قد تقدم معنى كتب ولا خلاف بين المسلمين أجمعين أن صوم رمضان فريضة افترضها الله سبحانه على هذه الأمة .
والصيام أصله في اللغة : الإمساك وترك التنقل من حال إلى حال ، ويقال للصمت صوم لأنه إمساك عن الكلام ، ومنه إني نذرت للرحمن صوما أي إمساكا عن الكلام ، ومنه قول النابغة :
خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وخيل تعلك اللجما
أي خيل ممسكة عن الجري والحركة .وهو في الشرع : الإمساك عن المفطرات مع اقتران النية به من طلوع الفجر إلى غروب الشمس .
وقوله : كما كتب أي صوما كما كتب ، على أن الكاف في موضع نصب على النعت ، أو كتب عليكم الصيام مشبها ما كتب . على أنه في محل نصب على الحال .
وقال بعض النحاة : إن الكاف في موضع رفع نعتا للصيام ، وهو ضعيف لأن الصيام معرف باللام ، والضمير المستتر في قوله : كما كتب راجع إلى " ما " .
واختلف المفسرون في وجه التشبيه ما هو ، فقيل : هو قدر الصوم ووقته ، فإن الله كتب على اليهود والنصارى صوم رمضان فغيروا ، وقيل : هو الوجوب ، فإن الله أوجب على الأمم الصيام ، وقيل : هو الصفة ، أي ترك الأكل والشرب ونحوهما في وقت ، فعلى الأول معناه : أن الله كتب على هذه الأمة صوم رمضان كما كتبه على الذين من قبلهم ، وعلى الثاني : أن الله أوجب على هذه الأمة الصيام كما أوجبه على الذين من قبلهم ، وعلى الثالث : أن الله سبحانه أوجب على هذه الأمة الإمساك عن المفطرات كما أوجبه على الذين من قبلهم .
وقوله تعالى : لعلكم تتقون بالمحافظة عليها ، وقيل : تتقون المعاصي بسبب هذه العبادة ، لأنها تكسر الشهوة وتضعف دواعي المعاصي ، كما ورد في الحديث أنه جنة وأنه وجاء .
وقوله : أياما منتصب على أنه مفعول ثان لقوله : كتب قاله الفراء ، وقيل : إنه منتصب على أنه ظرف ، أي كتب عليكم الصيام في أيام .
وقوله : معدودات أي معينات بعدد معلوم ، ويحتمل أن يكون في هذا الجمع لكونه من جموع القلة [ ص: 117 ] إشارة إلى تقليل الأيام .
وقوله : فمن كان منكم مريضا قيل للمريض حالتان : إن كان لا يطيق الصوم كان الإفطار عزيمة ، وإن كان يطيقه مع تضرر ومشقة كان رخصة ، وبهذا قال الجمهور . وقوله : على سفر اختلف أهل العلم في السفر المبيح للإفطار ، فقيل : مسافة قصر الصلاة ، والخلاف في قدرها معروف ، وبه قال الجمهور ، وقال غيرهم بمقادير لا دليل عليها .
والحق أن ما صدق عليه مسمى السفر فهو الذي يباح عنده الفطر ، وهكذا ما صدق عليه مسمى المرض فهو الذي يباح عنده الفطر .
وقد وقع الإجماع على الفطر في سفر الطاعة .
واختلفوا في الأسفار المباحة ، والحق أن الرخصة ثابتة فيه ، وكذا اختلفوا في سفر المعصية .
وقوله : فعدة أي فعليه عدة ، أو فالحكم عدة ، أو فالواجب عدة ، والعدة فعلة من العدد ، وهو بمعنى المعدود .
وقوله : من أيام أخر قال سيبويه : ولم ينصرف لأنه معدول به عن الآخر ، لأن سبيل هذا الباب أن يأتي بالألف واللام .
وقال الكسائي : هو معدول به عن آخر ، وقيل : إنه جمع أخرى .
وليس في الآية ما يدل على وجوب التتابع في القضاء .
قوله : وعلى الذين يطيقونه قراءة الجمهور بكسر الطاء وسكون الياء ، وأصله ( يطوقونه ) نقلت الكسرة إلى الطاء ، وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها .
وقرأ حميد على الأصل من غير إعلال .
وقرأ ابن عباس بفتح الطاء مخففة وتشديد الواو ، أي يكلفونه .
وروى ابن الأنباري عن ابن عباس " يطيقونه " بفتح الياء وتشديد الطاء والياء مفتوحتين بمعنى يطيقونه .
وروي عن عائشة وابن عباس وعمرو بن دينار وطاوس أنهم قرءوا ( يطيقونه ) بفتح الياء وتشديد الطاء مفتوحة .
وقرأ أهل المدينة والشام " فدية طعام " مضافا .
وقرءوا أيضا " مساكين " وقرأ ابن عباس طعام مسكين وهي قراءة أبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائي .
وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية ، هل هي محكمة أو منسوخة ، فقيل : إنها منسوخة ، وإنما كانت رخصة عند ابتداء فرض الصيام لأنه شق عليهم ، فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم وهو يطيقه ، ثم نسخ ذلك ، وهذا قول الجمهور .
