لما ذكر - سبحانه - النعم التي أنعم بها على عباده وبين لهم من بديع صنعه وعجيب فعله ما يوجب على كل عاقل أن يؤمن به عقبه بقوله : إن تكفروا فإن الله غني عنكم أي : غير محتاج إليكم ولا إلى إيمانكم ولا إلى عبادتكم له فإنه الغني المطلق ، " و " مع كون كفر الكافر لا يضره كما أنه لا ينفعه إيمان المؤمن ، فهو أيضا لا يرضى لعباده الكفر أي : لا يرضى لأحد من عباده الكفر ولا يحبه ولا يأمر به ، ومثل هذه الآية قوله : إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد [ إبراهيم : 8 ] ومثلها ما ثبت في صحيح مسلم من قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : " " . يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على قلب أفجر رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا
وقد اختلف المفسرون في هذه الآية هل هي على عمومها ، وإن - سبحانه - على كل حال كما هو الظاهر ، أو هي خاصة ؟ والمعنى : لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر ، وقد ذهب إلى التخصيص حبر الأمة الكفر غير مرضي لله - رضي الله عنه - كما سيأتي بيانه آخر البحث ، وتابعه على ذلك ابن عباس عكرمة والسدي وغيرهما . ثم اختلفوا في الآية اختلافا آخر . فقال قوم : إنه يريد كفر الكافر ولا يرضاه ، وقال آخرون : إنه لا يريده ولا يرضاه ، والكلام في تحقيق مثل هذا يطول جدا .
وقد استدل القائلون بتخصيص هذه الآية ، والمثبتون للإرادة مع عدم الرضا بما ثبت في آيات كثيرة من الكتاب العزيز أنه - سبحانه - يضل من يشاء [ الرعد : 27 ] ويهدي من يشاء [ يونس : 25 ] وما تشاءون إلا أن يشاء الله [ الإنسان : 30 ، والتكوير : 29 ] ونحو هذا مما يؤدي معناه كثير في الكتاب العزيز .
ثم لما ذكر - سبحانه - أنه لا يرضى لعباده الكفر بين أنه يرضى لهم الشكر فقال : وإن تشكروا يرضه لكم أي : يرضى لكم الشكر المدلول عليه بقوله وإن تشكروا ويثبكم عليه ، وإنما كما قال - سبحانه - : رضي لهم - سبحانه - الشكر لأنه سبب سعادتهم في الدنيا والآخرة لئن شكرتم لأزيدنكم [ إبراهيم : 7 ] قرأ أبو جعفر وأبو عمرو وشيبة وهبيرة عن عاصم بإسكان الهاء من " يرضه " ، وأشبع الضمة على الهاء ابن ذكوان وابن كثير والكسائي وابن محيصن عن وورش نافع ، واختلس الباقون . ولا تزر وازرة وزر أخرى أي : لا تحمل نفس حاملة للوزر حمل نفس أخرى ، وقد تقدم تفسير هذه الآية مستوفى . ثم إلى ربكم مرجعكم يوم القيامة . فينبئكم بما كنتم تعملون من خير وشر ، وفيه تهديد شديد . إنه عليم بذات الصدور أي : ما تضمره القلوب وتستره ، فكيف بما تظهره وتبديه .
وإذا مس الإنسان ضر أي : ضر كان من مرض أو فقر أو خوف دعا ربه منيبا إليه أي : راجعا إليه مستغيثا به في دفع ما نزل به تاركا ما كان يدعوه ويستغيث به من ميت أو حي أو صنم أو غير ذلك ثم إذا خوله نعمة منه أي : أعطاه وملكه ، يقال : خوله أي : ملكه إياه ، وكان ينشد : أبو عمرو بن العلاء
هنالك إن يستخبلوا المال يخبلوا وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا
ومنه قول أبي النجم :
أعطى فلم يبخل ولم يبخل كوم الذرى من خول المخول
نسي ما كان يدعو إليه من قبل أي : نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه عنه من قبل أن يخوله ما خوله وقيل : نسي الدعاء الذي كان يتضرع به وتركه أو نسي ربه الذي كان يدعوه ويتضرع إليه ، ثم جاوز ذلك إلى الشرك بالله ، وهو معنى قوله : وجعل لله أندادا أي : شركاء من الأصنام أو غيرها يستغيث بها ويعبدها ليضل عن سبيله أي : ليضل الناس عن طريق الله التي هي الإسلام والتوحيد .
وقال : يعني أندادا من الرجال يعتمد عليهم في جميع أموره . السدي
ثم أمر الله - سبحانه - رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يهدد من كان متصفا بتلك الصفة فقال : قل تمتع بكفرك قليلا أي : تمتعا قليلا أو زمانا قليلا ، فمتاع الدنيا قليل ، ثم علل ذلك بقوله : إنك من أصحاب النار أي : مصيرك إليها عن قريب ، وفيه من التهديد أمر عظيم .
قال : لفظه لفظ الأمر ، ومعناه التهديد والوعيد قرأ الجمهور ( ليضل ) بضم الياء ، وقرأ الزجاج ابن كثير وأبو عمرو بفتحها .
ثم لما ذكر - سبحانه - صفات المشركين وتمسكهم بغير الله عند اندفاع المكروهات عنهم ذكر صفات المؤمنين فقال : أمن هو قانت آناء الليل وهذا إلى آخره من تمام الكلام المأمور به رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - .
والمعنى ذلك الكافر [ ص: 1277 ] أحسن حالا ومآلا ، أمن هو في ساعات الليل ، مستمر على ذلك غير مقتصر على دعاء الله - سبحانه - عند نزول الضرر به . قائم بطاعات الله في السراء والضراء
قرأ الحسن وأبو عمرو ، وابن عامر وعاصم أمن بالتشديد ، وقرأ والكسائي نافع وابن كثير ، وحمزة ، ويحيى بن وثاب بالتخفيف ، فعلى القراءة الأولى " أم " داخلة على " من " الموصولة وأدغمت الميم في الميم و " أم " هي المتصلة ، ومعادلها محذوف تقديره : الكافر خير أم الذي هو قانت . والأعمش
وقيل : هي المنقطعة المقدرة بـ : بل والهمزة أي : بل أمن هو قانت كالكافر ، وأما على القراءة الثانية فقيل : الهمزة للاستفهام دخلت على من ، والاستفهام للتقرير ومقابله محذوف أي : أمن هو قانت كمن كفر .
وقال الفراء : إن الهمزة في هذه القراءة للنداء و " من " منادى ، وهي عبارة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - المأمور بقوله قل تمتع والتقدير : يا من هو قانت ، قل : كيت وكيت ، وقيل : التقدير : يا من هو قانت إنك من أصحاب الجنة .
ومن القائلين بأن الهمزة للنداء الفراء ، وضعف ذلك أبو حيان ، وقال : هو أجنبي عما قبله وعما بعده ، وقد سبقه إلى هذا التضعيف أبو علي الفارسي ، واعترض على هذه القراءة من أصلها أبو حاتم والأخفش ولا وجه لذلك فإنا إذا ثبتت الرواية بطلت الدراية .
وقد اختلف في تفسير القانت هنا فقيل : المطيع ، وقيل : الخاشع في صلاته ، وقيل : القائم في صلاته ، وقيل : الداعي لربه .
قال النحاس : أصل القنوت الطاعة ، فكل ما قيل فيه فهو داخل في الطاعة ، والمراد بآناء الليل ساعاته ، وقيل : جوفه ، وقيل : ما بين المغرب والعشاء ، وانتصاب ساجدا وقائما على الحال أي : جامعا بين السجود والقيام ، وقدم السجود على القيام لكونه أدخل في العبادة ، ومحل يحذر الآخرة النصب على الحال أيضا أي : يحذر عذاب الآخرة قاله سعيد بن جبير ومقاتل ويرجو رحمة ربه فيجمع بين الرجاء والخوف ، وما اجتمعا في قلب رجل إلا فاز .
