الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
211 حديث أول لأيوب السختياني

مالك ، عن أيوب بن أبي تميمة السختياني ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف من اثنتين ، فقال له ذو اليدين : أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه - : أصدق ذو اليدين ؟ فقال الناس : نعم ، فقام رسول الله - صلى الله عليه - فصلى ركعتين أخريين ثم سلم ، ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول ، ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول ، ثم رفع .

التالي السابق


محمد بن سيرين يكنى أبا بكر ، وهو مولى لأنس بن مالك الأنصاري ، وهو أحد أئمة التابعين من أهل البصرة ، ولد قبل قتل عثمان بسنتين ، وتوفي سنة عشر ومائة ، وقد ذكرنا الاختلاف في اسم أبي هريرة في كتابنا من الصحابة .

وفي هذا الحديث وجوه من الفقه والعلم ، منها أن النسيان لا يعصم منه أحد ، نبيا كان أو غير نبي ، قال - صلى الله عليه - : نسي آدم فنسيت ذريته .

[ ص: 342 ] وفيه أن اليقين لا يجب تركه للشك حتى يأتي يقين يزيله ، ألا ترى أن ذا اليدين كان على يقين من أن فرض صلاتهم تلك أربع ركعات ، وكانت إحدى صلاتي العشي كما روي ، فلما أتى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على غير تمامها ، وأمكن في ذلك القصر من جهة الوحي ، وأمكن الوهم - لزمه الاستفهام ليصير إلى يقين يقطع به الشك .

وفيه أن الواحد إذا ادعى شيئا كان في مجلس جماعة لا يمكن في مثل ما ادعاه أن ينفرد بعلمه دون أهل المجلس لم يقطع بقوله حتى تستخبر الجماعة ، فإن خالفوه سقط قوله أو نظر فيه بما يجب ، وإن تابعوه ثبت ، وقد جعل بعض أصحابنا وغيرهم من الفقهاء هذا أصلا في رؤية الهلال في غير غيم ، وهو أصل يطول فيه الكلام ، وليس هذا موضعه .

وفيه دليل على أن المحدث إذا خالفته جماعة في نقله أن القول قول الجماعة ، وأن القلب إلى روايتهم أشد سكونا من رواية الواحد .

وفيه أن الشك قد يعود يقينا بخبر أهل الصدق ، وأن خبر الصادق يوجب اليقين ، والواجب إذا اختلف أهل مجلس في شهادة ، وتكافأوا في العدالة - أن تؤخذ شهادة من أثبت علما دون من نفاه .

وفيه أن من سلم ساهيا في صلاته لم يضره ذلك وأتمها بعد سلامه ذلك ، وسجد لسهوه ، ولم يؤمر باستئناف صلاته ، بل يبني على ما عمل فيها ويتمها .

وفيه السجود بعد السلام لمن عرض له مثل هذا في صلاته ، أو لمن زاد فيها ساهيا ؛ قياسا عليه ، وسنذكر اختلاف الفقهاء في سجود السهو في باب زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، وفي باب ابن شهاب ، عن عبد الرحمن الأعرج إن شاء الله .

[ ص: 343 ] وفيه أن سجدتي السهو يكبر فيهما ، وأنهما على هيئة سجود الصلاة ، وليس في حديث مالك هذا السلام من سجدتي السهو ، وذلك محفوظ في غيره ، وسنذكر ذلك في هذا الباب إن شاء الله .

وقد كان ابن شهاب ينكر أن يكون رسول الله - صلى الله عليه - سجد يوم ذي اليدين ، ولا وجه لقوله ذلك ; لأنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه - في هذا الحديث وغيره أنه سجد يومئذ بعد السلام .

قرأت على خلف بن القاسم رحمه الله أن عبد الله بن جعفر بن الورد حدثهم ، قال : حدثنا يوسف بن يزيد قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني الليث بن سعد ، عن ابن أبي ذئب ، عن جعفر بن ربيعة ، عن عراء بن مالك ، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه - سجد يوم ذي اليدين سجدتين بعد السلام .

وقد زعم بعض أهل الحديث أن في هذا الحديث دليلا على قبول خبر الواحد ، وقد ادعى المخالف أن فيه حجة على من قال بخبر الواحد ، والصحيح أنه ليس بحجة في قبول خبر الواحد ولا في رده .

وفيه أيضا دليل على أن الكلام في الصلاة إذا كان فيما يصلحها وفيما هو منها لا يفسدها ، عمدا كان أو سهوا إذا كان فيما يصلحها .

وقد اختلف في هذا المعنى جماعة الفقهاء من أصحابنا وغيرهم على ما نبنيه إن شاء الله .

وفيه أن من تكلم في الصلاة وهو يظن أنه قد أتمها ، وهو عند نفسه في غير صلاة أنه يبني ، ولا تفسد صلاته ، فأما قول مالك وأصحابه في هذا الباب فإنهم اختلفوا فيه واضطربت أقاويلهم ورواياتهم فيه عن مالك ، فروى سحنون ، عن ابن القاسم ، عن مالك قال : لو أن قوما صلى بهم رجل [ ص: 344 ] ركعتين وسلم ساهيا ، فسبحوا به فلم يفقه ، فقال له رجل من خلفه ممن هو معه في الصلاة : إنك لم تتم فأتم صلاتك ، فالتفت إلى القوم ، فقال : أحق ما يقول هذا ؟ فقالوا : نعم ، قال : يصلي بهم الإمام ما بقي من صلاتهم ، ويصلون معه بقية صلاتهم من تكلم منهم ومن لم يتكلم ولا شيء عليهم ، ويفعلون في ذلك ما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم ذي اليدين ، هذا قول ابن القاسم في كتاب المدونة ، وروايته عن مالك ، وهو المشهور من مذهب مالك ، وإياه يقلد إسماعيل بن إسحاق ، واحتج له في كتاب رده على محمد بن الحسن ، وكذلك روى عيسى عن ابن القاسم قال عيسى : سألت ابن القاسم عن إمام فعل اليوم كفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم ذي اليدين ، وتكلم أصحابه على نحو ما تكلم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم ذي اليدين ، فقال ابن القاسم : يفعل كما فعل النبي عليه السلام يوم ذي اليدين ، ولا يخالفه في شيء من ذلك لأنها سنة سنها ، زاد العتبي في هذه عن عيسى ، عن ابن القاسم : وليرجع الإمام فيما شك فيه إليهم ويتم معهم ، ويجزيهم .

قال عيسى : قال ابن القاسم : ولو أن إماما قام من رابعة أو جلس في ثالثة ، فسبح به فلم يفقه ، فكلمه رجل ممن خلفه كان محسنا ، وأجزته صلاته .

