة ، ونصب " ملة " بفعل مقدر ، أي نتبع ، وقيل التقدير : نكون ملة إبراهيم ، أي أهل ملته ، وقيل : بل نهتدي بملة إبراهيم ، فلما حذف حرف الجر صار منصوبا .
وقرأ الأعرج وابن أبي عبلة " ملة " بالرفع ، أي بل الهدى ملة إبراهيم .
والحنيف : المائل عن الأديان الباطلة إلى دين الحق ، وهو في أصل اللغة : الذي تميل قدماه كل واحدة إلى أختها .
قال الزجاج وهو منصوب على الحال ، أي نتبع ملة إبراهيم حال كونه حنيفا .
وقال علي بن سليمان : هو منصوب بتقدير ( أعني ) والحال خطأ كما لا يجوز جاءني غلام هند مسرعة .
وقال في الكشاف : هو حال من المضاف إليه كقولك : رأيت وجه هند قائمة . وقال قوم : الحنف الاستقامة ، فسمي دين إبراهيم حنيفا لاستقامته ، وسمي معوج الرجلين أحنف تفاؤلا بالاستقامة ، كما قيل للديغ سليم ، وللمهلكة مفازة .
وقد استدل من قال بأن الحنيف في اللغة المائل لا المستقيم بقول الشاعر :
إذا حول الظل العشي رأيته حنيفا وفي قرن الضحى يتنصر
والله لولا حنف في رجله ما كان في رجالكم من مثله
وقوله : قولوا آمنا بالله خطاب للمسلمين وأمر لهم بأن يقولوا هذه المقالة ، وقيل : إنه خطاب للكفار بأن يقولوا كذلك حتى يكونوا على الحق ، والأول أظهر .
والأسباط : أولاد يعقوب وهم اثنا عشر ولدا ، ولكل واحد منهم من الأولاد جماعة ، والسبط في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في العرب ، وسموا الأسباط من السبط وهو التتابع ، فهم جماعة متتابعون ، وقيل : أصله من السبط بالتحريك وهو الشجر ، أي هم في الكثرة بمنزلة الشجر ، وقيل : الأسباط حفدة يعقوب ، أي أولاد أولاده لا أولاده ، لأن الكثرة إنما كانت فيهم دون أولاد يعقوب في نفسه ، فهم أفراد لا أسباط .
وقوله : لا نفرق بين أحد منهم قال الفراء : معناه لا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم كما فعلت اليهود والنصارى .
قال في الكشاف : وأحد في معنى الجماعة ، ولذلك صح دخول بين عليه .
وقوله : فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به هذا الخطاب للمسلمين أيضا ، أي فإن آمن أهل الكتاب وغيرهم بمثل ما آمنتم به من جميع [ ص: 97 ] كتب الله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم فقد اهتدوا ، وعلى هذا فمثل زائدة كقوله : ليس كمثله شيء وقول الشاعر :
فصيروا مثل كعصف مأكول
وقيل : إن المماثلة وقعت بين الإيمانين ، أي فإن آمنوا بمثل إيمانكم .وقال في الكشاف : إنه من باب التبكيت لأن دين الحق واحد لا مثل له ، وهو : دين الإسلام ، قال ، أي فإن حصلوا دينا آخر مثل دينكم مساويا له في الصحة والسداد فقد اهتدوا ، وقيل : إن الباء زائدة مؤكدة ، وقيل : إنها للاستعانة .
والشقاق أصله من الشق وهو الجانب ، كأن كل واحد من الفريقين في جانب غير الجانب الذي فيه الآخر ، وقيل : إنه مأخوذ من فعل ما يشق ويصعب ، فكل واحد من الفريقين يحرص على فعل ما يشق على صاحبه ، ويصح حمل الآية على كل واحد من المعنيين ، وكذلك قول الشاعر :
وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق
إلى كم تقبل العلماء قسرا وتفخر بالشقاق وبالنفاق
وقوله : صبغة الله قال الأخفش وغيره ، أي دين الله ، قال : وهي منتصبة على البدل من ( ملة ) ، كما قاله الفراء .
