الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1420 [ ص: 36 ] حديث ثالث لابن شهاب عن سعيد وأبي سلمة مرسل ; يتصل من وجوه

مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالشفعة فيما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود بينهم فلا شفعة فيه

التالي السابق


هكذا روى هذا الحديث عن مالك أكثر الرواة للموطأ وغيره مرسلا إلا عبد الملك بن عبد العزيز الماجشون ، وأبا عصام النبيل ، ويحيى بن إبراهيم بن داود بن أبي قبيلة المدني ، وأبا يوسف القاضي ، وسعيدا الزبيري ، فإنهم رووه عن مالك بهذا الإسناد متصلا عن أبي هريرة مسندا ، واختلف فيه عن ابن وهب عن مالك فروي عنه مرسلا كما في الموطأ ، وروي عنه مسندا كرواية ابن الماجشون ومن تابعه ، وكذلك اختلف فيه عن مطرف عن مالك [ ص: 37 ] سواء ، ورواه عبد الله بن محمد بن ربيعة القدامي عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن سعيد ، عن أبي هريرة ، ولم يذكر أبا سلمة ، والقدامي ضعيف منكر الحديث ، فأما رواية ابن الماجشون لهذا الحديث ، فأخبرنا خلف بن قاسم الحافظ ، وأحمد بن فتح ، قالا : حدثنا أحمد بن الحسن بن عتبة الرازي قال : حدثنا أبو بكر محمد بن أصبغ بن مليح المرادي قال : حدثنا أبو الربيع سليمان بن داود بن حماد المهري قال : حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز الماجشون قال : أخبرني مالك بن أنس عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى فيما لم يقسم [ ص: 38 ] فإذا وقعت الحدود فلا شفعة ، زاد ابن قاسم فيه ، وذكره أبو الحسن علي بن عمر الحافظ قال : حدثنا أبو بكر النيسابوري قال : حدثنا سعد بن عبد الله بن الحكم ، وإسماعيل بن إسحاق بن سهل قال علي : وثنا محمد بن مخلد قال : حدثنا أحمد بن منصور بن راشد المروزي قال علي : وثنا أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار قال : حدثنا أبو داود السجستاني قال : حدثنا سليمان بن داود المهري قال : وحدثنا محمد بن مخلد : حدثنا الحسن بن شبيب حدثنا أبو الربيع سليمان بن داود ابن أخي رشدين ومحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي قالوا كلهم : حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز الماجشون عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة فيه وحدثني عبد الله بن محمد بن يوسف قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن علي قال : حدثنا أحمد بن خالد قال : حدثنا يحيى [ ص: 39 ] بن أيوب بن بادي العلاف قال : حدثنا أبو الربيع سليمان بن داود قال : حدثنا عبد الملك عن مالك ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، وسعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة وحدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد قال : حدثني أبي قال : حدثنا محمد بن قاسم قال : حدثنا مالك بن عيسى القفصي الحافظ قال : حدثنا سعيد بن عبد الله بن عبد الحكم قال : حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن سعيد ، وأبي سلمة ، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكره وحدثنا خلف : حدثنا عبد الملك بن محمد العقيلي حدثنا العباس بن محمد البصري ، حدثنا أبو الربيع سليمان بن أخي رشدين بن سعد حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز الماجشون حدثنا مالك فذكر بإسناده مثله ، وحدثنا خلف قال : حدثنا عبد الله بن عمر بن إسحاق ، حدثنا أحمد بن الحجاج وحدثنا خلف حدثنا الحسن بن الخضر حدثنا أحمد بن شعيب قالا : حدثنا سليمان بن داود حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز الماجشون حدثنا مالك ، عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثله سواء ، وأما رواية أبي عاصم فحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ [ ص: 40 ] قال : حدثنا محمد بن عبيد قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا علي بن عبد الله المديني قال : حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني قال : حدثنا مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشفعة فيما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة قال إسماعيل بن إسحاق : قال علي ابن المديني : قلت لأبي عاصم من أين سمعت هذا من مالك ؟ يعني حديث الشفعة مسندا ، فقال : سمعت منه بمنى أيام أبي جعفر ، وقال علي بن عمر : حدثنا عثمان بن أحمد ، وأبو سهل بن زياد ، وأبو بكر الشافعي ، قالوا : حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا علي بن نصر قالوا لأبي عاصم : إن الناس يخالفونك في مالك في حديث الشفعة فلا يذكرون فيه أبا هريرة فقال أبو عاصم : هاتوا من سمعه من مالك في الوقت الذي سمعته أنا فيه ، إنما كان قدم علينا أبو جعفر مكة ; فاجتمع الناس إليه ، وسألوه أن يأمر مالكا أن يحدثهم ; فأمره فسمعته من مالك في ذلك الوقت .

قال علي بن نصر : وهذا في حياة ابن جريج ; لأن أبا عاصم خرج من مكة إلى البصرة حين مات ابن جريج ولم يعد ، وقد كان أبو عاصم يتهيب إسناد هذا الحديث حتى بلغته رواية ابن إسحاق له عن الزهري فرجع [ ص: 41 ] إلى الحديث به قال إسماعيل : حدثناه علي ابن المديني قال : حدثنا يحيى بن آدم قال : حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة وأخبرنا أحمد بن عبد الله بن محمد قال : حدثني أبي قال : حدثنا محمد بن قاسم قال : حدثنا مالك بن عيسى قال : حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، ويزيد بن سنان قالا : حدثنا أبو عاصم ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، وأبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة زاد يزيد بن سنان : قال أبو عاصم : ثم لقيت مالكا بعد ثلاث سنين فحدثناه فلم يذكر أبا سلمة ، ولم يذكر أبا هريرة ، وجعله عن سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . . . وأخبرنا محمد بن عمروس : حدثنا علي بن عمر الحافظ : حدثنا أبو بكر : حدثنا عبد الله بن محمد بن زياد النيسابوري حدثنا يزيد بن سنان ، وبكار بن قتيبة ، وأبو أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم ، ومحمد بن إسحاق الصاغاني قالوا : حدثنا أبو عاصم النبيل الضحاك بن مخلد عن مالك بن أنس عن ابن شهاب عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بالشفعة فيما لم تقع الحدود فإذا [ ص: 42 ] وقعت الحدود فلا شفعة ، ورواه أبو قلابة الرقاشي ، وعبد الدوري ، ومحمد بن العوام الزيادي ، ومحمد بن سنان القزاز كلهم عن أبي عاصم بإسناده ومعناه ولفظ أبي قلابة قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما لم يقسم فإذا حدت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة ، ورواه إبراهيم بن هاني عن أبي عاصم عن مالك عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسندا قال علي بن عمر : وحدثنا أبو علي الصفار : حدثنا أبو داود السجستاني قال : سمعت أبا جعفر الدارمي أحمد بن سعيد قال : قال أبو عاصم : هكذا حدثنا به مالك سنة ست وأربعين كأنه يقول عن سعيد مرسل ; وعن أبي سلمة ، عن أبي هريرة وأما رواية يحيى بن أبي قتيلة ; فحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أبو بكر عبيد بن محمد العمري بمصر قال : حدثني أبو إبراهيم يحيى بن أبي قتيلة [ ص: 43 ] المدني ، عن مالك ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة وحدثنا أحمد بن فتح قال : حدثنا أحمد بن الحسن الرازي قال : حدثنا أبو بكر عبيد الله بن محمد بن عبد العزيز العمري القاضي إملاء قال : حدثنا أبو إبراهيم يحيى بن أبي قتيلة المدني قال : حدثنا مالك بن أنس ، عن الزهري عن سعيد بن المسيب ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره حدثنا خلف بن قاسم : حدثنا عبد الله بن جعفر بن الورد ، وأحمد بن الحسن بن إسحاق قالا : حدثنا عبيد الله بن محمد العمري قال : حدثنا أبو إبراهيم يحيى بن أبي قتيلة المدني ، عن مالك بن أنس عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة وأخبرنا محمد حدثنا علي بن عمر : حدثنا أبو بكر الشافعي : حدثنا أبو إسماعيل الترمذي قال : حدثنا يحيى بن أبي قتيلة : حدثنا مالك عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة وأما رواية ابن وهب على الاتصال فحدثنا خلف بن القاسم ، وأحمد بن فتح قالا : حدثنا أبو أحمد عبد الله بن محمد بن ناصح المفسر قال : حدثنا أبو محمد عبد الرحمن بن [ ص: 44 ] إسماعيل الكوفي قال : حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال : حدثنا ابن وهب قال : أخبرني مالك بن أنس ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة .

وقد ذكر الطحاوي أن قتيبة المهري رواه عن مالك كما رواه ابن الماجشون وأبو عاصم والله أعلم وذكر الدارقطني من رواية أبي يوسف القاضي ، ومطرف بن عبد الله المدني ، وابن وهب ، وسعيد بن داود الزبيري ، بالأسانيد عنهم عن مالك عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم .

قال أبو عمر :

وأما سائر أصحاب ابن شهاب غير مالك ; فإنهم اختلفوا فيه عليه أيضا ; فرواه عنه محمد بن إسحاق كما ذكرنا ، عن سعيد ، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر أبا سلمة ورواه ابن وهب عن يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب مرسلا لم يذكر أبا سلمة وجعله مرسلا عن سعيد ، رواه ابن جريج عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة ، أو عن سعيد بن المسيب ، أو عنهما جميعا عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قسمت الأرض أو حدت فلا شفعة هكذا ذكره محمد بن يحيى ، عن حسن بن الربيع ، عن ابن إدريس ، عن ابن جريج ، ولم يروه عبد الرزاق عن ابن جريج ، ورواه معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر قال : إنما جعل رسول [ ص: 45 ] الله - صلى الله عليه وسلم - الشفعة فيما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة لم يذكر سعيدا وجعله عن جابر هكذا رواه عبد الرزاق ، ومحمد بن ثور ، وهشام بن يوسف عن معمر أخبرنا خلف بن القاسم قال : حدثنا أبو الميمون البجلي بدمشق قال : حدثنا أبو زرعة قال : قال لي أحمد بن حنبل رواية معمر عن الزهري في حديث الشفعة حسنة ، قال : وقال لي يحيى بن معين : رواية مالك أحب إلي وأصح في نفسي مرسلا عن سعيد ، وأبي سلمة .

قال أبو عمر :

كان ابن شهاب رحمه الله أكثر الناس بحثا على هذا الشأن ; فكان ربما اجتمع له في الحديث جماعة فحدث به مرة عن بعضهم على قدر نشاطه ، في حين حديثه ، وربما أدخل حديث بعضهم في حديث بعض ; كما صنع في حديث الإفك وغيره ، وربما لحقه الكسل فلم يسنده ، وربما انشرح فوصل ، وأسند على حسب ما تأتي به المذاكرة ; فلهذا اختلف أصحابه عليه اختلافا كبيرا في أحاديثه ، ويبين لك ما قلنا روايته لحديث ذي اليدين رواه عنه جماعة : فمرة يذكر فيه واحدا ، ومرة اثنين ، ومرة جماعة ، ومرة جماعة غيرها ، ومرة يصل ، ومرة يقطع ، وحديثه هذا في الشفعة حديث صحيح معروف [ ص: 46 ] عند أهل العلم مستعمل عند جميعهم لا أعلم بينهم في ذلك اختلافا ، كل فرقة من علماء الأمة يوجبون الشفعة للشريك في المشاع من الأصول الثابتة التي يمكن فيها صرف الحدود وتطريق الطرق .

وأوجبت طائفة الشفعة للجار الملاصق لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي رافع الجار أحق بصقبه وهو حديث يرويه ابن ميسرة عن عمرو بن الشريد عن أبي رافع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا لفظ مشكل ليس فيه تصريح بالشفعة ، والصقب : القرب ، وهو حديث قد اختلف في إسناده وفي معناه ، ولم يثبت فيه شيء أخبرنا إبراهيم بن شاكر قال : حدثنا عبد الله بن عثمان قال : حدثنا سعيد بن عثمان ، وأخبرنا أحمد بن عبد الله بن محمد قال : حدثني أبي قال : حدثنا محمد بن قاسم قال : حدثنا مالك بن عيسى القفصي قال : حدثنا أحمد بن صالح قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن قال : أحمد بن صالح هو حجازي ثقة ، وهو أبو يعلى بن كعب قال : سمعت عمرو بن الشريد يحدث عن الشريد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : المرء أحق بصقبه قلت لعمرو وما صقبه ؟ قال : الشفعة ، قلت : من الناس من يقول : الجوار ، قال : إن الناس ليقولون ذلك

أخبرنا عبد الله بن محمد : حدثنا محمد بن بكر : حدثنا أبو داود : حدثنا أحمد بن حنبل : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن ابن [ ص: 47 ] جريج عن أبي الزبير عن جابر قال : إنما جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشفعة في كل شرك ربع أو حائط وذكر الحديث قال : وحدثنا محمد بن يحيى بن فارس : ثنا حسين بن الربيع : حدثنا ابن إدريس عن ابن جريج عن ابن شهاب عن أبي سلمة أو عن سعيد بن المسيب أو عنهما جميعا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قسمت الأرض وحدت فلا شفعة فيها وأوجب آخرون الشفعة بالطريق ; إذا كان طريقهما واحدا لحديث يروونه عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك قال : الجار أحق بشفعته ينتظر بها ، وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا ، وهذا الحديث يرويه عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، عن جابر ; قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها ، وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدة حدثناه عبد الله بن محمد : حدثنا محمد بن بكر : حدثنا أبو داود : حدثنا أحمد بن حنبل : حدثنا هشيم : أنبأنا عبد الملك ، عن عطاء ، عن جابر بن عبد الله فذكره ، ويحتمل أن يكون الجار المذكور في هذا الحديث هو [ ص: 48 ] الشريك في المشاع ، والعرب قد تسمي الشريك جارا ، والزوجة جارة ، وإذا حمل على هذا لم تتعارض الأحاديث على أني أقول : إن حديث عبد الملك هذا في ذكر الطريق قد أنكره يحيى القطان وغيره ، وقالوا : لو جاء بآخر مثله ترك حديثه وليس عبد الملك هذا مما يعارض به أبو سلمة ، وأبو الزبير ، وفيما ذكرنا من روايتهما عن جابر ما يدفع رواية عبد الملك هذه ، وإيجاب الشفعة إيجاب حكم ، والحكم إنما يجب بدليل لا معارض له ، وليس في الشفعة أصل لا اعتراض فيه ، ولا خلاف إلا في الشريك المشاع فقف عليه ، وفي قول جابر بن عبد الله : إنما جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشفعة في كل شرك ربع أو حائط ما ينفي الشفعة في غير المشاع من العقار [ ص: 49 ] وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - : إذا قسمت الأرض وحدت فلا شفعة ما ينفي شفعة الجار وبالله التوفيق ، وقد أوجب قوم الشفعة في كل شيء من الحيوان أو غيره وسائر المشاع من الأصول وغيرها ، وهي طائفة من المكيين ، ورووا في ذلك حديثا من أحاديث الشيوخ التي لا أصل لها ، ولا يلتفت إليها لضعفها ونكارتها وأبى أكثر فقهاء الحجاز من الشفعة في شيء من ذلك كله إلا أن يكون أصلا مشاعا يحتمل القسمة ، وتصلح فيه الحدود لحديث ابن شهاب هذا ; لأنه ينفي الشفعة في كل مقسوم بقوله : فإذا وقعت الحدود فلا شفعة ، وهو مذهب عمر وعثمان وعمر بن عبد العزيز ، وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب قال : إذا قسمت الأرض وحدت فلا شفعة فيها قال : وأخبرنا مالك عن محمد بن عمارة عن أبي بكر بن حزم أن عثمان بن عفان قال : إذا وقعت الحدود فلا شفعة فيها قال : وأخبرنا معمر والثوري عن إبراهيم بن ميسرة عن عمر بن عبد العزيز قال : إذا ضربت الحدود فلا شفعة فيها قال : وأخبرنا [ ص: 50 ] ابن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة قال : قلت لطاوس : إن عمر بن عبد العزيز كتب إذا ضربت الحدود فلا شفعة : قال طاوس : الجار أحق

