الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
168 [ ص: 79 ] حديث ثان لابن شهاب عن أبي سلمة متصل صحيح

مالك عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة كان يصلي لهم فيكبر كلما خفض ورفع فلما انصرف قال : والله إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم

التالي السابق


لم يختلف عن مالك رواة الموطأ في هذا الحديث ، ورواه محمد بن مصعب القرقساني عن مالك بإسناده هذا عن الزهري عن أبي سلمة قال : صلى لنا أبو هريرة فكان يرفع يديه في كل خفض ورفع ثم قال : إني لأعلمكم بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هكذا قال : كان يصلي ويرفع يديه في كل خفض ورفع حتى يفرغ من صلاته ذكره الدارقطني عن [ ص: 80 ] القاضي أبي عمر محمد بن يوسف بن يعقوب ، عن أحمد بن ملاعب ، عن محمد بن مصعب قال الدارقطني : قال لنا القاضي أبو عمر هكذا قال محمد بن مصعب ، وإنما هو كان يكبر في كل خفض ورفع ، وقال فيه إبراهيم بن طهمان عن مالك ، وعباد بن إسحاق ، ويحيى بن سعيد عن أبي سلمة أن أبا هريرة كان يصلي لهم فيكبر في كل خفض ورفع وقيام وقعود وليس في الموطأ عند رواته : وقيام وقعود .

وفي هذا الحديث من الفقه أن حكم الصلاة أن يكبر في كل خفض ورفع منها ، وأن ذلك سنتها ، وهذا قول مجمل ; لأن رفع الرأس من الركوع ليس فيه تكبير ، إنما هو التحميد بإجماع ، فتفسير ذلك أنه كان يكبر كلما خفض ورفع إلا في رفعه رأسه من الركوع ; لأنه لا خلاف في ذلك ، وفيه أن الناس لم يكونوا كلهم يفعلون ذلك ، ولذلك قال : أنا أشبهكم صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومما يدلك على ذلك ما ذكره ابن أبي ذئب في موطئه عن سعيد بن سمعان أنه قال : ثلاث كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعلهن ، تركهن الناس : كان إذا قام إلى الصلاة رفع يديه مدا ، وكان يقف قبل القراءة هنية يسأل الله من فضله ، وكان يكبر كلما خفض ورفع ، وقد أوضحنا هذا المعنى في باب ابن شهاب عن علي بن حسين والحمد لله ، وقد قال قوم من أهل العلم : إن التكبير إنما [ ص: 81 ] هو إذن بحركات الإمام وشعار للصلاة وليس بسنة إلا في الجماعة ، وأما من صلى وحده ; فلا بأس عليه أن لا يكبر ، ولهذا ما ذكر مالك هذا الحديث عن ابن شهاب عن علي بن حسين قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبر في الصلاة كلما خفض ورفع ، فلم تزل تلك صلاته حتى لقي الله ، وحديث ابن عمر وجابر أنهما كانا يكبران كلما خفضا ورفعا في الصلاة وكان جابر يعلمهم ذلك ; فذكر مالك الأحاديث كلها ليبين لك أن التكبير من سنن الصلاة ، وقال ابن القاسم فيمن نسي ثلاث تكبيرات من صلاته وحده ; أنه يسجد قبل السلام فإن لم يفعل أعاد الصلاة ، وإن نسي واحدة أو اثنتين سجد أيضا قبل السلام ; فإن لم يفعل فلا شيء عليه ، وقد روي عنه أن التكبيرة الواحدة ليس على من نسيها سجود ولا شيء وخالفه أصبغ وعبد الله بن عبد الحكم في رأيه فقالا : لا إعادة على من نسي التكبير كله في صلاة إذا كان قد كبر لإحرامه ، وإنما عليه سجدتا السهو ، وإن لم يسجدهما فلا حرج ، وعلى هذا القول فقهاء الأمصار ، وأئمة الفتوى ، وهو الذي ذهب إليه أبو بكر الأبهري قال الأبهري : رحمه الله على مذهب مالك : الفرائض في الصلاة خمس عشرة فريضة : أولها النية ثم الطهارة ، وستر العورة ، والقيام إلى الصلاة ، ومعرفة دخول الوقت ، والتوجه إلى القبلة ، وتكبيرة الإحرام ، وقراءة أم القرآن ، والركوع ، ورفع الرأس منه ، والسجود ، ورفع الرأس منه ، والقعود الآخر ، والسلام ، وقطع الكلام .

