ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
[ ص: 137 ] المأمور بالسؤال لبني إسرائيل هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ويجوز أن يكون هو كل فرد من السائلين ، وهو سؤال تقريع وتوبيخ .
و كم في محل نصب بالفعل المذكور بعدها على أنها مفعول بـ " آتى " ، ويجوز أن ينتصب بفعل مقدر دل عليه المذكور : أي كم آتينا آتيناهم ، وقدر متأخرا لأن لها صدر الكلام ، وهي إما استفهامية للتقرير أو خبرية للتكثير .
من آية في موضع نصب على التمييز ، وهي البراهين التي جاء بها أنبياؤهم في أمر محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقيل : المراد بذلك الآيات التي جاء بها موسى ، وهي التسع .
والمراد بالنعمة هنا ما جاءهم من الآيات .
وقال : النعمة هنا الإسلام ، والظاهر دخول كل نعمة أنعم الله بها على عبد من عباده كائنا من كان ، فوقع منه التبديل لها ، وعدم القيام بشكرها - ولا ينافي ذلك كون السياق في ابن جرير الطبري بني إسرائيل ، أو كونهم السبب في النزول لما تقرر من أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وفي قوله : فإن الله شديد العقاب من الترهيب والتخويف ما لا يقادر قدره .
قوله : زين مبني للمجهول ، والمزين : هو الشيطان أو الأنفس المجبولة على حب العاجلة .
والمراد بالذين كفروا رؤساء قريش أو كل كافر .
وقرأ مجاهد وحميد بن قيس " زين " على البناء للمعلوم .
قال النحاس : وهي قراءة شاذة لأنه لم يتقدم للفاعل ذكر .
وقرأ " زينت " وإنما خص الذين كفروا بالذكر مع كون الدنيا مزينة للمسلم والكافر ، كما وصف سبحانه بأنه جعل ما على الأرض زينة لها ليبلو الخلق أيهم أحسن عملا ؛ لأن الكافر افتتن بهذا التزيين وأعرض عن الآخرة ، والمسلم لم يفتتن به ، بل أقبل على الآخرة . ابن أبي عبلة
قوله : ويسخرون من الذين آمنوا هذه الجملة في محل نصب على الحال : أي والحال أن أولئك الكفار يسخرون من الذين آمنوا لكونهم فقراء لا حظ لهم من الدنيا كحظ رؤساء الكفر وأساطين الضلال ، وذلك لأن عرض الدنيا عندهم هو الأمر الذي يكون من ناله سعيدا رابحا ، ومن حرمه شقيا خاسرا .
وقد كان غالب المؤمنين إذ ذاك فقراء لاشتغالهم بالعبادة وأمر الآخرة ، وعدم التفاتهم إلى الدنيا وزينتها .
وحكى الأخفش أنه يقال : سخرت منه وسخرت به ، وضحكت منه وضحكت به ، وهزأت منه وهزأت به ، والاسم السخرية والسخري .
ولما وقع من الكفار ما وقع من السخرية بالمؤمنين رد الله عليهم بقوله : والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والمراد بالفوقية هنا : العلو في الدرجة ، لأنهم في الجنة والكفار في النار ، ويحتمل أن يراد بالفوق المكان ؛ لأن الجنة في السماء ، والنار في أسفل سافلين ، أو أن المؤمنين هم الغالبون في الدنيا كما وقع ذلك من ظهور الإسلام وسقوط الكفر وقتل أهله ، وأسرهم وتشريدهم ، وضرب الجزية عليهم ، ولا مانع من حمل الآية على جميع ذلك لولا التقييد بكونه في يوم القيامة .
قوله : والله يرزق من يشاء بغير حساب يحتمل أن يكون فيه إشارة إلى أن الله سبحانه سيرزق المستضعفين من المؤمنين ويوسع عليهم ، ويجعل ما يعطيهم من الرزق بغير حساب : أي بغير تقدير ، ويحتمل أن المعنى : أن الله يوسع على بعض عباده في الرزق كما وسع على أولئك الرؤساء من الكفار استدراجا لهم ، ويحتمل أن يراد بغير حساب من المرزوقين كما قال سبحانه : وليس في التوسعة دليل على أن من وسع عليه فقد رضي عنه ، ويرزقه من حيث لا يحتسب [ الطلاق : 3 ] .