وروي عن بعض أهل العلم أنها لم تنسخ ، وأنها رخصة للشيوخ والعجائز خاصة إذا كانوا لا يطيقون الصيام إلا بمشقة ، وهذا يناسب قراءة التشديد ، أي يكلفونه كما مر .
والناسخ لهذه الآية عند الجمهور قوله تعالى : فمن شهد منكم الشهر فليصمه .
وقد اختلفوا في مقدار الفدية ، فقيل : كل يوم صاع من غير البر ، ونصف صاع منه ، وقيل : مد فقط .
وقوله : فمن تطوع خيرا فهو خير له .
قال ابن شهاب : معناه أراد الإطعام مع الصوم .
وقال مجاهد : معناه من زاد في الإطعام على المد ، وقيل : من أطعم مع المسكين مسكينا آخر .
وقرأ عيسى بن عمرو ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي " يطوع " مشددا مع جزم الفعل على معنى يتطوع ، وقرأ الباقون بتخفيف الطاء على أنه فعل ماض .
وقوله : وأن تصوموا خير لكم معناه : أن الصيام خير لهم من الإفطار مع الفدية ، وكان هذا قبل النسخ ، وقيل : معناه وأن تصوموا في السفر والمرض غير الشاق .
وقد أخرج أحمد وأبو داود وابن جرير وابن المنذر وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن معاذ بن جبل قال : أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال ، وأحيل الصيام ثلاثة أحوال ، فذكر أحوال الصلاة ثم قال : وأما أحوال الصيام ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة ، فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام ، وصام عاشوراء ، ثم إن الله سبحانه فرض عليه الصيام وأنزل عليه ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام إلى قوله : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فكان من شاء صام ، ومن شاء أطعم مسكينا وأجزأ ذلك عنه ، ثم إن الله أنزل الآية الأخرى فمن شهد منكم الشهر فليصمه فأثبت الله صيامه على الصحيح المقيم ، ورخص فيه للمريض والمسافر ، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام ، ثم ذكر تمام الحديث .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : كما كتب على الذين من قبلكم قال : يعني بذلك أهل الكتاب .
وأخرج البخاري في تاريخه والطبراني عن دغفل بن حنظلة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كان على النصارى صوم شهر رمضان ، فمرض ملكهم فقالوا : لئن شفاه الله لنزيدن عشرا ، ثم كان آخر فأكل لحما فأوجع فوه . قال : لئن شفاه الله ليزيدن سبعة ، ثم كان عليهم ملك آخر فقال : ما ندع من هذه الثلاثة الأيام شيئا أن نتمها ونجعل صومنا في الربيع ، ففعل فصارت خمسين يوما .
وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله : لعلكم تتقون قال : تتقون من الطعام والشراب والنساء مثل ما اتقوا .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحو ما سبق عن معاذ .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم .
وأخرج البخاري ومسلم عن عائشة قالت : كان عاشوراء صياما ، فلما أنزل رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر .
وأخرج عبد بن حميد أن ابن عباس قال : إن قوله تعالى : وعلى الذين يطيقونه قد نسخت .
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه نحو ذلك ، وزاد أن الناسخ لها قوله تعالى : فمن شهد منكم الشهر الآية .
وأخرج نحو ذلك عنه أبو داود في ناسخه .
وأخرج نحوه عنه أيضا سعيد بن منصور وعبد بن حميد وأبو داود وابن جرير وابن المنذر وغيرهم .
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث سلمة بن الأكوع قال : لما نزلت هذه الآية وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين كان من شاء صام ، ومن شاء أن يفطر ويفتدي فعل ، حتى نزلت هذه الآية بعدها فنسختها فمن شهد منكم الشهر .
وأخرج البخاري عن [ ص: 118 ] ابن أبي ليلى قال : حدثنا أصحاب محمد ، فذكر نحوه .
وأخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب في قوله : وعلى الذين يطيقونه قال : الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم فيفطر ويطعم مكان كل يوم مسكينا .
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والدارقطني والبيهقي ، أن أنس بن مالك ضعف عن الصوم عاما قبل موته ، فصنع جفنة من ثريد ودعا ثلاثين مسكينا فأطعمهم .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والدارقطني وصححه عن ابن عباس أنه قال لأم ولد له حامل أو مرضعة : أنت بمنزلة الذين لا يطيقون الصيام ، عليك الطعام لا قضاء عليك .
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم والدارقطني عن ابن عمر أن إحدى بناته أرسلت تسأله عن صوم رمضان وهي حامل ، قال : تفطر وتطعم كل يوم مسكينا ، وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين .
وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة في قوله : فمن تطوع خيرا قال : أطعم مسكينين .
وأخرج عبد بن حميد عن طاوس في قوله : فمن تطوع خيرا قال : إطعام مساكين .
وأخرج ابن جرير عن ابن شهاب في قوله : وأن تصوموا خير لكم أي أن الصوم خير لكم من الفدية .
وقد ورد في فضل الصوم أحاديث كثيرة جدا .