قال عيسى : وقال ابن كنانة : لا يجوز لأحد من الناس اليوم ما جاز لمن كان يومئذ مع النبي صلى الله عليه ; لأن ذا اليدين ظن أن الصلاة قد قصرت فاستفهم عن ذلك ، وقد علم الناس اليوم أن قصرها لا ينزل ، فعلى من تكلم الإعادة ، قال عيسى : فقرأته على ابن القاسم ، فقال : ما أرى في هذا حجة ، وقد قال لهم رسول الله - صلى الله عليه - : كل ذلك لم يكن ، فقالوا له : بلى ، فقد كلموه عمدا بعد علمهم أنها لم تقصر ، وبنوا معه .

[ ص: 345 ] وقال يحيى ، عن ابن نافع : لا أحب لأحد أن يفعل مثل ذلك الفعل اليوم ، فإن فعل لم آمره أن يستأنف ، وروى أبو قرة موسى بن طارق ، عن مالك مثل قول ابن نافع خلاف رواية ابن القاسم عنه ، حدثنا خلف بن القاسم قال : حدثنا أحمد بن عبد الله بن عبد المومن قال : حدثنا المفضل بن محمد الجندي قال : حدثنا علي بن زياد قال : حدثنا أبو قرة قال : سمعت مالكا يستحب إذا تكلم الرجل في الصلاة أن يعود لها ولا يبني ، قال : وقال لنا مالك : إنما تكلم رسول الله - صلى الله عليه - وتكلم أصحابه معه يومئذ لأنهم ظنوا أن الصلاة قد قصرت ، ولا يجوز ذلك لأحد اليوم .

وروى أشهب عن مالك في سماعه ، أنه قيل له : أبلغك أن ربيعة صلى خلف إمام فأطال التشهد ، فخاف ربيعة أن يسلم ، وكان على الإمام السجود قبل السلام ، فكلمه ربيعة ، وقال له : إنهما قبل السلام ؟ فقال : ما بلغني ، ولو بلغني ما تكلمت به ، أيتكلم في الصلاة .

[ ص: 346 ] قال أبو عمر : تحتمل رواية أشهب هذه أن يكون مالك رجع فيها عن قوله الذي حكاه عنه ابن القاسم إلى ما حكاه عنه أبو قرة ، ويحتمل أن يكون أنكر هذا من فعل ربيعة من أجل أنه لم يكن يلزمه عنده الكلام فيما تكلم فيه ; لأن أمر سجود السهو خفيف في أن ينقل ما كان منه قبل السلام فيجعل بعد السلام ، فكأن ربيعة عند مالك تكلم فيما لم يكن ينبغي له أن يتكلم فيه ، ورأى كلامه كأنه في غير شأن الصلاة ، وذهب ربيعة إلى أنه تكلم في شأن الصلاة وصلاحها ، والله أعلم .

أخبرنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي الباجي قال : أخبرني أبي ، وحدثنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال : أخبرنا عبد الله بن محمد بن علي قال : أخبرنا عبد العزيز بن مدرك قال : أخبرنا ابن وضاح قال : حدثنا الحارث بن مسكين قال : أصحاب مالك كلهم على خلاف قول مالك في مسألة ذي اليدين إلا ابن القاسم وحده فإنه يقول فيها بقول مالك ، وغيرهم يأبونه ، ويقولون : إنما كان هذا أول الإسلام ، فأما الآن فقد عرف الناس صلاتهم ، فمن تكلم فيها أعادها ، قال ابن وضاح : وقد قيل إن ذا اليدين استشهد يوم بدر ، وإسلام أبي هريرة كان عام خيبر .

قال أبو عمر : قد قال جماعة من المتقدمين ما قاله ابن وضاح في موت ذي اليدين ، وليس عندنا كذلك ، وإنما المقتول ببدر ذو الشمالين ، وسنبين القول في ذلك بعد هذا في هذا الباب إن شاء الله .

وذكر سحنون ، عن ابن القاسم ، في رجل صلى وحده ، ففرغ عند نفسه من الأربع ، فقال له رجل إلى جنبه : إنك لم تصل إلا ثلاثا فالتفت [ ص: 347 ] إلى آخر فقال : أحق ما يقول هذا ؟ قال : نعم ، قال : تفسد صلاته ، ولم يكن ينبغي له أن يكلمه ولا يلتفت إليه ، وهذه المسألة عند أكثر المالكيين البغداديين وغيرهم محمولة من قول ابن القاسم على أن المصلي إنما يجوز له الكلام في إصلاح الصلاة للضرورة الدافعة إليه إذا كان في صلاة جماعة ، ولا يجوز ذلك للمنفرد ; لأنه لا يوجد بد لمن سبح به ولم يفقه بالتسبيح ، أن يكلم ويفصح له بالمراد للضرورة الداعية إلى ذلك في إصلاح الصلاة تأسيا بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه يوم ذي اليدين .

قال أبو عمر : فكانوا يفرقون في هذه المسألة بين الجماعة وبين المنفرد ، فيجيزون من الكلام في شأن الصلاة للإمام ومن معه ما لا يجيزونه للمنفرد .

وكان غير هؤلاء منهم يحملون جواب ابن القاسم في المنفرد في هذه المسألة على خلاف من قوله في استعمال حديث ذي اليدين ، كما اختلف قول مالك في ذلك ، ويذهبون إلى جواز الكلام في إصلاح الصلاة للمنفرد والجماعة ، ويقولون : لا فرق بين أن يكلم الرجل في إصلاح الصلاة من معه فيها ، وبين أن يكلم من ليس معه فيها ، إذا كان ذلك في شأن إصلاحها وعملها ، كما أنه لا فرق بين أن يكلم رجل من معه فيها ومن ليس فيها معه بكلام في غير إصلاحها - في أن ذلك يفسدها .

قالوا : وإذا كانت العلة شأن إصلاح الصلاة ، فالمنفرد قد شملته تلك العلة ، فلا يخرج عنها ، قالوا : وقد تكلم النبي صلى الله عليه وأصحابه يوم ذي اليدين في شأن الصلاة وبنوا على ما صلوا ، ولو كان بين المنفرد [ ص: 348 ] والجماعة فرق لبينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولقال : إنما هذا لمن كان مع إمامه خاصة دون المنفرد ، ولما سكت عن ذلك لو اختلف حكمه ، والله أعلم .

قال أبو عمر : من حجة من ذهب إلى الوجه الأول ممن يقول بقول ابن القاسم في هذا الباب أن النهي عن الكلام في الصلاة على ما ورد في حديث ابن مسعود وغيره إنما خرج على رد السلام في الصلاة ، وعلى مجاوبة من جاء فسأل بكم سبق من الصلاة ؟ وعلى من عرضت له حاجة فأمر بها وهو في صلاة ، وقد كان في مندوحة عن ذلك حتى يفرغ من صلاته ، فعلى هذا خرج النهي عن الكلام في الصلاة ، وجاء خبر ذي اليدين بجواز الكلام في إصلاح الصلاة إذا لم يوجد بد من الكلام ، فوجب استعمال الأخبار كلها ، وإلا يسقط بعضها ببعض ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بهذا التخريج والتوجيه ، والله أعلم .

وهذا ليس للمنفرد ; لأن المنفرد قد أمر بالبناء على يقينه ، فكان له في ذلك مندوحة عن الكلام ; لأن الكلام إنما جاز فيما لا يوجد منه مندوحة ، والله أعلم .

فهذا ما لمالك وأصحابه في رواية ابن القاسم وغيره في مسألة ذي اليدين ، وأما سائر العلماء فنحن نذكر ما صح في ذلك عندنا عنهم أيضا بعون الله .

أما أحمد بن حنبل ، فذكر الأثرم عنه أنه قال : ما تكلم به الإنسان في صلاته لإصلاحها لم تفسد عليه صلاته ، فإن تكلم بغير ذلك فسدت عليه ، وقال في موضع آخر : سمعت أحمد بن حنبل يقول في قصة ذي اليدين : [ ص: 349 ] إنما تكلم ذو اليدين وهو يرى أن الصلاة قد قصرت ، وتكلم النبي عليه السلام وهو دافع لقول ذي اليدين ، فكلم القوم فأجابوه ; لأنه كان عليهم أن يجيبوه .

وذكر الخرقي أن مذهب أحمد بن حنبل فيمن تكلم عامدا أو ساهيا بطلت صلاته إلا الإمام خاصة ، فإنه إذا تكلم لمصلحة صلاته لم تبطل صلاته .

وأما الأوزاعي ، فمذهبه جواز الكلام في الصلاة في كل ما يحتاج إليه المصلي مما يعذر فيه ، قال الأوزاعي : لو أن رجلا قال لإمام جهر بالقراءة في العصر : إنها العصر لم يكن عليه شيء ، قال : ولو نظر إلى غلام يريد أن يسقط في بئر فصاح به ، أو انصرف إليه أو جبذه - لم يكن بذلك بأس .

وأما الشافعي ، فقال : لا يشك مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينصرف إلا وهو يرى أن قد أكمل الصلاة ، وظن ذو اليدين أن الصلاة قد قصرت بحادث من الله ، ولم يقبل رسول الله - صلى الله عليه - من ذي اليدين إذ سأل غيره ، ولما سأل غيره احتمل أن يكون سأل من لم يسمع كلامه ، فيكونون مثله - يعني مثل ذي اليدين - واحتمل أن يكون سأل من سمع كلامه ، ولم يسمع النبي - صلى الله عليه - من رد عليه ، فلما لم يسمع النبي عليه السلام من رد عليه ، كان في معنى ذي اليدين من أنه لم يدر أقصرت الصلاة أم نسي رسول الله ؟ فأجابه ، ومعناه معنى ذي اليدين مع أن الفرض عليهم جوابه ، ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه - لما أخبروه ، فقبل قولهم لم يتكلم ولم يتكلموا حتى بنوا على صلاتهم ، قال : فلما قبض [ ص: 350 ] رسول الله - صلى الله عليه - تناهت الفرائض فلا يزاد فيها ولا ينقص منها أبدا ، قال : فهذا فرق ما بيننا وبينه إذا كان أحدنا إماما اليوم .

قال أبو عمر : فالذي حصل عليه قول مالك وأصحابه ، والشافعي وأصحابه ، في هذه المسألة مما لا يختلفون فيه أن الكلام والسلام ساهيا في الصلاة لا يفسدها ولا يقدح في شيء منها ، وتجزئ منه سجدتا السهو ، وليستا هاهنا بواجبة فرضا عند واحد منهم ، ومن نسيهما ولم يسجدهما لم تضره ، ويسجدهما عند مالك وأصحابه متى ما ذكر ، وإنما الخلاف بين مالك والشافعي أن مالكا يقول : لا يفسد الصلاة تعمد الكلام فيها إذا كان في إصلاحها وشأنها ، وهو قول ربيعة وابن القاسم إلا ما روي عنه في المنفرد .

وقال الشافعي وأصحابه ومن تابعهم من أصحاب مالك وغيرهم أنه إن تعمد الكلام وهو يعلم أنه لم يتم الصلاة وأنه فيها أفسد صلاته ، وإن تكلم ساهيا ، أو تكلم وهو يظن أنه ليس في الصلاة لأنه قد أكملها عند نفسه ، فهذا يبني ولا يفسد عليه كلامه هذا صلاته .

وأجمع المسلمون طرا أن الكلام عامدا في الصلاة إذا كان المصلي يعلم أنه في صلاة ولم يكن ذلك في إصلاح صلاته - يفسد الصلاة ، إلا ما روي عن الأوزاعي أنه من تكلم لإحياء نفس أو مثل ذلك من الأمور الجسام لم تفسد بذلك صلاته ، وهو قول ضعيف في النظر لقول الله عز وجل وقوموا لله قانتين .

[ ص: 351 ] قال زيد بن أرقم : كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت وقوموا لله قانتين فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام ، وقال ابن مسعود : سمعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن الله قد أحدث من أمره ألا تكلموا في الصلاة .

وقال معاوية بن الحكم : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس وليس الحادث الجسيم الذي يجب له قطع الصلاة ، ومن أجله يمنع من الاستيناف ، فمن قطع صلاته لما يراه من الفضل في إحياء نفس أو ما كان يشمل ذلك استأنف صلاته ولم يبن ، هذا هو الصحيح إن شاء الله .

وأجمعوا أن السلام فيها عامدا قبل تمامها يفسدها .

قال أبو عمر : وأما العراقيون أبو حنيفة وأصحابه والثوري فذهبوا إلى أن الكلام في الصلاة يفسدها على أي حال كان ، سهوا أو عمدا لصلاح الصلاة كان أو لغير ذلك .

واختلف أصحاب أبي حنيفة في السلام فيها ساهيا قبل تمامها ، فبعضهم أفسد صلاة المسلم ساهيا ، وجعله كالمتكلم ساهيا ، وبعضهم لم يفسدها بالسلام فيها ساهيا ، وكلهم يفسدها بالكلام ساهيا وعامدا ، وهو قول إبراهيم النخعي ، وعطاء ، والحسن ، وحماد بن أبي سليمان ، وقتادة .

