قوله : كلوا من طيبات ما رزقناكم هذا تأكيد للأمر الأول : أعني قوله : ياأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا وإنما خص المؤمنين هنا لكونهم أفضل أنواع الناس ، قيل : والمراد بالأكل الانتفاع ، وقيل : المراد به الأكل المعتاد ، وهو الظاهر .
قوله : واشكروا لله قد تقدم أنه يقال شكره وشكر له يتعدى بنفسه وبالحرف .
وقوله : إن كنتم إياه تعبدون أي تخصونه بالعبادة كما يفيده تقدم المفعول .
قوله : إنما حرم عليكم الميتة قرأ أبو جعفر " حرم " على البناء للمفعول و ( إنما ) كلمة موضوعة للحصر تثبت ما تناوله الخطاب وتنفي ما عداه .
وقد حصرت هاهنا التحريم في الأمور المذكورة بعدها .
قوله : ( الميتة ) قرأ ابن عبلة بالرفع ، ووجه ذلك أنه يجعل " ما " في ( إنما ) موصولة منفصلة في الخط ، والميتة وما بعدها خبر الموصول ، وقراءة الجميع بالنصب .
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ( الميتة ) بتشديد الياء ، وقد ذكر أهل اللغة أنه يجوز في ميت التخفيف والتشديد .
والميتة ما فارقها الروح من غير ذكاة .
وقد خصص هذا العموم بمثل حديث أحل لنا ميتتان ودمان .
وأخرجه أحمد وابن ماجه والدارقطني والحاكم وابن مردويه عن ابن عمر مرفوعا ، ومثل حديث جابر في العنبر الثابت في الصحيحين مع قوله تعالى : أحل لكم صيد البحر فالمراد بالميتة هنا ميتة البر لا ميتة البحر .
وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى جواز أكل جميع حيوانات البحر حيها وميتها .
وقال بعض أهل العلم : إنه يحرم من حيوانات البحر ما يحرم شبهه في البر ، وتوقف ابن حبيب في خنزير الماء .
وقال ابن القاسم : وأنا أتقيه ولا أراه حراما .
قوله : ( والدم ) قد اتفق العلماء على أن الدم حرام ، وفي الآية الأخرى : أو دما مسفوحا فيحمل المطلق على المقيد لأن ما خلط باللحم غير محرم ، قال القرطبي : بالإجماع .
وقد روت عائشة أنها كانت تطبخ اللحم فتعلو الصفرة على البرمة من الدم ، فيأكل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينكره .
قوله : ولحم الخنزير ظاهر هذه الآية والآية الأخرى أعني قوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير أن المحرم إنما هو اللحم فقط .
وقد أجمعت الأمة على تحريم شحمه كما حكاه القرطبي في تفسيره .
وقد ذكر جماعة من أهل العلم أن اللحم يدخل تحته الشحم .
وحكى القرطبي الإجماع أيضا على أن جملة الخنزير محرمة إلا الشعر فإنه تجوز الخرازة به .
قوله : وما أهل به لغير الله الإهلال : رفع الصوت ، يقال : أهل بكذا ، أي رفع صوته .
قال الشاعر يصف فلاة :
تهل بالفرقد ركبانها كما يهل الراكب المعتمر
وقال النابغة :أو درة صدفية غواصها بهج متى يرها يهل ويسجد
والمراد هنا : ما ذكر عليه اسم غير الله كاللات والعزى إذا كان الذابح وثنيا ، والنار إذا كان الذابح مجوسيا .
ولا خلاف في تحريم هذا وأمثاله ، ومثله ما يقع من المعتقدين للأموات من الذبح على قبورهم ، فإنه مما أهل به لغير الله ، ولا فرق بينه وبين الذبح للوثن .
قوله : فمن اضطر قرئ بضم النون للإتباع وبكسرها على الأصل في التقاء الساكنين ، وفيه إضمار ، أي فمن اضطر إلى شيء من هذه المحرمات .
وقرأ ابن محيصن بإدغام الضاد في الطاء .
وقرأ أبو السماك بكسر الطاء .
والمراد من صيره الجوع والعدم إلى الاضطرار إلى الميتة .
قوله : غير باغ نصب على الحال .
قيل المراد بالباغي : من يأكل فوق حاجته ، والعادي : من يأكل هذه المحرمات وهو يجد عنها مندوحة ، وقيل : غير باغ على [ ص: 111 ] المسلمين وعاد عليهم ، فيدخل في الباغي والعادي قطاع الطريق والخارج على السلطان وقاطع الرحم ونحوهم ، وقيل : المراد : غير باغ على مضطر آخر ولا عاد سد الجوعة .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : كلوا من طيبات ما رزقناكم قال : من الحلال .
وأخرج ابن سعد عن عمر بن عبد العزيز أن المراد بما في الآية : طيب الكسب لا طيب الطعام .
وأخرج ابن جرير عن الضحاك : أنها حلال الرزق .
وأخرج أحمد ومسلم والترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وقال : ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء : يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام ، فأنى يستجاب له .
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : وما أهل قال : ذبح .
وأخرج ابن جرير عنه قال : وما أهل به للطواغيت .
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال : ما ذبح لغير الله .
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية .
قال : ما ذكر عليه اسم غير الله .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : غير باغ ولا عاد يقول : من أكل شيئا من هذه وهو مضطر فلا حرج ، ومن أكله وهو غير مضطر فقد بغى واعتدى .
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : غير باغ قال : في الميتة ولا عاد قال : في الأكل .
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : غير باغ ولا عاد قال : غير باغ على المسلمين ولا معتد عليهم ، فمن خرج يقطع الرحم أو يقطع السبيل أو يفسد في الأرض أو مفارقا للجماعة والأئمة ، أو خرج في معصية الله فاضطر إلى الميتة لم تحل له .
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال : العادي الذي يقطع الطريق .
وقوله : فلا إثم عليه يعني في أكله إن الله غفور رحيم لمن أكل من الحرام ، رحيم به إذ أحل له الحرام في الاضطرار .
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة فمن اضطر غير باغ ولا عاد غير باغ في أكله ، ولا عاد يتعدى الحلال إلى الحرام وهو يجد عنه بلغة ومندوحة .