قوله : كان الناس أمة واحدة أي كانوا على دين واحد فاختلفوا فبعث الله النبيين ويدل على هذا المحذوف : أعني قوله : فاختلفوا - قراءة فإنه قرأ " كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين " . ابن مسعود
واختلف في الناس المذكورين في هذه الآية من هم ؟ فقيل : هم بنو آدم حين أخرجهم الله نسما من ظهر آدم ، وقيل : آدم وحده ، وسمي ناسا لأنه أصل النسل ، وقيل : آدم وحواء ، وقيل : المراد القرون الأولى التي كانت بين آدم ونوح ، وقيل : المراد نوح ومن في سفينته ، وقيل : معنى الآية كان الناس أمة واحدة كلهم كفار فبعث الله النبيين ، وقيل : المراد الإخبار عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم كانوا أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع وجهلهم بالحقائق ، لولا أن الله من عليهم بإرسال الرسل .
والأمة مأخوذة من قولهم أممت الشيء : أي قصدته ، أي مقصدهم واحد غير مختلف .
قوله : فبعث الله النبيين قيل : جملتهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، والرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر .
وقوله : مبشرين ومنذرين بالنصب على الحال .
وقوله : وأنزل معهم الكتاب أي الجنس .
وقال : إن الألف واللام للعهد والمراد التوراة . ابن جرير الطبري
وقوله : ليحكم مسند إلى الكتاب في قول الجمهور ، وهو مجاز مثل قوله تعالى : هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق وقيل : إن المعنى ليحكم كل نبي بكتابه ، وقيل : ليحكم الله ، والضمير في قوله : فيه الأولى راجع إلى ما في قوله : فيما اختلفوا فيه والضمير في قوله : وما اختلف فيه يحتمل أن يعود إلى الكتاب ، ويحتمل أن يعود إلى المنزل عليه وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قاله الزجاج ، ويحتمل أن يعود إلى الحق .
وقوله : إلا الذين أوتوه أي أوتوا الكتاب ، أو أوتوا الحق أو أوتوا النبي : أي أعطوا علمه .
وقوله : بغيا بينهم منتصب على أنه مفعول به : أي لم يختلفوا إلا للبغي : أي الحسد والحرص على الدنيا ، وفي هذا تنبيه على السفه في فعلهم ، والقبيح الذي وقعوا فيه ، لأنهم جعلوا نزول الكتاب سببا في شدة الخلاف .
وقوله : فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق [ ص: 138 ] أي فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحق ، وذلك بما بينه لهم في القرآن من اختلاف من كان قبلهم وقيل : معناه فهدى الله أمة محمد للتصديق بجميع الكتب بخلاف من قبلهم ، فإن بعضهم كذب كتاب بعض ، وقيل : إن الله هداهم إلى الحق من القبلة ، وقيل : هداهم ليوم الجمعة ، وقيل : هداهم لاعتقاد الحق في عيسى بعد أن كذبته اليهود وجعلته النصارى ربا ، وقيل : المراد بالحق الإسلام .
وقال الفراء : إن في الآية قلبا ، وتقديره : فهدى الله الذين آمنوا بالحق لما اختلفوا فيه .
واختاره وضعفه ابن جرير ابن عطية .
وقوله : بإذنه .
قال : معناه بعلمه . الزجاج
قال النحاس : وهذا غلط ، والمعنى بأمره .
وقد أخرج عبد بن حميد عن وابن جرير مجاهد في قوله : سل بني إسرائيل قال : هم اليهود كم آتيناهم من آية بينة ما ذكر الله في القرآن وما لم يذكر ومن يبدل نعمة الله قال : يكفرها .
