الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1712 مالك ، عن ابن شهاب ، عن أبي بكر بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه ، وليشرب بيمينه ، فإن الشيطان يأكل بشماله ، ويشرب بشماله ) .

التالي السابق


هكذا قال يحيى ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن أبي بكر بن عبد الله بن عبد الله بن عمر ، وهو وهم وغلط لا شك عند أحد من أهل العلم ، والآثار ، والأنساب ، والصحيح أنه أبو بكر بن عبيد الله على حسب ما قدمنا ذكره لا يختلفون في ذلك ، وكذلك قال جماعة أصحاب مالك عنه في هذا الحديث ، وجماعة أصحاب ابن شهاب منهم ابن عيينة ، وعبيد الله بن عمر [ ص: 110 ] وعبد الرحمن بن إسحاق ، ومن قال فيه عن أبي بكر بن عبد الله فقد أخطأ .

وقال ابن بكير في هذا الحديث ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن أبي بكر بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه ، عن ابن عمر .

ولم يتابعه أحد من أصحاب مالك على ذلك فيما علمت ، وإنما يجعلون الحديث لأبي بكر بن عبيد الله ، عن جده لا يقولون فيه عن أبيه كما قال ابن بكير .

ورواه إبراهيم بن طهمان ، عن مالك ، عن الزهري ، عن أبي بكر بن عبيد الله بن عمر عمن حدثه أنه سمع ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أكل أحدكم فذكره سواء .

قال الدارقطني : روى هذا الحديث عمر بن محمد بن زيد ، عن القاسم بن عبيد الله ، عن عبد الله بن عمر ، وهو أبو بكر الذي روى عنه الزهري ، وقال : عن سالم ، عن ابن عمر فأشبه أن يكون قول إبراهيم بن طهمان له وجه - والله أعلم - .

واختلف في ذلك عن ابن شهاب أيضا بعض الاختلاف ، والصحيح أنه لأبي بكر بن عبيد الله ، عن جده لأن أكثر أصحاب مالك يقولون ذلك ، وكذلك قال ابن عيينة عبيد الله بن عمر ، وغير مستنكر أن يرويه أبو بكر هذا ، عن جده عبد الله بن عمر .

وقد روى عن عبد الله بن عمر من حفدته : محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر ، وروى عنه من دون هؤلاء في السن [ ص: 111 ] وقد روى هذا الحديث معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر ، وأخشى أن يكون خطأ ، عن معمر لأنه لم يروه غيره ، ولا يحفظ هذا الحديث من حديث الزهري ، عن سالم ، ولو كان عند الزهري عن سالم ما حدث به عن أبي بكر - والله أعلم - .

وهو مما حدث به معمر باليمن وبالبصرة ; لأنه رواه عنه عبد الأعلى ، وعبد الرزاق ، وسعيد بن أبي عروبة حدثنا خلف بن سعيد قال : حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا أحمد بن خالد قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال : أنبأنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن سالم ، عن ابن عمر قال : ( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه ، وإذا شرب فليشرب بيمينه ، فإن الشيطان يأكل بشماله ، ويشرب بشماله ) ، وقد روى هذا الحديث معمر ، عن مالك ، فيما حدثنا خلف بن قاسم حدثنا محمد بن عبد الله بن زكرياء حدثنا حيوة حدثنا العباس بن محمد البصري حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن أبي بكر بن عبيد الله بن عمر ، عن عبد الله بن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكره .

قال أبو عمر :

الصواب في إسناد هذا الحديث الزهري ، عن أبي بكر بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، عن جده عبد الله بن عمر ، - والله أعلم - .

[ ص: 112 ] وإن صح حديث معمر ، عن الزهري ، عن سالم فهو إسناد آخر .

حدثنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا أحمد بن مطرف قال : حدثنا سعيد بن عثمان قال : حدثنا إسحاق بن إسماعيل الأيلي العثماني قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن أبي بكر بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، عن جده عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه ، وإذا شرب فليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله ، ويشرب بشماله .

وكذلك رواه علي ابن المديني ، والحميدي ، ومسدد ، وابن المقرئ ، وغيرهم ، عن ابن عيينة حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا بكر بن حماد حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد قال : حدثني عبيد الله بن عمر قال : حدثني الزهري ، عن أبي بكر بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يأكل أحدكم بشماله ، ولا يشرب بشماله .

وبهذا الإسناد عن مسدد حدثنا بشر بن المفضل حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق ، عن الزهري ، عن أبي بكر بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر قال : قال عبد الله بن عمر : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كلوا بأيمانكم ، واشربوا بأيمانكم فإن الشيطان يأكل بشماله ، ويشرب بشماله .

[ ص: 113 ] ( وفي هذا الحديث أدب الأكل والشرب ، ولا يجوز لأحد أن يأكل بشماله ، ولا أن يشرب بشماله ) لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، وفي أمره عليه السلام بالأكل باليمين والشرب بها نهي عن الأكل بالشمال والشرب بها ; لأن الأمر يقتضي النهي عن جميع أضداده ، فمن أكل بشماله أو شرب بشماله ، وهو بالنهي عالم فهو عاص لله ، ولا يحرم عليه مع ذلك طعامه ذلك ولا شرابه ; لأن النهي عن ذلك نهي أدب لا نهي تحريم .

والأصل في النهي أن ما كان لي ملكا فنهيت عنه فإنما النهي عنه تأدب ، وندب إلى الفضل والبر ، وإرشاد إلى ما فيه المصلحة في الدنيا ، والفضل في الدين ، وما كان لغيري فنهيت عنه ، فالنهي عنه نهي تحريم وتحظير - والله أعلم - .

وقد جاءت السنة المجتمع عليها أن اليمين للأكل والشرب ، والشمال للاستنجاء .

ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستنجى باليمين ، كما نهى أن يؤكل أو يشرب بالشمال ، وما عدى الأكل والشرب والاستنجاء ، فبأي يديه فعل الإنسان ذلك فلا حرج عليه .

إلا أن التيامن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحبه في الأمر كله ، فينبغي للمؤمن أن يحب ذلك ، ويرغب فيه ففي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأسوة الحسنة على كل حال .

[ ص: 114 ] حدثنا عبد الرحمن بن يحيى بن فتح قال : حدثنا حمزة بن محمد قال : أنبأنا القاسم بن الليث قال : أنبأنا هشام بن عمار قال : حدثنا هقل بن زياد قال : حدثنا هشام ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه ، وليشرب بيمينه ، وليأخذ بيمينه ، وليعط بيمينه ; فإن الشيطان يأكل بشماله ، ويشرب بشماله ، ويعطي بشماله ، ويأخذ بشماله .

وفي هذا الحديث دليل على أن الشياطين يأكلون ويشربون ، والشيطان المقصود إلى ذكره في هذا الحديث من الجن جنس من أجناسهم ، نحو قول الله عز وجل وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون ومثله كثير ، وقد يكون الشيطان من الإنس على طريق اتساع اللغة كما قال الله عز وجل شياطين الإنس والجن وإنما قيل لهؤلاء شياطين لبعدهم من الخير من قول العرب : نوى شطون أي بعيدة قال جرير :


أيام يدعونني الشيطان من غزلي وكن يهوينني إذ كنت شيطانا

وقال منظور بن رواحة :


فلما أتاني ما تقول ترقصت شياطين رأسي وانتشين من الخمر

وقال ابن ميادة :


فلما أتاني ما تقول محارب بعثت شياطيني وجن جنونها

[ ص: 115 ] وقال أبو النجم :


إني وكل شاعر من البشر شيطانه أنثى وشيطاني ذكر

ولا خلاف أنها لشياطين الجن أو من الجن اسم لازم لهم من أسمائهم للصالح منهم والطالح ، فأغنى ذلك عن الإكثار ، والأسماء لا تؤخذ قياسا فإنما هي على حساب ما علمها الله آدم - صلى الله عليه وسلم - أسماء علامات للمسميات .

وقد حمل قوم هذا الحديث ، وما كان مثله على المجاز ، فقالوا في قوله إن الشيطان يأكل بشماله : إن الأكل بالشمال أكل يحبه الشيطان كما قال في الخمرة زينة الشيطان ، وفي الاقتعاط بالعمامة عمامة الشيطان ، أي : إن الخمرة ومثل تلك العمة يزينها الشيطان ، ويدعو إليها ، وكذلك يدعو إلى الأكل بالشمال ، ويزينه ، وهذا عندي ليس بشيء ، ولا معنى لحمل شيء من الكلام على المجاز إذا أمكنت فيه الحقيقة بوجه ما .

وقال آخرون : أكل الشيطان صحيح ، ولكنه تشمم ، واسترواح ، لا مضغ ، ولا بلع ، وإنما المضغ والبلع لذوي الجثث ، ويكون استرواحه وشمه من جهة شماله ، ويكون بذلك مشاركا في المال .

قال أبو عمر :

أكثر أهل العلم بالتأويل يقولون في قول الله عز وجل [ ص: 116 ] وشاركهم في الأموال قالوا : الإنفاق في الحرام ، ( والأولاد ) قالوا الزنا .

ومن الدليل على أن الشياطين من الجن يأكلون ويشربون قوله - صلى الله عليه وسلم - في العظم والروثة في حديث الاستنجاء : هي زاد إخوانكم من الجن وفي غير هذا الحديث : إن طعامهم ما لم يذكر اسم الله عليه ، وما لم يغسل من الأيدي والصحاف ، وشرابهم الجدف ، وهي الرغوة والزبد .

وهذه أشياء لا تدرك بعقل ، ولا تقاس على أصل ، وإنما فيه التسليم لمن آتاه الله من العلم ما لم يؤتنا ، وهو نبينا - صلى الله عليه وسلم - .

وفي هذا الحديث حديث ابن عمر المذكور في هذا الباب ما يرفع الإشكال ، قوله : إن الشيطان يأكل بشماله ، ويشرب بشماله .

ويحتمل أن يكون الجن كلهم يأكلون ، ويشربون ، ويحتمل أن يكون كذلك بعضهم جنس منهم .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني قال : حدثنا المسيب بن واضح السلمي قال : حدثنا الحكم بن محمد الطفوي ، عن عبد الصمد بن معقل قال : سمعت وهب بن منبه يقول : وسئل عن الجن ما هم ؟ وهل يأكلون ، ويشربون ، ويموتون [ ص: 117 ] ويتناكحون ؟ قال : هم أجناس فأما الذين هم خالص الجن فهم ريح لا يأكلون ، ولا يشربون ، ولا يتوالدون ، ومنهم أجناس يأكلون ، ويشربون ، ويتناكحون ، ويتوالدون ، ويموتون ، ومنهم السعالي ، والغول ، والقطوب ، وأشباه ذلك ، فهذا وهب بن منبه قد قال : ما ترى - والله أعلم - .

ولأهل الكلام وغيرهم أقاويل في إدراك الجن بالأبصار ، وفي دخولهم في الإنسان ، هل هم مكلفون أو غير مكلفين ، ليس بنا حاجة إلى ذكر شيء من ذلك في كتابنا هذا ; لأنه ليس بموضع ذلك ، وهم عند الجماعة مكلفون مخاطبون لقوله تعالى يامعشر الجن والإنس وقوله تعالى فبأي آلاء ربكما تكذبان وقوله سنفرغ لكم أيها الثقلان وقوله لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ولا يختلفون أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رسول إلى الإنس والجن نذير وبشير ، هذا مما فضل به على الأنبياء أنه بعث إلى الخلق كافة الجن ، والإنس ، وغيره لم يرسل إلا بلسان قومه - صلى الله عليه وسلم - .

ودليل ذلك ما نطق به القرآن من دعائهم إلى الإيمان بقوله في مواضع من كتابه يا ( معشر الجن والإنس ) ، والجن عند أهل الكلام وأهل العلم باللسان ينزلون على مراتب : فإذا ذكروا الواحد من الجن خالصا قالوا : جني ، فإن أرادوا أنه ممن يسكن مع الناس قالوا : عامر ، والجمع عمار ، وإن كان ممن يعرض للصبيان قالوا : أرواح ، فإن خبث وتعرم فهو شيطان ، فإن زاد على [ ص: 118 ] ذلك فهو مارد ، فإن زاد على ذلك ، وقوي أمره قالوا : عفريت ، والجمع عفاريت .

حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي قال : حدثنا أبي قال : حدثنا عبد الله بن يونس قال : حدثني بقي بن مخلد قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا عبد الله بن بكر السهمي ، عن حاتم بن أبي صغيرة ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة بنت طلحة ، عن عائشة أم المؤمنين أنها قتلت جانا ، فأوتيت فيما يرى النائم فقيل لها : أما والله لقد قتلت مسلما قال : فقالت : إن كان مسلما فلم يدخل على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقيل لها : ما يدخل عليك إلا وعليك ثيابك ، فأصبحت فزعة ، فأمرت باثني عشر ألفا فجعلت في سبيل الله .

وروى مالك ، عن صيفي ، عن أبي السائب ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إن بالمدينة جنا قد أسلموا ، فإن رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام ، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان ، وقال الله عز وجل قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا وسيأتي من هذا المعنى بيان أيضا ، وشفاء في باب صيفي إن شاء الله عز وجل .




الخدمات العلمية