[ ص: 82 ] قال أبو عمر :

فذكر الأبهري في فرائض الصلاة تكبيرة الإحرام وحدها دون سائر التكبير ، وقال الأبهري : والسنن في الصلاة : خمس عشرة سنة أولها : الأذان ، والإقامة ، ورفع اليدين ، والسورة مع أم القرآن ، والتكبير كله سوى تكبيرة الإحرام ، وسمع الله لمن حمده ، والاستواء من الركوع ، والاستواء من السجود ، والتسبيح في الركوع ، والتسبيح في السجود ، والتشهد ، والجهر في صلاة الليل ، والسر في صلاة النهار ، وأخذ الرداء ، ورد السلام على الإمام ; إذا سلم من الصلاة ; فذكر في سنن الصلاة التكبير كله سوى الإحرام ، وهذا هو الصواب ، وعليه جمهور فقهاء الأمصار

قال أبو عمر :

إنما اختلفت الأئمة في الإحرام ، وأما فيما سواها من التكبير فلا أعلم فيه ما ذكرت ، وسنذكر اختلاف العلماء في الإحرام وغيرها من معاني هذا الباب بأتم من هذا المعنى في باب ابن شهاب عن علي بن حسين من كتابنا هذا إن شاء الله ، وقد روي عن عمر بن الخطاب ، وعمر بن عبد العزيز ، وقتادة وغيرهم أنهم كانوا لا يتمون التكبير حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا إسحاق بن أبي حسان قال : حدثنا هشام بن عمار قال : حدثنا عبد الحميد قال : حدثنا الأوزاعي قال : حدثنا يحيى بن أبي كثير قال : حدثني أبو سلمة قال : رأيت أبا هريرة يكبر هذا التكبير الذي ترك الناس فقلت : يا أبا هريرة ما هذا التكبير فقال : إنها لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا يدلك على أن [ ص: 83 ] التكبير في كل خفض ورفع كان الناس قد تركوه على ما قدمنا إلى عهد أبي سلمة ، وفي ترك الناس له من غير نكير من واحد منهم ما يدل على أن الأمر عندهم محمول على الإباحة ، وأن ترك التكبير لا تفسد به الصلاة في غير الإحرام ، وروى ابن وهب قال : أخبرني عياض بن عبد الله الفهري أن عبد الله بن عمر كان يقول : لكل شيء زينة ، وزينة الصلاة التكبير ، ورفع الأيدي فيها ، وهذا أيضا يدل على أن التكبير ليس من صلب الصلاة عند ابن عمر ; لأنه شبهه برفع اليدين وقال : هو من زينة الصلاة ، وكان عبد الله بن عمر يكبر في كل خفض ورفع ، وهذا يدل على ما قلنا أنه سنة وفضل وزينة للصلاة لا ينبغي تركه ، وكذلك يقول جماعة فقهاء الأمصار أبو حنيفة فيمن اتبعه ، والشافعي فيمن سلك مذهبه ، والثوري والأوزاعي ، وأحمد بن حنبل وداود والطبري ، وسائر أهل الحديث وأهل الظاهر كلهم يأمرون به ويفعلونه فإن تركه تارك عندهم بعد أن يحرم لم تفسد صلاته ; لأنه ليس عندهم من فرائض الصلاة ، وقد روي عن ابن عمر أنه كان لا يكبر إذا صلى وحده قال إسحاق بن منصور : سمعت أحمد بن حنبل يقول : يروى عن ابن عمر أنه كان لا يكبر إذا صلى وحده قال أحمد : وأحب إلي أن يكبر إذا صلى وحده في الفرائض وأما في التطوع فلا [ ص: 84 ]

قال أبو عمر :

