الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
195 [ ص: 8 ] حديث أول لابن شهاب عن سعيد وأبي سلمة مسند

مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن : أنهما أخبراه عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه

التالي السابق


قال ابن شهاب : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " آمين " لا خلاف بين الرواة للموطأ في إسناد هذا الحديث ومتنه فيما علمت ، كلهم يجعل قوله : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول آمين من كلام ابن شهاب .

وقد رواه حفص بن عمر المدني عن مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : آمين ولم يتابع حفص على هذا اللفظ بهذا الإسناد وروى إسحاق بن سليمان عن مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قال الإمام : غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، فقولوا آمين فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ولم يتابع على هذا اللفظ أيضا في هذا الإسناد وإنما هذا لفظ حديث [ ص: 9 ] سمي وسيأتي في بابه إن شاء الله ، ورواه الغداني عن مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ولم يذكر أبا سلمة ورواه جويرة عن مالك عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة ولم يذكر سعيدا والصواب ما في الموطأ عن سعيد وأبي سلمة جميعا عن أبي هريرة .

وفي هذا الحديث من الفقه قراءة أم القرآن في الصلاة ، ومعناه عندنا في كل ركعة ، لدلائل سنذكرها في باب العلاء بن عبد الرحمن من كتابنا هذا عند قوله - صلى الله عليه وسلم - " كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج " إن شاء الله وإنما قلنا إن فيه دليلا على قراءة فاتحة الكتاب لقوله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمن الإمام فأمنوا ومعلوم أن التأمين هو قول الإنسان : آمين عند دعائه أو دعاء غيره إذا سمعه ، ومعنى آمين عند العلماء : اللهم استجب لنا دعاءنا ، وهو خارج على قول القارئ اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم إلى قوله ولا الضالين فهذا هو الدعاء الذي يقع عليه التأمين ، ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة " إذا قال الإمام : غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، فقولوا آمين فكأن القارئ يقول : اللهم اهدنا الصراط [ ص: 10 ] المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، اللهم آمين ، وهذا بين واضح يغني عن الإكثار فيه وقد أجمع العلماء على أن لا تأمين في شيء من قراءة الصلاة إلا عند خاتمة فاتحة الكتاب ، ولم يختلفوا في معنى ما ذكرنا ; فنحتاج فيه إلى القول ولما كان قول الله عز وجل إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة دليلا على أنه لا بد من الأذان يوم الجمعة ، وإن كان ذلك خبرا ، فكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمن الإمام يعني عند قوله : ولا الضالين فأمنوا دليل على أنه لا بد من قراءة فاتحة الكتاب في كل صلاة .

وفي هذا مع قوله - صلى الله عليه وسلم - لا صلاة لمن لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب دليل على فساد قول من قال : إن الصلاة تجزي بغيرها وسنذكر الاختلاف في هذه المسألة ، ونأتي بالحجة لاختيارنا من ذلك في كتابنا هذا عند ذكر حديث العلاء بن عبد الرحمن إن شاء الله وقد قيل إن معنى آمين أشهد لله ، وقيل : بل معناها كذلك فعل الله [ ص: 11 ] وفي آمين لغتان : المد والقصر مثل : أوه وآوه ، قال الشاعر :


ويرحم الله عبدا قال آمين

وقال آخر - فقصر - :


تباعد مني فحطل إذ دعوته أمين فزاد الله ما بيننا بعدا



وفي هذا الحديث أيضا : أن الإمام يقول آمين لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمن الإمام فأمنوا ومعلوم أن تأمين المأموم قوله آمين ، فكذلك يجب أن يكون قول الإمام سواء ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد سوى بينهما في اللفظ ، ولم يقل إذا دعا الإمام فأمنوا ، وهذا موضع اختلف فيه العلماء فروى ابن القاسم عن مالك أن الإمام لا يقول آمين ، وإنما يقول ذلك من خلفه دونه وهو قول ابن القاسم والمصريين من أصحاب مالك ، وحجتهم ظاهر حديث سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إذا قال الإمام : غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، فقولوا آمين وسيأتي القول في حديث سمي في بابه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى .

ومثل حديث سمي حديث أبي موسى الأشعري قالوا : ففي هذا الحديث دليل على أن الإمام يقتصر على قراءة ولا الضالين ولا يزيد على ذلك ، وإنما المأموم يؤمن ، قالوا : وكما يجوز أن يسمى التأمين دعاء في اللغة فكذلك يسمى الدعاء تأمينا ، واحتجوا بقول الله عز وجل قد أجيبت دعوتكما فاستقيما [ ص: 12 ] لموسى وهارون ولا يختلف المفسرون أن موسى كان يدعو وهارون يؤمن ، فقال الله عز وجل قد أجيبت دعوتكما

قال أبو عمر :

ما قالوه من هذا كله فليس فيه حجة ، فليس في شيء من اللغات أن الدعاء يسمى تأمينا ، ولو صح لهم ما ادعوه وسلم لهم ما تأولوه ; لم يكن فيه إلا أن التأمين يسمى دعاء ، وأما أن الدعاء يقال له تأمين فلا ، وإنما قال الله عز وجل قد أجيبت دعوتكما ولم يقل قد أجيب تأمينكما ، فمن قال : الدعاء تأمين ، فمغفل لا روية له ، على أن قوله عز وجل قد أجيبت دعوتكما إنما قيل لأن الدعوة كانت لهما ، وكان نفعها عائدا عليهما بالانتقام من أعدائهما ؛ فلذلك قيل : أجيبت دعوتكما ، ولم يقل دعوتاكما ، ولو كان التأمين دعاء لقال : قد أجيبت دعوتاكما ، وجائز أن يسمى المؤمن داعيا ; لأن المعنى في آمين : اللهم استجب لنا على ما قدمنا ذكره ، وهذا دعاء ، وغير جائز أن يسمى الدعاء تأمينا ، والله أعلم .

ومعلوم أن قوله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمن الإمام فأمنوا لم يرد به فادعوا مثل دعاء الإمام : اهدنا الصراط المستقيم . . . إلى آخر السورة ، وهذا ما لا يختلف فيه ، وإنما أراد من المأموم قول آمين لا غير ، وهذا إجماع من العلماء فكذلك أراد من الإمام قول آمين لا الدعاء بالتلاوة ; لأنه قد سوى بينهما في لفظه - صلى الله عليه وسلم - بقوله إذا أمن الإمام فأمنوا فالتأمين من الإمام كهو من المأموم سواء وهو قول آمين هذا ما يوجبه ظاهر الحديث فكيف وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه [ ص: 13 ] وسلم أنه كان يقول : آمين إذا فرغ من قراءة فاتحة الكتاب ، وهذا نص يرفع الإشكال ، ويقطع الخلاف ، وهو قول جمهور علماء المسلمين ، وممن قال ذلك : مالك في رواية المدنيين عنه منهم عبد الملك بن الماجشون ، ومطرف بن عبد الله ، وأبو المصعب الزهري ، وعبد الله بن نافع ، وهو قولهم قالوا : يقول آمين الإمام ومن خلفه ، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما والثوري والحسن بن حي وابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور وداود والطبري وجماعة أهل الأثر ; لصحته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة ووائل بن حجر .

وقال الكوفيون : وبعض المدنيين لا يجهر بها ، وهو قول الطبري ، وقال الشافعي وأصحابه وأبو ثور وأحمد بن حنبل وأهل الحديث : يجهر بها .

حدثنا عبد الله بن محمد بن يحيى قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا نصر بن علي قال : حدثنا صفوان بن عيسى عن بشر بن رافع عن أبي عبد الله ابن عم أبي هريرة عن أبي هريرة قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا تلا غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال : آمين حتى يسمع من يليه من الصف الأول ، وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قالا : حدثنا الحسن بن رشيق قال : حدثنا أبو زكريا يحيى بن محمد بن عمروس [ ص: 14 ] المعدل قالا جميعا : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زريق قال : حدثنا عمرو بن الحارث ، قال : حدثنا عبد الله بن سالم الأشعري ، قال : حدثنا الزبيدي قال : حدثنا محمد بن مسلم الزهري عن سعيد بن المسيب ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من قراءة أم القرآن ، رفع صوته وقال : آمين .

وأخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا محمد بن كثير ، قال : حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن حجر بن العنبس الحضرمي عن وائل بن حجر قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قرأ ولا الضالين قال : آمين ، ورفع بها صوته ، ورواه أبو إسحاق عن عبد الجبار بن وائل بن حجر عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله ، وحدثنا عبد الوارث بن سفيان [ ص: 15 ] قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح ; قال : حدثنا موسى بن معاوية ; قال : حدثنا وكيع ; قال : حدثنا سفيان عن عاصم الأحول عن أبي عثمان أن بلالا قال : يا رسول الله لا تسبقني بآمين ، وذكره أبو داود حدثنا إسحاق بن راهويه : حدثنا وكيع عن سفيان عن عاصم عن أبي عثمان عن بلال مثله .

وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : كان ابن الزبير يقول : آمين ومن خلفه حتى إن للمسجد للجة ؟ قال : نعم . وكان أحمد بن حنبل يغلظ على من كره الجهر بها قال : وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما حسدنا اليهود على شيء ما حسدونا على آمين ، وأما قوله في هذا الحديث من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ففيه أقوال ، منها : أنه يحتمل أن يكون أراد فمن أخلص في قوله آمين بنية صادقة وقلب صاف ليس بساه ولا لاه ; فيوافق الملائكة الذين في السماء الذين يستغفرون لمن في الأرض ، ويدعون بنيات صادقة ، ليس عن قلوب لاهية ; غفر له إذا أخلص في دعائه ، واحتجوا بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دعا أحدكم فليجتهد وليخلص فإن الله لا يقبل الدعاء من قلب [ ص: 16 ] لاه وقال : اجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم فكأنه أراد بقوله - صلى الله عليه وسلم - فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة الذين يخلصون في الدعاء غفر له ، وهذا تأويل فيه بعد ، وقال آخرون : إنما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة الحث على الدعاء للمؤمنين والمؤمنات في الصلاة ; فإن الملائكة تستغفر للمؤمنين في الأرض ; فمن دعا في صلاته للمؤمنين ; غفر له لأنه يكون دعاؤه حينئذ موافقا لدعاء الملائكة المستغفرين لمن في الأرض من المؤمنين ، وفي قوله ( اهدنا ) دعاء للداعي ، وأهل دينه ، إن شاء الله ، والتأمين على ذلك ; فلذلك ندب إليه والله أعلم .

وقال آخرون : إن الملائكة من الحفظة الكاتبين ، والملائكة المتعاقبين لشهود الصلاة مع المؤمنين يؤمنون عند قول القارئ ولا الضالين فمن فعل مثل فعلهم وأمن ; غفر له ، فحضهم بذلك على التأمين ، قال الله عز وجل وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يتعاقب فيكم ملائكة بالليل ، وملائكة بالنهار ، ويجتمعون عند صلاة العصر وصلاة الفجر الحديث [ ص: 17 ] فإن قيل حديث مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قال أحدكم : آمين فقالت الملائكة في السماء : آمين فوافقت إحداهما الأخرى ; غفر له ما تقدم من ذنبه وهذا دليل على أنه لم يرد الملائكة الحافظين ولا المتعاقبين ; لأنهم حاضرون معهم في الأرض لا في السماء قيل له : لسنا نعرف موقف الملائكة منهم ، ولا نكيف ذلك ، وجائز أن يكونوا فوقهم وعليهم وعلى رءوسهم ، فإذا كان كذلك فكل ما علاك فهو سماء ، وقد تسمي العرب المطر سماء لأنه ينزل من السماء ، وتسمي الربيع سماء ; لأنه تولد من مطر السماء ، وتسمي الشيء باسم ما قرب منه وجاوره .

قال الشاعر :


إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا



فسمى الماء النازل من السماء والمتولد منه سماء ، فالله أعلم بما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله : في السماء إن كان قاله فإن أخبار الآحاد لا يقطع عليها ، وكذلك هو العالم لا شريك له بمعنى قوله حقيقة : فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ، ولا يدفع أن يكون المؤمنون ملائكة السماء فقد روى ابن جريج عن الحكم بن أبان ; أنه سمع عكرمة يقول : إذا أقيمت الصلاة فصف أهل الأرض صف أهل السماء فإذا قال أهل الأرض : ولا الضالين قالت الملائكة : آمين ، فإذا وافقت آمين أهل الأرض آمين أهل السماء غفر لأهل الأرض ما تقدم من ذنوبهم ، وكل ما ذكرنا قد قيل فيما وصفنا وفيما [ ص: 18 ] قالوه من ذلك نظر وبالله عصمتنا وتوفيقنا ، وفي هذا الحديث أيضا دليل على أن أعمال البر تغفر بها الذنوب ، وفي قول الله عز وجل إن الحسنات يذهبن السيئات كفاية ، وقد مضى القول في هذا المعنى مستوعبا في باب زيد بن أسلم من كتابنا هذا فأغنى عن إعادته هاهنا .




الخدمات العلمية