الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
359 [ ص: 186 ] حديث ثامن لأبي النضر

مالك ، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله أن أبا مرة مولى عقيل بن أبي طالب أخبره : أنه سمع أم هانئ بنت أبي طالب ، تقول : ذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح فوجدته يغتسل ، وفاطمة ابنته تستره بثوب ، قالت : فسلمت ، قال : من هذه ؟ فقلت : أنا أم هانئ بنت أبي طالب ، فقال : مرحبا بأم هانئ ، فلما فرغ من غسله ، قام فصلى ثماني ركعات ملتحفا في ثوب واحد ، ثم انصرف ، فقلت : يا رسول الله ، زعم ابن أمي علي أنه قاتل رجلا أجرته فلان بن هبيرة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ ، قالت أم هانئ : وذلك ضحى .

التالي السابق


قد ذكرنا أبا مرة فيما سلف من كتابنا هذا ، وهو الذي يقال له مولى أم هانئ ، اسمه يزيد ، وهو - إن شاء الله - أصح ما قيل فيه ، وهو مدني ثقة ، وذكرنا أم هانئ في كتاب الصحابة بما يغني ، عن ذكرها هاهنا ، واسمها هند ، ويقال : بل اسمها فاختة .

وفي هذا الحديث : صلاة الضحى ، وقد مضى القول فيها مستوعبا بما في ذلك من الأثر في باب ابن شهاب ، عن عروة من هذا الكتاب ، ومضى القول أيضا في معان من هذا الحديث مجردة من إسناده ومتنه في باب موسى [ ص: 187 ] بن ميسرة من هذا الكتاب ، وأما قوله : قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ ، فقد استدل به قوم على جواز أمان المرأة ، وقالوا : جائز أمانها على كل حال ، وقال آخرون : أمانها موقوف على جواز الإمام ، فإن أجازه جاز ، وإن رده رد ، واحتج من قال هذه المقالة ، بأن أمان أم هانئ لو كان جائزا على كل حال دون إذن الإمام ما كان علي ليريد قتل من لا يجوز قتله ، لأمان من يجوز أمانه .

وفي قوله : قد أجرنا من أجرت دليل على ذلك ; لأنه لو كان أمان محتاج إلى إجازة الإمام ، لقال لها من أمنته أنت أو غيرك ، فلا سبيل إلى قتله ، وهو آمن ، ولما قال لها : قد أمنا من أمنت وأجرنا من أجرت كان ذلك دليلا على أن أمان المرأة موقوف على إجازة الإمام ، فهذه حجة من ذهب هذا المذهب .

قالوا : وهذا هو الظاهر في معنى هذا الحديث ، والله أعلم .

حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا أحمد بن صالح ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني عياض بن عبد الله بن سليمان ، عن كريب ، عن ابن عباس ، قال : حدثتني أم هانئ بنت أبي طالب ، أنها أجارت رجلا من المشركين يوم الفتح ، وأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له ، فقال : أجرنا من أجرت ، وأمنا من أمنت .

وأما من قال يجوز أمان المرأة على كل حال بإذن الإمام وبغير إذنه فمن حجتهم : قوله - صلى الله عليه وسلم : المسلمون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، ويجير عليهم أقصاهم ، وهم يد على من سواهم ، قالوا : فلما قال : أدناهم ، جاز بذلك أمان العبد ، وكانت المرأة الحرة أحرى بذلك .

واحتجوا أيضا بما [ ص: 188 ] حدثناه عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة ، قالت : إن كانت المرأة لتجير على المسلمين فيجوز .

ورواه الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة ، قالت : إن كانت المرأة لتجير على المسلمين .

ومن حجتهم أيضا : ما حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا عبيد بن عبد الواحد البزار ، حدثنا محبوب بن موسى ، حدثنا أبو إسحاق الفزاري ، عن أبي سعد ، قال : أخبرنا عمرو بن مرة ، عن أبي البختري ، عن عائشة ، قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ذمة المسلمين واحدة ، وإن جارت عليهم جائرة فلا تخفروها ، فإن لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به .

الآثار كلها تدل على جواز أمان المرأة على كل حال .

وقد اختلف العلماء أيضا في أمان العبد ، فقال مالك والشافعي وأصحابهما والثوري والأوزاعي والليث وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود بن علي : أمانه جائز ، قاتل أو لم يقاتل ، وهو قول محمد بن الحسن .

وقال أبو حنيفة : أمانه غير جائز إلا أن يقاتل ، وهو قول أبي يوسف ، وروي عن عمر معناه .

حدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، حدثنا عبيد بن عبد الواحد ، حدثنا محبوب بن موسى الفراء ، حدثنا أبو إسحاق الفزاري ، عن ابن أبي أنيسة ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : لما كان يوم الفتح خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مسند ظهره إلى جدار الكعبة - فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : المؤمنون يد على من سواهم ، تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، [ ص: 189 ] ويعقد عليهم أولاهم ، ويرد عليهم أقصاهم ، ولا يقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده .

وروي من حديث علي بن أبي طالب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

وحدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي ، حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا محمد بن عجلان ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي مرة مولى عقيل ، عن أم هانئ ، قالت : أتاني يوم الفتح حموان لي فأجرتهما ، فجاء علي يريد قتلهما ، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في قبته بالأبطح بأعلى مكة - فذكر حديثا فيه - فقلت : يا رسول الله إني أجرت حموين لي ، وإن ابن أمي عليا أراد قتلهما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس ذلك له قد أجرنا من أجرت ، وأمنا من أمنت .

في هذا الخبر وخبر مالك : أن الذي أجارته أم هانئ ولد هبيرة بن أبي وهب بن عمرو بن عائد بن عمران بن مخزوم - واحدا كان أو اثنين - لأن في حديث أبي النضر ما يدل على أنه كان واحدا ، وفي حديث المقبري اثنين ، وهبيرة بن أبي وهب زوجها وولده حمو لها ، وقد قيل : إن الذي أجارته يومئذ وأراد علي قتله : الحارث بن هشام ، وعبد الله بن أبي هبيرة ، وكلاهما من بني مخزوم ، وقيل فيه غير ذلك .

وأما قول من قال : إنه جعدة بن هبيرة ، أو أن أحدهما جعدة بن هبيرة ، فما أدري ما هو ؟ لأن جعدة بن هبيرة ابنها ، لا حموها ، ولم تكن تحتاج إلى إجارة ابنها ، ولا كانت مثل تلك المخاطبة تجري بينها وبين أخيها علي في [ ص: 190 ] ابنها ، والله أعلم .

ولم يذكر أهل النسب فيما علمت لهبيرة ابنا يكنى جعدة من غير أم هانئ ، ولا ذكروا له بنين من غير أم هانئ ، والله أعلم .

وذكر البزار : حدثنا محمد بن مسكين بن نميلة ، حدثنا يحيى بن حسان ، حدثنا سليمان بن بلال ، عن كثير بن زيد ، عن الوليد بن رباح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يجير على الناس أدناهم .

وروى مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة . الحديث .

قال أبو العباس بن سريج القاضي : الرجلان اللذان أجارتهما أم هانئ يوم الفتح : جعدة بن هبيرة المخزومي ، ورجل آخر معه ، وكانا من الشرذمة الذين قاتلوا خالدا ، ولم يقبلوا الأمان ، ولا ألقوا السلاح ، فأراد علي قتلهما ، فأجارتهما أم هانئ ، وكانا من أحمائها ، فأجار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أجارت ، هكذا قال ، وقد مضى القول فيه ، وأيا كان فالحديث إنما سيق لجواز جوار المرأة ، لا لغير ذلك .

قال أبو عمر :

وعلى جواز أمان المرأة جمهور علماء المسلمين أجاز ذلك الإمام أو لم يجزه ، على ظواهر الأخبار المذكورة في هذا الباب ، عن أم هانئ وعائشة وغيرهما ، وممن قال ذلك : مالك وأصحابه ، إلا عبد الملك بن الماجشون ، وهو قول الشافعي ، وأبي حنيفة ، وأصحابهما ، والثوري ، والأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور .

وقال عبد الملك بن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون : لا يجوز [ ص: 191 ] أمان المرأة إلا أن يجيزه الإمام ، فشذ بقوله ذلك عن هذا الجمهور ، والله الموفق للصواب ، وهو المستعان ، وهو حسبي ، ونعم الوكيل .

أخبرنا محمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن أحمد ، حدثنا محمد بن أيوب ، حدثنا أحمد بن عمرو البزار ، حدثنا رجاء بن محمد ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، حدثنا بشير بن المهاجر ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما نقض قوم العهد إلا كان القتل بينهم ، ولا ظهرت فاحشة في قوم إلا سلط عليهم الموت ، ولا منع قوم الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر . ولا يروى مرفوعا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث إلا عن بريدة بهذا الإسناد ، والله أعلم .




الخدمات العلمية