لا يحكي أحمد عن ابن عمر إلا ما صح عنده ، وأما روايته عن مالك عن نافع عن ابن عمر أنه كان يكبر في الصلاة كلما خفض ورفع فيدل ظاهرها على أنه كذلك كان يفعل إماما أو غير إمام والله أعلم ، وقال إسحاق : قلت لأحمد بن حنبل ما الذي نقصوا من التكبير ؟ قال : إذا انحط إلى السجود من الركوع ، وإذا أراد أن يسجد السجدة الثانية من كل ركعة : حدثنيه أحمد بن محمد بن أحمد قال : حدثنا الحسن بن سلمة قال : حدثنا ابن الجارود قال : حدثنا إسحاق بن منصور فذكره وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن عبد السلام قال : حدثنا بندار قال : حدثنا أبو داود عن شعبة عن الحسن بن عمران قال : سمعت سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى يحدث عن أبيه أنه صلى خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يكن يتم التكبير كان لا يكبر إذا خفض حدثني خلف بن [ ص: 85 ] سعيد قال : حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا أحمد بن خالد قال : حدثنا علي بن عبد العزيز قال : حدثنا معلى بن أسد قال : حدثنا عبد العزيز يعني ابن المختار عن عبد الله الداناج قال : حدثني عكرمة قال : صليت مع أبي هريرة قال : فكان يكبر إذا رفع وإذا وضع ( فأخبرت ابن عباس ) فقال : لا أم لك أوليست تلك سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - ، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، وسنذكر بعضها في باب ابن شهاب عن علي بن الحسين من كتابنا هذا إن شاء الله ، وفيما ذكرنا كفاية شافية لمن ساعده الفهم والتوفيق ، ومما يدل على أن التكبير في الصلاة ليس منه شيء واجب إلا التكبيرة الأولى حديث أبي هريرة ورفاعة بن رافع جميعا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى رجلا قد دخل المسجد فصلى ثم جاء فسلم فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ارجع فصل ; فإنك لم تصل ، فرجع فصلى ; ثم جاء فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ارجع فصل ; فإنك لم تصل فعل ذلك مرتين أو ثلاثا فلما كان في الثانية أو الثالثة قال له : يا رسول الله : قد أجهدت نفسي فعلمني فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ وأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة ثم كبر ثم اقرأ ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى [ ص: 86 ] تطمئن رافعا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها حتى تتمها : حدثناه محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أنبأنا محمد بن المثنى قال : أنبأنا يحيى قال : أخبرني عبيد الله بن عمر قال : حدثنا سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة ، وأخبرناه عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا سفيان بن أصبغ قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد قال : حدثني يحيى عن ابن عجلان : حدثني علي بن يحيى بن خلاد بن رافع الزرقي عن أبيه عن رفاعة بن رافع دخل حديث بعضهم في بعض ، والمعنى واحد ففي هذا الحديث القصد إلى فرائض الصلاة الواجبة فيها ، وقد جاء فيه التكبيرة الأولى للإحرام دون غيرها من التكبير ففيما ذكرنا من الآثار في هذا الباب ما يدل أن التكبير كله ما عدا الإحرام سنة حسنة ، وليس بواجب ، والله أعلم فإن قيل : إن التسليم لم يذكر في هذا الحديث ، وأنتم توجبونه لقيامه من غير هذا الحديث ، فغير نكير أن يقوم وجوب جملة التكبير من غير حديث هذا الباب وإن لم يكن في حديث [ ص: 87 ] رفاعة هذا ، وما كان مثله قيل له : إن التسليم قد قام دليله ، وثبت النص فيه بقوله - صلى الله عليه وسلم - : تحليلها التسليم ، وبأنه كان - صلى الله عليه وسلم - يسلم من صلاته طول حياته فثبت التسليم قولا وعملا ، وأما التكبير فيما عدا الإحرام ; فقد كان تركه الصدر الأول ; فلذلك قال لهم أبو هريرة : أنا أشبهكم صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يعب بعضهم على بعض تركه ; بل جعلوه من باب الكمال والتمام فلذلك قلنا : إن التكبير فيما عدا الإحرام سنة يحسن العمل بها ، وليس بواجب ; وعلى هذا جمهور الفقهاء ; فإن قيل : إن الجلسة الوسطى سنة ، ومن تركها بطلت صلاته ، فكذلك من ترك جملة التكبير المسنون قيل لقائل ذلك : وضعت التمثيل في غير موضعه ; لأن من ترك الجلسة الوسطى عامدا بطلت صلاته ، وأنت ترى السلف ، والعمل الأول ، والأمر القديم قد ترك فيه التكبير ، ولم يعب بعضهم على بعض ، ولم يجز [ ص: 88 ] واحد منهم ترك الجلسة الوسطى عامدا ، ولا تركها ، وحسبك بهذا فرقا يخص به الجلسة الوسطى من بين سائر السنن ، وسائر أعمال البدن في الصلاة والتكبير فيما عدا تكبير الإحرام المخصوص بالوجوب أشبه بالتسبيح في الركوع والسجود ، وسورة مع أم القرآن ، ورفع اليدين منه بالجلسة الوسطى والله المستعان .

ولو كان التكبير من فروض الصلاة التي تعاد منه إذا سها عنه لكانت ، كل في ذلك سواء في وجوبها ، ولما افترق حكم الواحدة والاثنتين والثلاث ، والأكثر في ذلك ألا ترى أن السجدة في كل ركعة لا تنوب عن غيرها ، وأنها فرض في نفسها ; فلو كانت التكبيرات واجبات كانت كذلك ، ولا حجة لمن فرق بين ذلك وبالله التوفيق ، وقد ذكرنا اختلاف العلماء في تكبيرة الإحرام ، وفي معاني من تكبير الإمام والمأموم في باب ابن شهاب عن علي بن حسين من هذا الكتاب والحمد لله




الخدمات العلمية