قيل : وفي الكلام حذف ، والتقدير : كمن لا يفعل شيئا من ذلك كما يدل عليه السياق .
ثم أمر الله - سبحانه - رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يقول لهم قولا آخر يتبين به الحق من الباطل فقال قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون أي : الذين يعلمون أن ما وعد الله به من البعث والثواب والعقاب حق والذين لا يعلمون ذلك ، أو الذين يعلمون ما أنزل الله على رسله والذين لا يعلمون ذلك ، أو المراد العلماء والجهال ومعلوم عند كل من له عقل أنه لا استواء بين العلم والجهل ، ولا بين العالم والجاهل .
قال أي : كما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي . الزجاج
وقيل : المراد بالذين يعلمون : هم العاملون بعلمهم فإنهم المنتفعون به ، لأن من لم يعمل بمنزلة من لم يعلم إنما يتذكر أولو الألباب أي : إنما يتعظ ويتدبر ويتفكر أصحاب العقول ، وهم المؤمنون لا الكفار ، فإنهم وإن زعموا أن لهم عقولا فهي كالعدم وهذه الجملة ليست من جملة الكلام المأمور به بل من جهة الله - سبحانه - .
قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم لما نفى - سبحانه - ، وبين أنه المساواة بين من يعلم ومن لا يعلم إنما يتذكر أولو الألباب أمر رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - بأن يأمر المؤمنين من عباده بالثبات على تقواه والإيمان به .
والمعنى : يا أيها الذين صدقوا بتوحيد الله اتقوا ربكم بطاعته ، واجتناب معاصيه ، وإخلاص الإيمان له ، ونفي الشركاء عنه ، والمراد قل لهم قولي هذا بعينه .
ثم لما أمر الله - سبحانه - المؤمنين بالتقوى بين لهم ما في هذه التقوى من الفوائد فقال : للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة أي : للذين عملوا الأعمال الحسنة في هذه الدنيا على وجه الإخلاص حسنة عظيمة وهي الجنة ، وقوله : في هذه الدنيا متعلق بـ : أحسنوا ، وقيل : هو متعلق بحسنة على أنه بيان لمكانها ، فيكون المعنى : للذين أحسنوا في العمل حسنة في الدنيا بالصحة والعافية والظفر والغنيمة ، والأول أولى .
ثم لما كان بعض العباد قد يتعسر عليه فعل الطاعات والإحسان في وطنه أرشد الله - سبحانه - من كان كذلك إلى الهجرة فقال : وأرض الله واسعة أي : فليهاجر إلى حيث يمكنه طاعة الله .
والعمل بما أمر به ، والترك لما نهى عنه ، ومثل ذلك قوله - سبحانه - : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها [ النساء : 97 ] وقد مضى الكلام في الهجرة مستوفى في سورة النساء ، وقيل : المراد بالأرض هنا : أرض الجنة ، رغبهم في سعتها وسعة نعيمها كما في قوله : وجنة عرضها السماوات والأرض [ آل عمران : 133 ] والأول أولى .
ثم لما بين - سبحانه - ما للمحسنين إذا أحسنوا ، وكان لا بد في ذلك من الصبر على فعل الطاعة وعلى كف النفس عن الشهوات ، أشار إلى فقال : فضيلة الصبر وعظيم مقداره إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب أي : يوفيهم الله أجرهم في مقابلة صبرهم بغير حساب أي : بما لا يقدر على حصره حاصر ، ولا يستطيع حسبانه حاسب .
قال عطاء : بما لا يهتدي إليه عقل ولا وصف . وقال مقاتل : أجرهم الجنة ، وأرزاقهم فيها بغير حساب .