وأخرج عن ابن أبي حاتم أبي العالية قال : آتاهم الله آيات بينات : عصا موسى ، ويده ، وأقطعهم البحر ، وأغرق عدوهم وهم ينظرون ، وظلل من الغمام ، وأنزل عليهم المن والسلوى ومن يبدل نعمة الله يقول : من يكفر بنعمة الله .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم في قوله : ابن جريج زين للذين كفروا الحياة الدنيا قال : الكفار يبتغون الحياة الدنيا ويطلبونها ويسخرون من الذين آمنوا في طلبهم للآخرة .
قال : لا أحسبه إلا عن ابن جريج عكرمة قال : قالوا : لو كان محمد نبيا لاتبعه ساداتنا وأشرافنا ، والله ما اتبعه إلا أهل الحاجة مثل وأصحابه . ابن مسعود
وأخرج عن ابن أبي حاتم قتادة في قوله : ويسخرون من الذين آمنوا يقولون : ما هؤلاء على شيء استهزاء وسخريا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة هنا كم التفاضل .
وأخرج عبد الرزاق عن قتادة قال : فوقهم في الجنة .
وأخرج عن ابن أبي حاتم عطاء قال : سألت عن هذه الآية ابن عباس والله يرزق من يشاء بغير حساب قال : تفسيرها ليس على الله رقيب ولا من يحاسبه .
وأخرج عن ابن أبي حاتم قال : لا يحاسب الرب . سعيد بن جبير
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو يعلى بسند صحيح عن والطبراني قال : كان الناس أمة واحدة قال : على الإسلام كلهم . ابن عباس
وأخرج البزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عنه قال : كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا ، فبعث الله النبيين .
قال : وكذلك في قراءة عبد الله " كان الناس أمة واحدة فاختلفوا " .
وأخرج ابن جرير عن وابن أبي حاتم قال : كانوا أمة واحدة حيث عرضوا على آدم ففطرهم الله على الإسلام وأقروا له بالعبودية وكانوا أمة واحدة مسلمين ، ثم اختلفوا من بعد أبي بن كعب آدم .
وأخرج وكيع وعبد بن حميد وابن جرير عن وابن أبي حاتم مجاهد كان الناس أمة واحدة قال : آدم .
وأخرج ابن جرير عن وابن أبي حاتم أبي أنه كان يقرؤها " كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين " وإن الله إنما بعث الرسل وأنزل الكتب بعد الاختلاف ، وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه : يعني بني إسرائيل ، أوتوا الكتاب والعلم بغيا بينهم ، يقول : بغيا على الدنيا وطلب ملكها وزخرفها أيهم يكون له الملك والمهابة في الناس .
وأخرج ابن جرير عن وابن أبي حاتم ابن عباس كان الناس أمة واحدة قال : كفارا .
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله : أبي هريرة فهدى الله الذين آمنوا قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ، وأول الناس دخولا يبدأ بهم ، أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق ، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له ، فالناس لنا فيه تبع ، فغدا لليهود ، وبعد غد للنصارى وهو في الصحيح بدون ذكر الآية . عن
وأخرج عن ابن أبي حاتم في قوله : زيد بن أسلم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق قال : اختلفوا في يوم الجمعة ، فأخذ اليهود يوم السبت ، والنصارى يوم الأحد ، فهدى الله أمة محمد ليوم الجمعة ، واختلفوا في القبلة ، فاستقبلت النصارى المشرق ، واليهود بيت المقدس ، وهدى أمة محمد للقبلة ، واختلفوا في الصلاة ، فمنهم من يركع ولا يسجد ، ومنهم من يسجد ولا يركع ، ومنهم من يصلي وهو يتكلم ، ومنهم من يصلي وهو يمشي فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك ، واختلفوا في الصيام ، فمنهم من يصوم النهار ، ومنهم من يصوم من بعد الطعام فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك ، واختلفوا في إبراهيم ، فقالت اليهود : كان يهوديا ، وقالت النصارى : كان نصرانيا وجعله الله حنيفا مسلما ، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك ، واختلفوا في عيسى ، فكذبت به اليهود ، وقالوا لأمه بهتانا عظيما ، وجعلته النصارى إلها وولدا ، وجعله الله روحه وكلمته ، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك .