الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5142 - وعن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال : يا أيها الناس ! إنكم تقرءون هذه الآية : ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الناس إذا رأوا منكرا فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعقابه " . رواه ابن ماجه ، والترمذي وصححه . وفي رواية أبي داود : " إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب " . وفي أخرى له : " ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ، ثم يقدرون على أن يغيروا ، ثم لا يغيرون إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب " . وفي أخرى له : " ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي أكثر ممن يعمله " .

التالي السابق


5142 - ( وعن أبي بكر الصديق ) - رضي الله عنه - قال : يا أيها الناس ! إنكم تقرءون هذه الآية : ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم أي : الزموا حفظ أنفسكم عن المعاصي ، فإذا حفظتم أنفسكم لم يضركم إذا عجزتم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ضلال من ضل بارتكاب المناهي إذا اهتديتم إلى اجتنابها ( فإني ) : قال الطيبي : الفاء فصيحة تدل على محذوف كأنه قال : إنكم تقرءون هذه الآية وتجرون على عمومها ، وتمتنعون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وليس كذلك ، فإني ( سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن الناس إذا رأوا منكرا فلم يغيروه ) أي : مع القدرة على إنكاره ( يوشك أن يعمهم الله بعقابه ) : قال الطيبي رحمه الله : وإنما قلت ليس كذلك لأن الآية نزلت في أقوام أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، فأبوا القبول كل الإباء ، فذهبت أنفس المؤمنين حسرة عليهم ، فقيل له : عليكم أنفسكم وما كلفتم من إصلاحها ، والمشي بها في طرق الهدى ، لا يضركم الضلال في دينكم إذا كنتم مهتدين ، ويشهد لذلك ما قبل هذه الآية . وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول وهذا تخصيص بحسب الأشخاص ، وأما بحسب الزمان فيدل عليه الحديث الآتي لأبي ثعلبة ، فإن العام قد يخص مرة أخرى اهـ .

لا يخفى أنه غير صحيح المبنى وصريح المعنى من وجهين . أما أولا فقوله : نزلت الآية في قوم أمروا بالمعروف فأبوا كل الإباء ، فلا يعرف له أصل أصلا ، بل ولا يتصور له وجود أبدا ، لأن من المعلوم أنه لا يؤمر بالمعروف إلا المؤمنون ، ولا يمكن أنهم يأبون كل الإباء ، ولم يثبت أن قوما ارتدوا بسبب هذا الأمر حتى يصح قوله : فذهبت أنفس المؤمنين حسرة عليهم إلخ . وأما ثانيا فقوله : ويشهد لذلك ما قبل هذه الآية . لا تعلق له بباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلقا ، بل المطلوب منهم أن يؤمنوا بما أنزل الله إلى الرسول ، ويتركوا تقليد آبائهم في ضلالتهم وإبائهم ، فأصروا على بطلانهم ، وقالوا : حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا فقال تعالى : أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون نعم ورد ما يناسب بين اقتران الآيتين على ما أخرجه ابن أبي حاتم : أنه إنما أنزلت هذه الآية ; لأن الرجل كان يسلم ويكفر أبوه ، ويسلم الرجل ويكفر أخوه ، فلما دخل قلوبهم حلاوة الإيمان دعوا آباءهم وإخوانهم فقالوا : حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ، فأنزل الله : ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم الآية . وهذا معنى قول البيضاوي ، والآية نزلت لما كان المؤمنون يتحسرون على الكفرة [ ص: 3213 ] ويتمنون إيمانهم ، وفي تفسير المعين الصفوي : في هذه الآية رخصة في ترك الحسبة إذا علم عدم قبولها ، أو فيها مفسدة ، أو إضرار له منها اتفقت عليه كلمة السلف على ذلك ، والأحاديث تدل عليه ، أو معنى إذا اهتديتم إذا ائتمرتم بالمعروف وأمرتم به ، وانتهيتم عن المنكر ونهيتم عنه ، كذا رواه ابن جرير ، عن سعيد بن المسيب . وروي عن غير واحد من السلف ، فإن الاهتداء لا يحصل إلا بإتيان ما يجب عليه ، ومنه الأمر بالمعروف ، أو المراد المنع عن إهلاك النفس أسفا على ما عليه الكفرة والفسقة ، كقوله تعالى : فلا تذهب نفسك عليهم حسرات وقال النووي ، وأما قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا ) الآية . فليست مخالفة لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لأن المذهب الصحيح عند المحققين في معنى الآية أنكم إذا فعلتم ما كلفتم به فلا يضركم تقصير غيركم مثل قوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى فإذا كان كذلك فمما كلف به الأمر بالمعروف إذا فعله ، ولم يمتثل المخاطب فلا عتب بعد ذلك عليه لكونه أدى ما عليه . ( رواه ابن ماجه والترمذي وصححه . وفي رواية أبي داود : إذا رأوا ) أي : الناس ( الظالم ) أي : الفاسق ( فلم يأخذوا على يديه ) أي : لم يمنعوه عن ظلمه ( أوشك أن يعمهم الله بعقاب ) أي : بنوع من العذاب ، فإن أشد الحجاب ( وفي أخرى له ) أي : لأبي داود ( ما من قوم يعمل فيهم ) : بصيغة المجهول ، والجار والمجرور هو النائب ، أو التقدير يعمل أحد فما بينهم ( بالمعاصي ، ثم يقدرون على أن يغيروا ، ثم لا يغيرون إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب " . وفي أخرى له : " ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أكثر ممن يعمله ) : هم صفة قوم أي : إذا كان الذين لا يعملون المعاصي أكثر من الذين يعملونها ، فلم يمنعوهم عنها عمهم العذاب .

قال الطيبي رحمه الله : يزاد بعده ، ثم لا يغيرون إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب وهم صفة قوم . قلت : هذه التقادير مستفادة مما قبله ، وإنما أراد اختلاف الرواية في صدر الحديث ، وقال البغوي - رحمه الله - وفي رواية : لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، أو ليستعملن الله عليكم شراركم ، فليسومنكم سوء العذاب ، ثم ليدعن الله خياركم فلا يستجاب لهم . قال أبو عبيد : خاف الصديق أن يتأول الناس الآية غير تأولها ، فيدعوهم إلى ترك الأمر بالمعروف ، فأعلمهم أنها ليست كذلك ، وأن الذي أذن في الإمساك عن تغييره من المنكر هو الشرك الذي ينطق به المعاهدون من أجل أنهم يتدينون به وقد صولحوا عليه ، فأما الفسوق والعصيان والريب من أهل الإسلام فلا يدخل فيه . وقال مجاهد وسعيد بن جبير : الآية في اليهود والنصارى ، يعني عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل من أهل الكتاب ، فخذوا منهم الجزية واتركوهم . وعن ابن مسعود قال في هذه الآية : مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما قبل منكم ، فإن رد عليكم فعليكم أنفسكم . ثم قال : إن القرآن نزل منه أي : قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن ، ومنه أي : وقع تأويلهن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومنه أي : وقع تأويلهن بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بيسير ، ومنه أي : ويقع تأويلهن في آخر الزمان ، ومنه أي : يقع تأويلهن يوم القيامة ، وهو ما ذكر من الحساب والجنة والنار ، فما دامت قلوبكم وأهواؤكم واحدة ، ولم تلبسوا شيعا ، ولم يذق بعضكم بأس بعض فأمروا وانهوا ، فإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعا ، وذاق بعضكم بأس بعض فامرؤ ونفسه ، فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية اهـ . وهو مطابق لما في حديث أبي ثعلبة الآتي .

[ ص: 3214 ]



الخدمات العلمية