والحاصل أن الآية تدل على أن ثواب الصابرين وأجرهم لا نهاية له ، لأن كل شيء يدخل تحت الحساب فهو متناه ، وما كان لا يدخل تحت الحساب فهو غير متناه ، وهذه فضيلة عظيمة ومثوبة جليلة تقتضي أن على كل راغب في ثواب الله ، وطامع فيما عنده من الخير أن يتوفر على الصبر ويزم نفسه بزمامه ويقيدها بقيده ، فإن الجزع لا يرد قضاء قد نزل ، ولا يجلب خيرا قد سلب ، ولا يدفع مكروها قد وقع ، وإذا تصور العاقل هذا حق تصوره وتعقله حق تعقله علم أن الصابر على ما نزل به قد فاز بهذا الأجر العظيم ، وظفر بهذا الجزاء الخطير ، وغير الصابر قد نزل به القضاء شاء أم أبى ، ومع ذلك فاته من الأجر ما لا يقادر قدره ولا يبلغ مداه ، فضم إلى مصيبته مصيبة أخرى ولم يظفر بغير الجزع ، وما أحسن قول من قال :
أرى الصبر محمودا وعنه مذاهب فكيف إذا ما لم يكن عنه مذهب
[ ص: 1278 ] هناك يحق الصبر والصبر واجب وما كان منه للضرورة أوجب
ثم أمر الله - سبحانه - رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يخبرهم بما أمر به من التوحيد والإخلاص فقال : قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين أي : أعبده عبادة خالصة من الشرك والرياء وغير ذلك .
قال مقاتل : إن كفار قريش قالوا للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : ما يحملك على الذي أتيتنا به ، ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وسادات قومك يعبدون اللات والعزى فتأخذ بها ؟ فأنزل الله الآية ، وقد تقدم بيان معنى الآية في أول هذه السورة .
وأمرت لأن أكون أول المسلمين أي : من هذه الأمة ، وكذلك كان - صلى الله عليه وآله وسلم - فإنه أول من خالف دين آبائه ودعا إلى التوحيد ، واللام للتعليل أي : وأمرت بما أمرت به لأجل أن أكون ، وقيل : إنها مزيدة للتأكيد ، والأول أولى .
وقد أخرج ، ابن جرير وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن في قوله : ابن عباس إن تكفروا فإن الله غني عنكم يعني : الكفار الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ، فيقولون : لا إله إلا الله ثم قال : ولا يرضى لعباده الكفر وهم عباده المخلصون الذين قال : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان [ الحجر : 42 ] فألزمهم شهادة أن لا إله إلا الله وحببها إليهم .
وأخرج عن عبد بن حميد عكرمة ولا يرضى لعباده الكفر قال : لا يرضى لعباده المسلمين الكفر .
وأخرج عن عبد بن حميد قتادة قال : والله ما رضي الله لعبد ضلالة ولا أمره بها ولا دعا إليها ، ولكن رضي لكم طاعته وأمركم بها ونهاكم عن معصيته .
وأخرج ابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن وابن عساكر أنه تلا هذه الآية : ابن عمر أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة قال : ذاك وفي لفظ : نزلت في عثمان بن عفان عثمان بن عفان .
وأخرج ابن سعد في طبقاته ، وابن مردويه عن وابن عساكر في قوله : ابن عباس أمن هو قانت الآية قال : نزلت في . عمار بن ياسر
وأخرج ، ابن جرير ، عنه في قوله : وابن أبي حاتم يحذر الآخرة يقول : يحذر عذاب الآخرة .
وأخرج الترمذي ، والنسائي عن وابن ماجه أنس قال : . دخل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - على رجل وهو في الموت فقال : كيف تجدك ؟ قال : أرجو الله وأخاف ذنوبي ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله الذي يرجو وأمنه الذي يخاف
أخرجوه من طريق سيار بن حاتم عن عن جعفر بن سليمان ثابت عن أنس .
قال الترمذي : غريب ، وقد رواه بعضهم عن ثابت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مرسلا .