وقال في الكشاف : إنها مصدر مؤكد منتصب عن قوله : آمنا بالله كما انتصب وعد الله عما تقدمه ، وهي فعلة من صبغ كالجلسة من جلس ، وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ ، والمعنى تطهير الله لأن الإيمان تطهير النفوس . انتهى ، وبه قال سيبويه ، أي كونه مصدرا مؤكدا .
وقد ذكر المفسرون أن أصل ذلك أن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في الماء ، وهو الذي يسمونه المعمودية ويجعلون ذلك تطهيرا لهم ، فإذا فعلوا ذلك قالوا الآن صار نصرانيا حقا ، فرد الله عليهم بقوله : صبغة الله أي الإسلام ، وسماه صبغة استعارة ، ومنه قول بعض شعراء همدان :
وكل أناس لهم صبغة وصبغة همدان خير الصبغ
صبغنا على ذاك أولادنا فأكرم بصبغتنا في الصبغ
وقال الجوهري : صبغة الله دينه وهو يؤيد ما تقدم عن الفراء ، وقيل : الصبغة الختان .
وقوله : قل أتحاجوننا في الله أي أتجادلوننا في الله ، أي في دينه والقرب منه والحظوة عنده ، وذلك كقولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه وقرأ ابن محيصن " أتحاجونا " بالإدغام لاجتماع المثلين .
وقوله : وهو ربنا وربكم أي نشترك نحن وأنتم في ربوبيته لنا وعبوديتنا له ، فكيف تدعون أنكم أولى به منا وتحاجوننا في ذلك .
وقوله : لنا أعمالنا ولكم أعمالكم أي لنا أعمال ولكم أعمال فلستم بأولى بالله منا ، وهو مثل قوله تعالى : فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون .
وقوله : ونحن له مخلصون أي نحن أهل الإخلاص للعبادة دونكم ، وهو المعيار الذي يكون به التفاضل والخصلة التي يكون صاحبها أولى بالله سبحانه من غيره ، فكيف تدعون لأنفسكم ما نحن أولى به منكم وأحق ؟ وفيه توبيخ لهم وقطع لما جاءوا به من المجادلة والمناظرة .
وقوله : " أم يقولون " قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص تقولون بالتاء الفوقية ، وعلى هذه القراءة تكون " أم " هاهنا معادلة للهمزة في قوله : أتحاجوننا أي أتحاجوننا في الله أم تقولون إن هؤلاء الأنبياء على دينكم ، وعلى قراءة الياء التحتية تكون " أم " منقطعة ، أي بل يقولون ، وقوله : قل أأنتم أعلم أم الله فيه تقريع وتوبيخ ، أي أن الله أخبرنا بأنهم لم يكونوا هودا ولا نصارى وأنتم تدعون أنهم كانوا هودا أو نصارى فهل أنتم أعلم أم الله سبحانه .
وقوله : ومن أظلم استفهام ، أي لا أحد أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله يحتمل أن يريد بذلك الذم لأهل الكتاب بأنهم يعلمون أن هؤلاء الأنبياء ما كانوا هودا ولا نصارى ، بل كانوا على الملة الإسلامية ، فظلموا أنفسهم بكتمهم لهذه الشهادة بل بادعائهم لما هو مخالف لها ، وهو أشد في الذنب ممن اقتصر على مجرد الكتم الذي لا أحد أظلم منه ، ويحتمل أن المراد أن المسلمين لو كتموا هذه الشهادة لم يكن أحد أظلم منهم ، ويكون المراد بذلك التعريض بأهل الكتاب ، وقيل : المراد هنا ما كتموه من صفة محمد صلى الله عليه وسلم .
وفي قوله : وما الله بغافل عما تعملون وعيد شديد ، وتهديد ليس عليه مزيد ، وإعلام بأن الله سبحانه لا يترك عقوبتهم على هذا الظلم القبيح والذنب الفظيع .
وكرر قوله سبحانه : تلك أمة قد خلت إلى آخر الآية لتضمنها معنى التهديد والتخويف الذي هو المقصود في هذا المقام .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : أم كنتم شهداء يعني أهل الكتاب .
وأخرج أيضا عن الحسن في قوله : أم كنتم شهداء قال : يقول : لم يشهد اليهود ولا النصارى ولا أحد من الناس يعقوب إذ أخذ على بنيه الميثاق إذ حضره الموت : أن لا تعبدوا إلا الله ، فأقروا بذلك وشهد عليهم أن قد أقروا بعبادتهم أنهم مسلمون .
وأخرج عن ابن عباس أنه كان يقول : الجد أب ويتلو الآية .
وأخرج أيضا عن أبي العالية في الآية قال : سمي العم أبا .
وأخرج أيضا نحوه عن محمد بن كعب .
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : قال عبد الله بن صوريا الأعور للنبي صلى الله عليه وسلم : ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتبعنا يا محمد تهتد ، وقالت النصارى مثل ذلك ، فأنزل الله فيهم : وقالوا كونوا هودا الآية .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : حنيفا قال : متبعا .
[ ص: 98 ] وأخرجا أيضا عن ابن عباس في قوله : حنيفا قال : حاجا .
وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب قال : الحنيف المستقيم .
وأخرج أيضا عن خصيف قال : الحنيف المخلص .
وأخرج أيضا عن أبي قلابة قال : الحنيف الذي يؤمن بالرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم .
وأخرج أحمد عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بعثت بالحنيفية السمحة .
وأخرج أحمد أيضا والبخاري في الأدب المفرد وابن المنذر عن ابن عباس قال : قيل : يا رسول الله أي الأديان أحب إلى الله ؟ قال : الحنيفية السمحة .
وأخرج الحاكم في تاريخه وابن عساكر من حديث أسعد بن عبد الله بن مالك الخزاعي مرفوعا مثله .
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في ركعتي الفجر في الأولى منهما الآية التي في البقرة قولوا آمنا بالله كلها وفي الآخرة آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون .
وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا : آمنا بالله الآية .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : الأسباط بنو يعقوب كانوا اثني عشر رجلا كل واحد منهم ولد أمة من الناس .
وروى نحوه ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي ، وحكاه ابن كثير في تفسيره عن أبي العالية والربيع وقتادة .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال : لا تقولوا : " فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به " ، فإن الله لا مثل له ، ولكن قولوا : فإن آمنوا بالذي آمنتم به .
وأخرج ابن أبي داود في المصاحف والخطيب في تاريخه عن أبي جمرة قال : كان ابن عباس يقرأ فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به .
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : فإنما هم في شقاق قال : فراق .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : صبغة الله قال : دين الله .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد قال : فطرة الله التي فطر الناس عليها .
وأخرج ابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن بني إسرائيل قالوا : يا موسى هل يصبغ ربك ؟ فقال : اتقوا الله ، فناداه ربه : يا موسى سألوك هل يصبغ ربك فقل : نعم ، أنا أصبغ الألوان الأحمر والأبيض والأسود ، والألوان كلها في صبغتي وأنزل الله على نبيه : صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة .
وأخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس موقوفا .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال : إن اليهود تصبغ أبناءها يهودا ، والنصارى تصبغ أبناءها نصارى وإن صبغة الله الإسلام ولا صبغة أحسن من صبغة الإسلام ولا أطهر وهو دين الله الذي بعث به نوحا ومن كان بعده من الأنبياء .
وأخرج ابن النجار في تاريخ بغداد عن ابن عباس في قوله : صبغة الله قال : البياض .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : أتحاجوننا قال : أتخاصموننا .
وأخرج ابن جرير عنه قال : أتجادلوننا .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله : ومن أظلم ممن كتم شهادة الآية ، قال : أولئك أهل الكتاب كتموا الإسلام وهم يعلمون أنه دين الله ، واتخذوا اليهودية والنصرانية ، وكتموا محمدا وهم يعلمون أنه رسول الله .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد نحوه .
وأخرج ابن جرير عن الحسن نحوه .
وأخرج ابن جرير عن قتادة والربيع في قوله : تلك أمة قد خلت قال : يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط .


