الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1390 [ ص: 316 ] حديث ثامن لنافع عن ابن عمر .

مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يبع بعضكم على بيع بعض .

التالي السابق


هكذا روى يحيى هذا الحديث دون زيادة شيء ، وتابعه ابن بكير ، وابن القاسم ، وجماعة ، ورواه قوم عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يبع بعضكم على بيع بعض ، ولا تلقوا السلع حتى يهبط بها الأسواق ، وهذه الزيادة صحيحة لابن وهب ، والقعنبي ، وعبد الله بن يوسف ، وسليمان بن برد عن مالك ، وليست لغيرهم ، وهي صحيحة ، وأما سائر أصحاب مالك فإنما هذا المعنى ، وهذه الزيادة عندهم في حديث أبي الزناد ، وهي صحيحة محفوظة من حديث مالك وغيره عن نافع عن ابن عمر في النهي عن تلقي السلع ، حتى يهبط بها الأسواق .

[ ص: 317 ] قال أبو عمر : ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث وغيره لا يبع بعضكم على بيع بعض ، ولا يبع الرجل على بيع أخيه ، ولا يسم على سومه عند مالك وأصحابه معنى واحد كله ، وهو أن يستحسن المشتري السلعة ، ويهواها ، ويركن إلى البائع ويميل إليه ، ويتذاكران الثمن ولم يبق إلا العقد والرضى الذي يتم به البيع ، فإذا كان البائع والمشتري على مثل هذه الحال لم يجز لأحد أن يعترضه فيعرض على أحدهما ما به يفسد به ما هما عليه من التبايع ، فإن فعل أحد ذلك فقد أساء وبئسما فعل ، فإن كان عالما بالنهي عن ذلك فهو عاص لله .

ولا أقول : إن من فعل هذا حرم بيعه الثاني ، ولا أعلم أحدا من أهل العلم قاله إلا رواية جاءت عن مالك بذلك قال : لا يبع الرجل على بيع أخيه ، ولا يخطب على خطبة أخيه ، ومن فعل ذلك فسخ البيع ما لم يفت ، وفسخ النكاح قبل الدخول ، وقد أنكر بعض أصحاب مالك هذه الرواية عن مالك في البيع دون الخطبة ، وقالوا : هو مكروه لا ينبغي ، وقال الثوري في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يبع بعضكم على بيع بعض ( أن يقول : عندي ( ما هو ) خير منه ) وأما الشافعي فقوله - صلى الله عليه وسلم - لا يبع بعضكم على بيع بعض [ ص: 318 ] معناه عنده أن يبتاع الرجل السلعة فيقبضها ، ولم يفترقا ، وهو مغتبط بها غير نادم عليها فيأتيه قبل الافتراق من يعرض عليه مثل سلعته أو خيرا منها بأقل من ذلك الثمن فيفسخ بيع صاحبه ; لأن له الخيار قبل التفرق فيكون هذا فسادا .

قال أبو عمر : وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - لا يسوم الرجل على سوم أخيه فيشبه أن يكون مذهب الشافعي في تأويل هذا اللفظ كمذهب مالك وأصحابه في قوله - صلى الله عليه وسلم - لا يبع أحدكم على بيع أخيه ، ولا يسوم على سومه والله أعلم .

ولا خلاف عن الشافعي وأبي حنيفة في أن هذا العقد صحيح ، وإن كره له ما فعل ، وعليه جمهور العلماء ، ولا خلاف بينهم في كراهية بيع الرجل على بيع أخيه المسلم ، وسومه على سوم أخيه المسلم ، ولم أعلم أحدا منهم فسخ بيع من فعل ذلك إلا ما ذكرت لك عن بعض أصحاب مالك بن أنس ، ورواه أيضا عن مالك ، وأما غيره فلا يفسخ البيع عنده ; لأنه أمر لم يتم أولا ، وقد كان لصاحبه أن لا يتمه إن شاء ، وكذلك لا أعلم خلافا في أن الذمي لا يجوز لأحد أن يبيع على بيعه ، ولا يسوم على سومه ، وأنه ، والمسلم في ذلك سواء إلا الأوزاعي فإنه قال : [ ص: 319 ] لا بأس بدخول المسلم على الذمي في سومه ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما خاطب المسلمين في أن لا يبيع بعضهم على بيع بعض ، وخاطب المسلم أن لا يبيع على بيع أخيه المسلم ، فليس الذمي كذلك ، وقال سائر العلماء لا يجوز ذلك ، والحجة لهم أنه كما دخل الذمي في النهي عن النجش ، وفي ربح ما لم يضمن ، ونحوه كذلك يدخل ( في ) هذا ، وقد يقال : هذا طريق المسلمين ، ولا يمنع ذلك أن يدخل فيه ويسلكه أهل الذمة ، وقد أجمعوا على كراهية سوم الذمي على الذمي فدل على أنهم مرادون ، والله أعلم .

وأما تلقي السلع فإن مالكا قال : أكره أن يشتري أحد من الجلب في نواحي المصر حتى يهبط بها إلى الأسواق فقيل له : فإن كان على ستة أميال فقال : لا بأس به . ذكره ابن القاسم عن مالك ، وقال ابن وهب : سمعنا مالكا ، وسئل عن الرجل يخرج في الأضحى إلى مثل الإصطبل ، وهو نحو من ميل يشتري ضحايا ، وهو موضع فيه الغنم ، والناس يخرجون إليهم يشترون منهم هناك ، فقال مالك : لا يعجبني ذلك ، وقد نهي عن تلقي السلع فلا أرى أن يشترى شيء منها حتى يهبط بها ( إلى ) الأسواق . قال مالك : والضحايا أفضل ما احتيط فيه ; لأنها نسك يتقرب به إلى الله تعالى فلا أرى ذلك . قال : وسمعته ، [ ص: 320 ] وسئل عن الذي يتلقى السلعة فيشتريها فتوجد معه أترى أن تؤخذ منه فتباع للناس فقال مالك : أرى أن ينهى عن ذلك ( فإن نهي عن ذلك ) ثم وجد قد عاد نكل .

قال أبو عمر : لم نر في هذه الرواية لأهل الأسواق شيئا في السلعة المتلقاة ، وتحصيل المذهب عند أصحابه أنه لا يجوز تلقي السلع والركبان ، ومن تلقاهم فاشترى منهم شركه فيها أهل سوقها إن شاءوا وكان واحدا منهم ، وسواء كانت السلعة طعاما أو بزا أو غيره ، وقد روى ابن وهب عن مالك أنه سئل عن الرجل يأتيه الطعام ، والبز ، والغنم ، وغير ذلك من السلع ، فإذا كان مسيرة اليوم واليومين جاءه خبر ذلك وصفته ، فيخبر بذلك فيقول له رجل : بعني ما جاءك ، أفترى ذلك جائزا ؟ قال : لا أراه جائزا ، وأرى هذا من التلقي فقيل له : والبز من هذا ؟ قال : نعم البز مثل الطعام ، ولا ينبغي أن يعمل في أمر واحد بأمرين مختلفين ، وأكره ذلك ، وأراه من تلقي السلع ، وقال الشافعي : يكره تلقي سلع أهل البادية ، فمن تلقاها فقد أساء ، وصاحب السلعة بالخيار إذ قدم بها السوق في إنفاذ البيع أو رده ، وذلك أنهم يتلقونهم فيخبرونهم بانكسار سلعتهم ، وكساد سوقها ، وهم أهل غرة فيبيعونهم على [ ص: 321 ] ذلك ، وهذا ضرب في الخديعة ، حكى هذا عن الشافعي والزعفراني والربيع والمزني وغيرهم ، وتفسير قول الشافعي عند أصحابه : أن يخرج أهل الأسواق فيخدعون أهل القافلة ، ويشترون منهم شراء رخيصا فلهم الخيار ; لأنهم غروهم .

وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا كان التلقي في أرض لا يضر بأهلها فلا بأس به ، وإذا كان يضر بأهلها فهو مكروه ، وقال الأوزاعي إذا كان الناس من ذلك شباعا فلا بأس به ، وإن كانوا محتاجين فلا يقربونه حتى يهبط بها الأسواق ، ولم يجعل الأوزاعي القاعد على بابه فتمر به لم يقصد إليها فيشتريها متلقيا ، والمتلقي عنده التاجر القاصد إلى ذلك الخارج إليه ، وقال الحسن بن حي : لا يجوز تلقي السلع ولا شراؤها في الطريق ، حتى يهبط بها الأسواق ، وقالت طائفة من المتأخرين من أهل الفقه والحديث : لا بأس بتلقي السلع في أول الأسواق ، ولا يجوز ذلك خارج السوق على ظاهر هذا الحديث .

وقال الليث بن سعد : أكره تلقي السلع في الطريق ، وعلى بابك إذا قصدت إلى ذلك ، وأما من قعد على بابه ، وفي طريقه فمرت به يريد صاحبها السوق فاشتراها فليس هذا بالتلقي ، وإنما التلقي أن تعمد إلى ذلك قال : ومن تعمد ذلك [ ص: 322 ] وتلقى فاشتراها ثم علم به ، فإن كان بائعها لم يذهب ردت إليه حتى تباع في السوق ، وإن كان قد فات ارتجعت من المشتري ، وبيعت في السوق ، ودفع إليه ثمنها ، وقال ابن خوازبنداد : البيع في تلقي السلع صحيح عند الجميع ، وإنما الخلاف في أن المشتري لا يفوز بالسلعة ويشركه أهل السوق ولا خيار للبائع ، أو في أن البائع بالخيار إذا هبط السوق .

قال أبو عمر : أولى ما قيل به في هذا الباب أن صاحب السلعة بالخيار لثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم .

حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا عبد الله بن روح المدائني قال : حدثنا يزيد بن هارون قال : حدثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لا تلقوا الجلب ، فمن تلقى منه شيئا فاشتراه فصاحبه بالخيار إذا أتى السوق .

وذكره أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا أبو أسامة عن هشام بن حسان بإسناده مثله سواء ، وحدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أبو [ ص: 323 ] توبة الربيع بن نافع قال : حدثنا عبيد الله بن عمر الرقي عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن تلقي الجلب ، فإن تلقاه متلق فاشتراه فصاحب السلعة بالخيار إذا وردت السوق .




الخدمات العلمية