[ ص: 352 ] وزعم أصحاب أبي حنيفة أن حديث أبي هريرة هذا في قصة ذي اليدين منسوخ بحديث ابن مسعود وحديث زيد بن أرقم اللذين ذكرنا ، قالوا : وفي حديث ابن مسعود بيان أن الكلام كان مباحا في الصلاة ثم نسخ ، قالوا : فحديث ابن مسعود ناسخ لحديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين ، قالوا : وإن كان أبو هريرة متأخر الإسلام ، فإنه أرسل حديث ذي اليدين ، كما أرسل حديث " من أدركه الفجر جنبا فلا صوم له " ثم أضافه إلى من حدثه به إذ سئل عنه ، قالوا : وكان كثير الإرسال ، وجائز للصاحب إذا أخبره الصحابة بشيء أن يحدث به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لم يقل سمعت ، ألا ترى ابن عباس حدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما لا يكاد يحصى كثرة من الحديث ، ومعلوم أنه لم يسمع منه إلا أحاديث يسيرة ، وقالوا : ألا ترى إلى أنس بن مالك يقول : ما كل ما نحدثكم سمعناه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن منه ما سمعنا ومنه ما أخبرنا أصحابنا ، وكل حديث مقبول عند جماعة العلماء على كل حال ، قالوا : فغير نكير أن يحدث أبو هريرة بقصة ذي اليدين وإن لم يشهدها ، قالوا : ومما يدل على أن حديث أبي هريرة منسوخ أن ذا اليدين قتل يوم بدر لا خلاف بين أهل السير في ذلك ، قالوا : فيوم ذي اليدين كان قبل يوم بدر ، واحتجوا بما رواه ابن وهب ، عن العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر أن إسلام أبي هريرة كان بعد موت ذي اليدين ، قالوا : وهذا الزهري مع علمه بالأثر والسير ، وهو الذي لا نظير له في ذلك يقول : إن قصة ذي اليدين كانت قبل بدر ، حكاه معمر وغيره عن الزهري قال الزهري : ثم استحكمت الأمور بعد ذلك ، وهو قول ابن عمر . [ ص: 353 ] وجماعة أهل السير ، قالوا : وحديث ابن مسعود كان بمكة في حين منصرفه من أرض الحبشة ، وذلك قبل الهجرة ، وحديث أبي هريرة كان بالمدينة في قصة ذي اليدين ، وهذا ما لا يدفعه حامل أثر ، ولا ناقل خبر ، وابن مسعود شهد بعد قدومه من أرض الحبشة بدرا ، وأبو هريرة إنما كان إسلامه عام خيبر .

قال أبو عمر : هو كما قالوا ، إلا أن من ذكر في حديث ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه - قال له في حين رجوعه من أرض الحبشة إن الله أحدث أن لا تكلموا في الصلاة - فقد وهم ولم يحفظ ، ولم يقل ذلك غير عاصم بن أبي النجود ، وهو عندهم سيئ الحفظ كثير الخطأ في الأحاديث ، والصحيح في حديث ابن مسعود أنه لم يكن إلا بالمدينة ، وبالمدينة نهي عن الكلام في الصلاة بدليل حديث زيد بن أرقم الأنصاري أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة حتى نزلت وقوموا لله قانتين فأمروا بالسكوت في الصلاة ونهوا عن الكلام فيها ، وقد روي حديث ابن مسعود بما يوافق هذا ولا يدفعه ، وهو الصحيح لأن السورة مدنية ، وتحريم الكلام في الصلاة كان بالمدينة .

وأما رواية عاصم في حديث ابن مسعود ، فأخبرنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل قال : حدثنا الحميدي قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا عاصم بن أبي النجود [ ص: 354 ] عن أبي وائل ، عن عبد الله بن مسعود قال : كنا نسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة قبل أن نأتي أرض الحبشة فيرد علينا ، فلما رجعنا سلمت عليه وهو يصلي فلم يرد علي ، فأخذني ما قرب وما بعد ، فجلست حتى قضى النبي عليه السلام الصلاة ، فقلت : يا رسول الله سلمت عليك وأنت تصلي فلم ترد علي ، فقال : إن الله يحدث من أمره ما يشاء ، وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة .

قال سفيان : هذا أجود ما وجدنا عند عاصم في هذا الوجه ، وحدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد قال : حدثنا أحمد بن مطرف قال : حدثنا سعيد بن عثمان الأعناقي قال : حدثنا إسحاق بن إسماعيل الأيلي قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عاصم ، عن أبي وائل ، عن عبد الله بن مسعود قال : كنا نسلم على النبي - صلى الله عليه - في الصلاة قبل أن نأتي أرض الحبشة ، فذكر مثله سواء .

وحدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال : حدثنا عمرو بن مرزوق قال : أخبرنا شعبة ، عن عاصم ، عن أبي وائل ، عن عبد الله قال : أتيت النبي صلى الله عليه وهو يصلي ، فسلمت عليه ، فلم يرد علي ، فلما قضى صلاته ، قال : إن الله يحدث لنبيه ما شاء ، وإن مما أحدث له ألا تكلموا في الصلاة فلم يقل شعبة في هذا الحديث عن عاصم أن ذلك كان في حين انصراف ابن مسعود من أرض الحبشة ، وقد روي حديث ابن مسعود من غير طريق عاصم ، وليس فيه المعنى الذي ذكره ابن عيينة وغيره عن عاصم ، بل فيه ما يدل على أن معناه ومعنى حديث زيد بن أرقم سواء .

[ ص: 355 ] أخبرنا عبد الله بن محمد الجهني قال : حدثنا حمزة بن محمد الكناني قال : حدثنا أحمد بن شعيب النسائي قال : أخبرنا محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي قال : حدثنا ابن أبي عيينة والقاسم - يعني ابن يزيد الجرمي - عن سفيان ، عن الزبير بن عدي ، عن كلثوم ، عن عبد الله بن مسعود ، وهذا حديث القاسم قال : كنت آتي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فأسلم عليه فيرد علي ، فأتيته فسلمت عليه وهو يصلي فلم يرد علي شيئا ، فلما سلم أشار إلى القوم ، فقال : إن الله أحدث في الصلاة ألا تكلموا إلا بذكر الله وما ينبغي لكم ، وأن تقوموا لله قانتين .

وأما حديث زيد بن أرقم فليس فيه بيان أنه قبل حديث أبي هريرة ولا بعده ، والنظر يشهد أنه قبله إن شاء الله على ما نبينه في هذا الباب .

والحديث حدثناه محمد بن إبراهيم بن سعيد قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : حدثنا ابن مسعود قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، وأخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المومن قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن [ ص: 356 ] عيسى قال : حدثنا هشيم قالا جميعا : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد قال أحمد بن شعيب في حديثه ، قال : حدثني الحارث بن شبيل ، وقال أبو داود في حديثه : عن الحارث بن شبيل ، عن أبي عمرو الشيباني ، عن زيد بن أرقم قال : كان أحدنا يكلم الرجل إلى جنبه في الصلاة فنزلت وقوموا لله قانتين فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام ، اللفظ لحديث أبي داود ، ففي هذا الحديث وحديث ابن مسعود دليل على أن المنع من الكلام كان بعد إباحته في الصلاة ، وأن الكلام فيها منسوخ بالنهي عنه والمنع منه .

وأما قولهم إن أبا هريرة لم يشهد ذلك لأنه كان قبل بدر ، وإسلام أبي هريرة كان عام خيبر ، فليس كما ذكروا ، بلى إن أبا هريرة أسلم عام خيبر ، وقدم المدينة في ذلك العام ، وصحب النبي - صلى الله عليه - نحو أربعة أعوام ، ولكنه قد شهد هذه القصة وحضرها ; لأنها لم تكن قبل بدر ، وحضور أبي هريرة يوم ذي اليدين محفوظ من رواية الحفاظ الثقات ، وليس تقصير من قصر عن ذلك بحجة على من علم ذلك وحفظه وذكره ، فهذا مالك بن أنس قد ذكر في موطئه ، عن داود بن الحصين ، عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد قال : سمعت أبا هريرة يقول : صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العصر فسلم في ركعتين ، وذكر الحديث .

هكذا حدث به ابن القاسم ، وابن وهب ، وابن بكير ، والقعنبي ، والشافعي ، وقتيبة بن سعيد ، عن مالك ، عن داود بالإسناد المذكور ، ولم يقل يحيى صلى لنا في حديث مالك عن داود هذا ، وإنما قال : صلى رسول [ ص: 357 ] الله صلى الله عليه ، وسقط أيضا عن بعضهم قوله " لنا " ، وشهود أبي هريرة لذلك وقوله : صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه ، و : صلى بنا رسول الله ، و : بينما نحن مع رسول الله ، صلى الله عليه . كل ذلك في قصة ذي اليدين محفوظ عند أهل الإتقان .



أخبرنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا جعفر بن محمد الصائغ قال : حدثنا محمد بن سابق قال : حدثنا شيبان ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : بينما أنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الظهر فسلم رسول الله من الركعتين ، فقام رجل من بني سليم ، فقال : يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ فقال رسول الله : لم تقصر ولم أنسه ، قال : يا رسول الله إنما صليت ركعتين ، فقال رسول الله : أكما يقول ذو اليدين ؟ قالوا : نعم ، فصلى بهم ركعتين أخريين ، قال يحيى : وحدثني ضمضم بن جوس أنه سمع أبا هريرة يقول : ثم سجد رسول الله سجدتين .

وذكره أحمد بن شعيب ، عن إبراهيم بن يعقوب ، عن الحسن بن موسى ، عن شيبان بإسناده مثله سواء ، وحدثني محمد بن عبد الله قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا الفضل بن الحباب القاضي بالبصرة ، قال : حدثنا أبو الوليد الطيالسي قال : حدثني عكرمة بن عمار قال : حدثني ضمضم بن جوس الهفاني قال : قال أبو هريرة : صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه - إحدى صلاتي العشي ، وذكر الحديث .

[ ص: 358 ] حدثني محمد بن إبراهيم قال : حدثنا أحمد بن مطرف قال : حدثنا سعيد بن عثمان قال : حدثنا إسحاق بن إسماعيل قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن أيوب بن موسى قال : قال من سمع أبا هريرة يقول : صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه - إحدى صلاتي العشي ، وذكر الحديث .

وحدثنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا حميد بن مسعدة قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا ابن عون ، عن محمد بن سيرين قال : قال أبو هريرة : صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه - إحدى صلاتي العشي - قال : قال أبو هريرة : ولكني نسيت - قال : فصلى بنا ركعتين ثم سلم ، فانطلق إلى خشبة معروضة في المسجد ، فقال بيده عليها كأنه غضبان ، وخرجت السرعان من أبواب المسجد فقالوا : أقصرت الصلاة ، وفي القوم أبو بكر وعمر ، فهابا أن يكلماه ، وفي القوم رجل في يده طول ، وكان يسمى ذا اليدين ، فقال : يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة ؟ قال : لم أنس ولم تقصر الصلاة ، قال : أكما يقول ذو اليدين ؟ قالوا : نعم ، فجاء فصلى الذي كان ترك ثم سلم ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه فكبر .

وأخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن عبيد قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب السختياني ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة قال : صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه - إحدى صلاتي العشي - الظهر أو العصر - قال : فصلى بنا ركعتين ثم سلم ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع [ ص: 359 ] يديه عليها إحداهما على الأخرى ، وخرج سرعان الناس ، وقالوا : أقصرت الصلاة أقصرت الصلاة ، وفي الناس أبو بكر وعمر ، فهابا أن يكلماه ، فقام رجل ، وكان رسول الله - صلى الله عليه - يسميه ذا اليدين ، فقال : يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة ؟ فقال : لم أنس ولم تقصر الصلاة ، قال : بل نسيت يا رسول الله ، فأقبل رسول الله - صلى الله عليه - على القوم ، فقال : أصدق ذو اليدين ؟ فأومأوا أن نعم ، فرجع رسول الله إلى مقامه ، فصلى الركعتين الباقيتين ثم سلم ثم كبر ، فسجد مثل سجوده أو أطول ، ثم رفع وكبر وسجد مثل سجوده أو أطول ، ثم رفع وكبر .

قال : فقيل لمحمد : سلم في السهو ؟ قال : لم أحفظ من أبي هريرة ، ولكن نبئت أن عمران بن حصين قال : ثم سلم ، قال أبو داود : كل من روى هذا الحديث لم يقل : " فأومأوا " إلا حماد بن زيد .

قال أبو عمر : وهكذا رواه هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة قال : صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه - إحدى صلاتي العشي ، ثم ذكر مثل حديث حماد بن زيد ، عن أيوب سواء ، ولم يقل : " فأومأوا " أخبرنيه عبد الله بن محمد قال : أخبرنا عبد الحميد بن أحمد قال : حدثنا الخضر بن داود قال : حدثنا أبو بكر الأثرم قال : حدثنا عبد الله بن بكر السهمي قال : أخبرنا هشام بن حسان ، فذكره .