قال أبو عمر :

إذا لم تجب الشفعة للشريك إذا قسم وضرب الحدود ; كان الجار الملاصق لم يقسم ولا ضرب الحدود أبعد من أن يجب ذلك له فالشفعة واجبة بهذا الحديث في كل أصل مشاع من ربع ، أو أرض ، أو نخل ، أو شجر ، تمكن فيه القسمة والحدود وهذا في الشريك في المشاع دون غيره إجماع من العلماء ، وفي قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المشاع بعد تمام البيع دليل على جواز بيع المشاع ، وإن لم يتغير إذا علم السهم والجزء ، والدليل على صحة تمام البيع في المشاع أن العهدة إنما تجب على المبتاع ، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - الشفعة فيما لم يقسم دليل على أن ما لا يقسم ولا يضرب فيه حدود لا شفعة فيه ، وهذا ينفي الشفعة أيضا في الحيوان وغيره مما لا يقسم ، ويوجبها في الأصل الثابت في الأرض المشاع دون ما عداه ; فإن قيل إن الأحاديث الموجبة للشفعة للجار وغيره فيها زيادة حكم على حديث ابن شهاب هذا فيجب المصير إليها قيل له : قد عارضها حديث ابن شهاب لأنه ينفي الشفعة بقوله : ( ( الشفعة في كل شرك لم يقسم ) ) فأوجب الشفعة في المشاع وأبطلها في المقسوم ، وإذا حصلت الآثار في هذا الباب متعارضة متدافعة سقطت عند النظر ، ووجب الرجوع إلى الأصول ، وأصول السنن كلها ، والكتاب يشهد أنه لا يحل إخراج ملك من يد قد ملكته ملكا صحيحا إلا بحجة لا معارض لها ، والمشتري شراء صحيحا قد [ ص: 51 ] ملك ملكا تاما فكيف يؤخذ ماله بغير طيب نفس منه دون حجة قاطعة يجب التسليم لها ؟ .

وهذا الذي احتججنا له ، كله قول مالك ، وأهل المدينة ، والشافعي ، وأصحابه ، وعامة أهل الأثر ، إلا أن أصحاب مالك اختلفوا في الشفعة في الثمرة ; إذا بيعت حصة منها دون الأصل ; فأوجب الشفعة للشريك فيها ابن وهب ، وابن القاسم وأشهب ، ورووه عن مالك ، وقال المغيرة ، وعبد الملك بن الماجشون ، وابن أبي حازم ، وابن دينار : لا شفعة فيها ، ورووه عن مالك أيضا ، وهو قول أكثر أهل المدينة ، وهو مذهب الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وداود بن علي ، وأهل النظر والأثر ، وهو الصحيح عندي ، وبالله التوفيق .

وقد حكى ابن القاسم ، عن مالك أنه قال : ما أعلم أحدا قبلي أوجب الشفعة في الثمرة ، وحسبك بهذا ، ولا خلاف عن مالك وأصحابه أنهم لا يوجبون الشفعة في الثمرة إذا بيعت مع الأصل واشترطها مشتريها ، وهو قول جمهور الفقهاء ; لأنها تبع للأصل فكأنها شيء منه إذا بيعت معه ، وقد أبطل ابن القاسم الشفعة في الأرض دون الرحي ، وخالفه أشهب ، وابن وهب ، فأوجبا الشفعة في الرحي مع الأرض ، ومعلوم أن الرحي مع أرضها أثبت وأشبه بالأصول التي وردت الشفعة في مثلها من الثمرة المبيعة دون أصلها ، ومن الثمرة المبيعة مع الأصل التي لا تدخل في الصفقة إلا باشتراط كسائر العروض المباينة ، وبقول أشهب ، وابن وهب ، يقول سحنون في الشفعة في الرحي : واختلف قول مالك وأصحابه في الشفعة في الحمام ، وأوجبها بعضهم ، ونفاها بعضهم ، وكذلك اختلف أصحاب مالك أيضا في الشفعة ، في الكراء وفي المساقاة واختلف في ذلك قول مالك أيضا ، وحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - المذكور في [ ص: 52 ] هذا الباب ينفي الشفعة في كل ما لا يقع فيه الحدود من المشاع ، والقول به نجاة لمن اتبعه ، وبالله التوفيق والرشاد .

وقال محمد بن عبد الحكم : لا شفعة إلا في الأرضين والنخل والشجر ولا شفعة في ثمرة ، ولا كتابة مكاتب ، ولا في دين ، وإنما الشفعة في الأصول والأرضين خاصة ، وهو قول الشافعي ، وجمهور العلماء وقد قال مالك : لا شفعة في عين إلا أن يكون لها بياض ، ولا في بئر ، ولا في عرصة دار ، ولا فحل نخل ، وقال محمد بن عبد الحكم : الشفعة في ذلك ; لأنه من الأصول .

قال أبو عمر :

هذه الأشياء عند من أوجب الشفعة فيها من جنس الأصول التي قصدت بإيجاب الشفعة فيها قال : وجرى ذكر الحدود في ذلك ; لأنه الأغلب فيها وما لا تأخذه الحدود منها فتبع لها ، حكمه حكمها ، ومن لم يوجب الشفعة في البئر والعين التي قد قسم البياض الذي يسقى منها ; ثم نبعت العين بعد ذلك ، وفي فحل النخل فمن حجته أن ذلك ليس مما تأخذه الحدود إلا أنه يدخل على قائل هذه المقالة تناقض في إيجابه الشفعة في الثمرة والكراء وتناقض آخر في نفي الشفعة عن عرصة الدار ، ولهذه المسائل وجوه يدخل عليها الاعتراضات يطول الكتاب بذكرها ، واختلف أصحاب مالك أيضا في الرجل يبيع دينا له [ ص: 53 ] على رجل هل يكون المديان أحق به أم لا ؟ ورويت بإجازة ذلك آثار عن بعض السلف من أهل المدينة : أن الذي عليه الدين أحق به ، وهذا عندي ليس من باب الشفعة في شيء ، وإنما هو من باب لا ضرر ولا ضرار ، وإن كان المشتري كالبائع في حسن التقاضي والبعد من الأذى والجور ، فلا قول للمدين في ذلك ، وإلى هذا ذهب إسماعيل بن إسحاق ، وهو الصحيح في النظر ، وذكر الشفعة في الدين مجاز لأنه محال أن تجب الشفعة فيما لا يقسم من الأصول الثابتة ، عند جمهور علماء المسلمين ، والأصل في هذا الباب حديث ابن شهاب المذكور ، وهو ينفي الشفعة في كل ما لا يجوز فيه القسمة بضرب الحدود من الأصول ، وما كان في معنى ما يضرب فيه الحدود من الأصول والله أعلم ، وفيه أيضا دليل على أن الشفعة تجب لكل شريك في مشاع من الأصول واختلف أصحاب مالك في دخول العصبات على أصحاب السهام في الشفعة مثل : رجل توفي وترك بنات وعصبة فباع أحد البنات حصتها من الربع الموروث ; فالمشهور من مذهب مالك وابن القاسم أن الشفعة تجب في نصيبها من ذلك لأخواتها دون العصبات ، ولا يدخل العصبة على أهل [ ص: 54 ] السهام في شفعتهم بينهم ، ولو باع أحد العصبة حصته من ذلك ، دخل البنات مع من بقي من العصبة في الشفعة ، وقال أشهب : لا يدخل هؤلاء على هؤلاء ولا هؤلاء على هؤلاء ، وقال المغيرة ، وابن دينار : يدخل هؤلاء على هؤلاء ، وهو قول الشافعي ; لأن العلة في ذلك الشركة ، ودخول الضرر في الأغلب ، وليس للقرابة في ذلك معنى عندهم ، ومسائل الشفعة وفروعها كثيرة جدا لا يصلح بنا إيرادها في هذا الكتاب ، والله الموفق للصواب لا شريك له .




الخدمات العلمية