قال أبو عمر : فحصل محمد بن سيرين ، وأبو سفيان مولى ابن أبي أحمد ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وضمضم بن جوس كلهم يروي عن أبي هريرة في هذا الحديث : صلى بنا رسول الله ، وكذلك رواه العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، وابن أبي ذئب ، عن المقبري ، عن أبي [ ص: 360 ] هريرة ، وقد روي هذا الحديث أيضا ، عن محمد بن سيرين ، عن رجل من الصحابة يقال له أبو العريان بمثل حديث أبي هريرة ، ومعناه ، ذكره أبو جعفر العقيلي قال : حدثنا محمد بن عبيد بن أسباط قال : أخبرنا أبو نعيم قال : أخبرنا أبو خلدة قال : سألت محمد بن سيرين ، فقلت : أصلي وما أدري أركعتين صليت أم أربعا ، فقال : حدثني أبو العريان أن رسول الله صلى الله عليه صلى يوما ودخل البيت ، وكان في البيت رجل طويل اليدين ، وكان رسول الله - صلى الله عليه - يسميه ذا اليدين ، فقال ذو اليدين : يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ قال : لم تقصر ولم أنس ، قال : بل نسيت الصلاة ، قال : فتقدم فصلى بهم ركعتين ثم سلم ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم كبر ورفع رأسه ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ثم كبر ورفع رأسه .

ولم يحفظ لي أحد : سلم بعد ، أم لا ، وقد قيل إن أبا العريان المذكور في هذا الحديث هو أبو هريرة .

وقد روى قصة ذي اليدين عبد الله بن عمر ، ومعاوية بن حديج ، وعمران بن حصين ، وابن مسعدة رجل من الصحابة ، وكلهم لم يحفظ عن النبي عليه السلام ولا صحبه إلا بالمدينة متأخرا .

[ ص: 361 ] فأما حديث ابن عمر ، فذكره أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا أبو أسامة قال : حدثنا عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه - صلى بالناس ركعتين فسها فسلم ، فقال له رجل يقال له ذو اليدين ، وذكر الحديث .

وأما حديث معاوية بن حديج ، فرواه الليث بن سعد ، عن يزيد بن أبي حبيب أن سويد بن قيس أخبره ، عن معاوية بن حديج أن النبي عليه السلام صلى يوما فسلم وانصرف وقد بقي عليه من الصلاة ركعة ، فأدركه رجل ، فقال : نسيت من الصلاة ركعة ، فرجع فدخل المسجد وأمر بلالا فأقام الصلاة ، فصلى بالناس ركعة ، فأخبرت بذلك الناس ، فقالوا : أتعرف الرجل ؟ قلت : لا إلا أن أراه ، فمر بي فقلت : هاهو هذا ، فقالوا : طلحة بن عبيد الله .

وأما حديث عمران بن حصين ، فرواه شعبة ، وعبد الوهاب الثقفي ، وابن علية ، ويزيد بن زريع ، وحماد بن زيد ، كلهم عن خالد الحذاء ، عن أبي قلابة ، عن أبي المهلب ، عن عمران بن حصين .

أخبرنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا ابن علية ، عن خالد الحذاء قال : حدثنا أبو قلابة ، عن أبي المهلب ، عن عمران بن حصين ، وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان قراءة مني عليه أن قاسم بن أصبغ حدثهم ، قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا يزيد بن [ ص: 362 ] زريع ، قال : حدثنا خالد الحذاء قال : حدثنا أبو قلابة ، عن أبي المهلب ، عن عمران بن حصين ، واللفظ لحديث مسدد قال : سلم رسول الله - صلى الله عليه - في ثلاث ركعات من العصر ثم دخل ، فقام إليه رجل يقال له الخرباق ، وكان طويل اليدين ، فقال : الصلاة يا رسول الله ، وفي حديث ابن علية ، فذكر له الذي صنع ، فخرج مغضبا يجر إزاره ، فقال : أصدق هذا ؟ قالوا : نعم ، فصلى تلك الركعة ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم .

وأما حديث ابن مسعدة ، فرواه عبد الرزاق قال : أخبرنا ابن جريج ، عن عثمان بن أبي سليمان ، عن ابن مسعدة صاحب الجيوش ، أن النبي - صلى الله عليه - صلى الظهر أو العصر ، فسلم في ركعتين ، فقال له ذو اليدين : أخففت الصلاة يا رسول الله أم نسيت ؟ فقال النبي عليه السلام : ما يقول ذو اليدين ؟ قالوا : صدق يا رسول الله ، فأتم بهم الركعتين ثم سجد سجدتي السهو وهو جالس بعدما سلم ، وابن مسعدة هذا اسمه عبد الله ، معروف في الصحابة ، قد روى عن النبي عليه السلام أنه سمعه يقول : إني قد بدنت ، فمن فاته ركوعي أدركه في بطء قيامي وروي عنه حديث ذي اليدين ، وهو معدود في المكيين ، وحسبك في هذا الحديث بحديث أبي هريرة ، ثم حديث ابن عمر ، وحديث عمران بن حصين ، وغيرهم ، وهو من الأحاديث التي لا مطعن فيها لأحد ، وإنما اختلفوا في تأويل شيء منه .

وأما قولهم إن ذا اليدين قتل يوم بدر فغير صحيح ، وإنما المقتول يوم بدر ذو الشمالين ، ولسنا ندافعهم أن ذا الشمالين مقتول ببدر ; لأن ابن إسحاق وغيره من أهل السير ذكروه فيمن قتل يوم بدر ، وقال حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن سعيد بن المسيب قال : قتل يوم [ ص: 363 ] بدر خمسة رجال من قريش من المهاجرين : عبيدة بن الحارث ، وعامر بن أبي وقاص ، وذو الشمالين ، وابن بيضاء ، ومهجع مولى عمر بن الخطاب .

قال أبو عمر : إنما قال سعيد بن المسيب إنهم من قريش ; لأن الحليف والمولى يعد من القوم ، فمهجع مولى عمر ، وذو الشمالين حليف بني زهرة ، قال ابن إسحاق : ذو الشمالين هو عمير بن عمرو بن غبشان بن سليم بن مالك بن أفضى بن حارثة بن عمرو بن عامر ، من خزاعة حليف لبني زهرة .

قال أبو عمر : فذو اليدين غير ذي الشمالين المقتول ببدر بدليل ما في حديث أبي هريرة ومن ذكرنا معه من حضورهم تلك الصلاة ، وأن المتكلم بذلك الكلام إلى النبي - صلى الله عليه - رجل من بني سليم ، كذلك قال يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، وقد تقدم ذكرنا لذلك .

وقال عمران بن حصين : رجل طويل اليدين يقال له الخرباق ، وممكن أن يكون رجلان أو ثلاثة يقال لكل واحد منهم ذو اليدين ، وذو الشمالين ، ولكن المقتول يوم بدر غير الذي تكلم في حديث أبي هريرة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سها فسلم من اثنتين ، وهذا قول أهل الحذق والفهم من أهل الحديث والفقه .

أخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا عبد الحميد بن أحمد الوراق قال : حدثنا الخضر بن داود قال : حدثنا أبو بكر الأثرم قال : سمعت مسددا يقول : الذي قتل يوم بدر إنما هو ذو الشمالين ابن عبد عمرو حليف [ ص: 364 ] لبني زهرة ، وهذا ذو اليدين رجل من العرب كان يكون بالبادية ، فيجيء فيصلي مع النبي صلى الله عليه .

وقال أبو بكر الأثرم : حدثني سليمان بن حرب قال : حدثني حماد بن زيد قال : ذكر لأيوب البناء بعد الكلام ، فقال : أليس قد تكلم النبي عليه السلام يوم ذي اليدين ؟ .

قال أبو عمر : فإن قال قائل : إن حديث ذي اليدين مضطرب ; لأن ابن عمر ، وأبا هريرة يقولان : سلم من اثنتين ، وعمران بن حصين يقول : من ثلاث ركعات ، ومعاوية بن حديج يقول : إن المتكلم طلحة بن عبيد الله ، قيل له : ليس اختلافهم في موضع السلام من الصلاة عند أحد من أهل العلم بخلاف يقدح في حديثهم ; لأن المعنى المراد من الحديث هو البناء بعد الكلام ، ولا فرق عند أهل العلم بين المسلم من ثلاث أو من اثنتين ; لأن كل واحد منهما لم يكمل صلاته .

وأما ما ذكر في حديث معاوية بن حديج من ذكر طلحة بن عبيد الله ، فممكن أن يكون أيضا طلحة كلمه وغيره ، وليس في أن يكلمه طلحة وغيره ما يدفع أن ذا اليدين كلمه أيضا ، فأدى كل ما سمع على حسب ما سمع ، وكلهم اتفقوا في أن المعنى المراد من الحديث هو البناء بعد الكلام لمن ظن أنه قد أتم .

وأما قول الزهري في هذا الحديث أنه ذو الشمالين ، فلم يتابع عليه ، وحمله الزهري على أنه المقتول يوم بدر ، وقد اضطرب على الزهري [ ص: 365 ] في حديث ذي اليدين اضطرابا أوجب عند أهل العلم بالنقل تركه من روايته خاصة ; لأنه مرة يرويه ، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة قال : بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه - ركع ركعتين ، هكذا حدث به عنه مالك ، وحدث به مالك أيضا عنه ، عن سعيد بن المسيب ، وأبي سلمة بمثل حديثه عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة .

ورواه صالح بن كيسان عنه أن أبا بكر بن سليمان بن أبي حثمة أخبره أنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه - صلى ركعتين ثم سلم ، وذكر الحديث ، وقال فيه : فأتم ما بقي من صلاته ، ولم يسجد السجدتين اللتين تسجدان إذا شك الرجل في صلاته حين لقنه الرجل ، قال صالح : قال ابن شهاب : فأخبرني هذا الخبر سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال : وأخبرني به أبو سلمة بن عبد الرحمن ، وأبو بكر بن عبد الرحمن ، وعبيد الله بن عبد الله ، ورواه ابن إسحاق ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، وأبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة قال : كل قد حدثني بذلك ، قالوا : صلى رسول الله بالناس الظهر فسلم من ركعتين ، وذكر الحديث .

وقال فيه الزهري : ولم يخبرني رجل منهم أن رسول الله - صلى الله عليه - سجد سجدتي السهو ، فكان ابن شهاب يقول : إذا عرف الرجل ما يبني من صلاته فأتمها ، فليس عليه سجدتا السهو ، لهذا الحديث ، [ ص: 366 ] وقال ابن جريح : حدثني ابن شهاب ، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن ، عمن يقنعان بحديثه ، أن النبي عليه السلام صلى ركعتين في صلاة الظهر أو العصر ، فقال له ذو الشمالين ابن عبد عمرو : يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ وذكر الحديث ، ورواه معمر ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، وأبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة ، عن أبي هريرة ، وهذا اضطراب عظيم من ابن شهاب في حديث ذي اليدين ، وقال مسلم بن الحجاج في كتاب التمييز له : قول ابن شهاب إن رسول الله لم يسجد يوم ذي اليدين سجدتي السهو خطأ وغلط .

وقد ثبت عن النبي عليه السلام أنه سجد سجدتي السهو ذلك اليوم من أحاديث الثقات ابن سيرين ، وغيره .

قال أبو عمر : لا أعلم أحدا من أهل العلم والحديث المنصفين فيه عول على حديث ابن شهاب في قصة ذي اليدين لاضطرابه فيه ، وأنه لم يتم له إسنادا ولا متنا ، وإن كان إماما عظيما في هذا الشأن ، فالغلط لا يسلم منه أحد ، والكمال ليس لمخلوق ، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي - صلى الله عليه - فليس قول ابن شهاب : إنه المقتول يوم بدر ، حجة ; لأنه قد تبين غلطه في ذلك ، وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال : أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة أنه سمع عبيد بن عمير ، فذكر خبر ذي اليدين قال : فأدركه ذو اليدين أخو بني سليم .

قال أبو عمر : ذو الشمالين المقتول يوم بدر خزاعي ، وذو اليدين الذي شهد سهو النبي عليه السلام سلمي ، ومما يدل على أن ذا اليدين ليس هو [ ص: 367 ] ذا الشمالين المقتول ببدر ، ما أخبرناه عبد الله بن محمد قال : أخبرنا عبد الحميد بن أحمد قال : حدثنا الخضر بن داود قال : حدثنا أحمد بن محمد بن هانئ الأثرم ، وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قالا : حدثنا علي بن بحر قال : حدثنا معدي بن سليمان السعدي البصري قال : حدثني شعيب بن مطير ، ومطير حاضر يصدقه بمقالته ، قال : يا أبتاه أخبرتني أن ذا اليدين لقيك بذي خشب ، فأخبرك أن رسول الله - صلى الله عليه - صلى بهم إحدى صلاتي العشي ، وهي العصر ، فصلى ركعتين ثم سلم ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبعه أبو بكر ، وعمر ، وخرج سرعان الناس ، فلحقه ذو اليدين ، وأبو بكر وعمر مبتديه ، فقال : يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ فقال : ما قصرت الصلاة ، وما نسيت ، ثم أقبل رسول الله ، وثاب الناس ، فصلى ركعتين ثم سلم ثم سجد سجدتي السهو .

وأخبرنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي قال : حدثني أبي ، قال : أخبرنا أحمد بن خالد قال : حدثنا أبو الحسن أحمد بن عبد الله قال : حدثنا أحمد بن عبد الله قال : حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا معدي بن سليمان قال : حدثنا شعيب بن مطير ، ومطير حاضر يصدقه بمقالته ، فذكر مثل ما تقدم سواء إلى آخره .

[ ص: 368 ] وأخبرنا أحمد بن عبد الله أن أباه أخبره ، قال : حدثنا أحمد بن خالد قال : حدثنا أبو الحسن أحمد بن عبد الله قال : حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا أبو سليمان معدي بن سليمان صاحب الطعام ، قال : كنا بوادي القرى ، فقيل إن هاهنا شيخا قديما قد بلغ بضعا ومائة سنة ، فأتيناه فإذا رجل يقال له مطير ، وإذا ابن له يقال له شعيب ابن ثمانين سنة ، فقلنا لابنه : قل له يحدث بحديث ذي اليدين ، فثقل على الشيخ ، فقال ابنه : أليس حدثتنا أن ذا اليدين تلقاك بذي خشب ، فقال : صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشي ، وهي العصر ، ثم ذكر معنى حديث علي بن بحر .

أخبرنا أحمد بن عبد الله قال : أخبرنا أبي ، قال : أخبرنا أحمد بن خالد قال : حدثنا أحمد بن عبد الله قال : سمعت العباس بن يزيد يقول : حدثني معدي بن سليمان الحناط ، وكانوا يرون أنه من الأبدال ، فهذا يبين لك أن ذا اليدين عمر عمرا طويلا وأنه غير المقتول ببدر .

وفيما قدمنا من الآثار الصحاح كفاية لمن عصم من العصبية .

وقد قيل إن ذا اليدين عمر إلى خلافة معاوية ، وأنه توفي بذي خشب ، فالله أعلم ، ولو صح للمخالفين ما ادعوه من نسخ حديث أبي هريرة بتحريم الكلام في الصلاة ، لم يكن لهم في ذلك حجة ; لأن النهي عن الكلام في الصلاة إنما توجه إلى العامد القاصد لا إلى الناسي ; لأن النسيان متجاوز عنه ، [ ص: 369 ] والناسي ، والساهي ليسا ممن دخل تحت النهي لاستحالة ذلك في النظر ، فإن قيل : فإنكم تجيزون الكلام في الصلاة عامدا إذا كان في شأن إصلاحها ، قيل لقائل ذلك : أجزناه من باب آخر قياسا على ما نهي عنه من التسبيح في غير موضعه من الصلاة ، وإباحته للتنبيه على ما أغفله المصلي من صلاته لمستدركه ، واستدلالا بقصة ذي اليدين أيضا في ذلك ، والله أعلم .

وهذا المعنى قد نزع به أبو الفرج وغيره من أصحابنا ، وفيما قدمنا كفاية إن شاء الله .

وقد تدخل على أبي حنيفة وأصحابه مناقضة في هذا الباب ; لقولهم إن المشي في الصلاة لإصلاحها عامدا جائز كالراعف ومن يجري مجراه عندهم للضرورة إلى خروجه وغسل الدم عنه ووضوئه عندهم ، وغير جائز فعل مثل ذلك في غير إصلاح الصلاة وشأنها ، فكذلك الكلام يجوز منه لإصلاح الصلاة وشأنها ما يجوز لغير ذلك ؛ إذ الفعلان منهي عنهما ، والله أعلم .

وممن قال من السلف بمعنى حديث ذي اليدين ورأى البناء جائزا لمن تكلم في صلاته ساهيا ، عبد الله بن الزبير ، وابن عباس ، وعروة ، وعطاء ، والحسن ، وقتادة ، والشعبي ، وروي أيضا عن الزبير بن العوام ، وأبي الدرداء مثل ذلك ، وقال بقول أبي حنيفة في هذا الباب إبراهيم النخعي ، وحماد بن أبي سليمان ، وروي عن قتادة أيضا مثله ، والحجة عندنا في سنة رسول الله - صلى الله عليه - فهي القاضية فيما اختلف فيه ، وبالله التوفيق .

وفي هذا الحديث أيضا إثبات حجة مالك وأصحابه في قولهم إذا نسي الحاكم حكمه ، فشهد عليه شاهدان نفذه وأمضاه ، وإن لم يذكره ; لأن [ ص: 370 ] النبي عليه السلام رجع إلى قول ذي اليدين ومن شهد معه إلى شيء لم يذكره .

وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا ينفذه حتى يذكر حكمه به على وجهه .

وفيه إثبات سجود السهو على من سها في صلاته .

وفيه أن السجود يكون بعد السلام إذا زاد الإنسان في صلاته شيئا سهوا ، وبه استدل أصحابنا على أن السجود بعد السلام فيما كان زيادة من السهو في الصلاة .

وفيه أن سجدتي السهو يسلم منهما ، ويكبر في كل خفص ورفع فيهما ، وهذا موجود في حديث أبي هريرة وعمران بن حصين ، في قصة ذي اليدين من وجوه ثابتة ، وسنذكر اختلاف الفقهاء في سجود السهو وموضعه من الصلاة في باب زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار ويأتي منه ذكر في باب ابن شهاب ، عن الأعرج ، عن ابن بحينة إن شاء الله .

واختلف المتأخرون من الفقهاء في رجوع المسلم ساهيا في صلاته إلى تمام ما بقي عليه منها ، هل يحتاج في ذلك إلى إحرام أم لا ؟ فقال بعضهم : لا بد أن يحدث إحراما يجدده لرجوعه إلى تمام صلاته ، وإن لم يفعل لم يجزه ، وقال بعضهم : ليس ذلك عليه ، وإنما عليه أن ينوي الرجوع إلى تمام صلاته ، فإن كبر لرجوعه فحسن ; لأن التكبير شعار حركات المصلي ، وإن لم يكبر فلا شيء عليه ; لأن أصل التكبير في غير الإحرام إنما كان [ ص: 371 ] لإمام الجماعة ثم صار سنة بمواظبة رسول الله - صلى الله عليه - حتى لقي الله ، وسنذكر هذا المعنى ممهدا ، في باب ابن شهاب ، عن أبي سلمة ، وعن علي بن حسين إن شاء الله .

وإنما قلنا أنه إذا نوى الرجوع إلى صلاته ليتمها فلا شيء عليه وإن لم يكبر ; لأن سلامه ساهيا لا يخرجه عن صلاته ولا يفسدها عليه عند الجميع ، وإذا كان في صلاة يبني عليها فلا معنى للإحرام هاهنا ، لأنه غير مستأنف لصلاته ، بل هو متم لها بان فيها ، وإنما يؤمر بتكبيرة الإحرام المبتدئ وحده ، وبالله التوفيق .




الخدمات العلمية