الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5236 - وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال : مر رجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لرجل عنده جالس : " ما رأيك في هذا ؟ " فقال رجل من أشراف الناس : هذا والله حري إن خطب أن ينكح ، وإن شفع أن يشفع . قال : فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم مر رجل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما رأيك في هذا ؟ " فقال : يا رسول الله ! هذا رجل من فقراء المسلمين ، هذا حري إن خطب أن لا ينكح ، وإن شفع أن لا يشفع ، وإن قال أن لا يسمع لقوله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا خير من ملء الأرض مثل هذا " . متفق عليه .

التالي السابق


5236 - ( عن سهل بن سعد قال : مر رجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لرجل عنده ) الظاهر أنه كان من الأغنياء فيكون في سؤاله وجوابه له تنبيه نبيه على فضل الفقراء ( جالس ) بالجر صفة وجاء وفي نسخة بالرفع على أنه فاعل الظرف ، أو خبر بعد خبر ، أو خبر لمبتدأ محذوف هو ( " ما رأيك في هذا ؟ " ) أي : ما ظنك في حق هذا الرجل المار تظنه خيرا أم شرا ؟ ذكره ابن الملك ( فقال ) أي الذي عنده ( رجل ) أي هو أو هذا يعني المار ( من أشراف الناس ) أي : كبرائهم وعظمائهم ( هذا ) أي : هذا الرجل بعينه أو هذا الشخص بجنبه أي مثل هذا الرجل ( والله حري ) : على وزن فعيل وهو خبر هذا والقسم معترض بينهما أي جدير وحقيق ( إن خطب ) أي : طلب أن يتزوج امرأة ( أن ينكح ) : بصيغة المجهول أي : بأن يزوجه إياها أهلها ( وإن شفع ) أي : لأحد عند الحكام أو الرؤساء في جلب العطاء أو دفع البلاء ( أن يشفع ) : بصيغة المفعول مشددا أي : تقبل شفاعته .

( قال ) أي الراوي ( فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي عن الجواب ولم يذكر ما تقتضيه المحاورة من الخطاب ( ثم مر رجل ) أي : آخر ( فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ) أي للرجل الذي عنده ( " ما رأيك في هذا ؟ " فقال يا رسول الله ! هذا رجل من فقراء المسلمين ، هذا حري ) ترك القسم لاحتمال التخلف وأما تأكيد الحكم له سابقا فللمبالغة في تحقيق الظن فيه ، والمعنى هذا لائق ( إن خطب أن لا ينكح وإن شفع أن لا يشفع وإن قال ) أي : لكلام ولو كان صدقا أو حقا ( أن لا يسمع ) : بصيغة المجهول ونائب الفاعل قوله ( لقوله ) والمعنى أن أحدا لا يسمع لكلامه ، ولا يلتفت إليه من غاية فقره وقلة نظام أمره .

ففي غرائب ما يحكى أن رجلا غريبا فقيرا رافق شخصا ملك بعيرا وحمله حملا ثقيلا فقال : ما حملك هذا وما حملك على هذا ؟ قال : عدل منه حب الطعام وعدل آخر مليء من البطحاء ليعتدل النظام قال الفقير له : لو [ ص: 3277 ] تركت البطحاء وقسمت الحب في العدلين متناصفين لخف حملك وركبت جملك ، فقال : بارك الله فيك لما صدر من فيك فأطاعه فيما بينه ، وركب على وجه عينه ، فسأله هل أنت بهذا العقل كنت في بلادك سلطانا ؟ فقال : لا فقال : فوزيرا فأميرا فتاجرا فرئيسا فصاحب إبل وصاحب خيل أو غنم أو زراعة ونحو ذلك ؟ فيقول : لا . فقال : أكنت في بلدك فقيرا على هذا الحال ، وحقيرا على هذا المنوال ؟ فقال : نعم . فقال : أنت شؤم ووجهك شؤم ، ومن يسمعك أيضا شؤم ، ونزل عن بعيره وأمر على تغييره من سوء تدبيره ، ومثل هذا مشاهد في العالم كثيرا . مثلا إذا كان العالم فقيرا والشيخ إذا كان حقيرا حيث لا يلتفت أحد إلى كلامه ، ولا يعظم على قدر مقامه بخلاف العالم ، والشيخ إذا كان مشهورا وعلم جاهه بين العوام منشورا ، فإنه يقبل قوله ، ويتبع فعله ولو كان في نفس الأمر ناقصا في علمه أو عمله ، والله ولي دينه وناصر نبيه ، ومن هذا القبيل قول أهل الجاهلية في حقه صلى الله تعالى عليه وسلم لما كان تاركا للمال والجاه على ما حكاه الله تعالى عنهم بقوله : وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم وأرادوا بالقريتين مكة والطائف كأن كل أهل قرية قالوا هذه المقالة ، فلف الشر اعتمادا على معرفة تلك الحالة ، فقال تعالى ردا عليهم : أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا .

( فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : " هذا " ) أي : هذا الرجل : وحده وكذا أمثاله ( " خير من ملء الأرض مثل هذا " ) أي : مثل الرجل الأول ، ووجهه والله تعالى أعلم أن الفقير لصفاء قلبه أقرب إلى قبول أمر ربه ، والوصول إلى مرتبة حبه بخلاف الأغنياء الأغبياء ، فإن لهم الطغيان والاستغناء والتكبر والخيلاء ، وقد قال الله تعالى : سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وهذا أمر مشاهد ومرئي في تلامذة العلماء ومريدي الصلحاء والتابعين أولا للأنبياء ، بل السابقين إلى العبادات من الصلوات وغيرها حتى الحج الذي لم يجب إلا على الأغنياء ، فالفائزون به لا سيما على وجه الإخلاص المبرأ عن الأغراض الفاسدة والمكاسب الكاسدة إنما هم الفقراء ، هذا وقال شارح : مثل منصوب على التمييز في ملء الأرض ، ويؤيده قول الطيبي رحمه الله : وقع ملء الأرض فضلا عليه باعتبار مميزه ، وهو قوله : مثل هذا لأن البيان والمبين شيء واحد انتهى .

ويمكن أن يكون نصبه بنزع الخافض ، ويؤيده أنه وقع في بعض النسخ بالجر أي : من مثل هذا الرجل الأول ، لكن النسخ المصححة من نسخة السيد وغيرها على الأول فهو المعول ، ولا يغرك قول ابن حجر مثل هذا بكسر اللام ، ويجوز فتحها ، ثم المراد من الرجل الأول المعبر عنه بأنه من أشراف الناس واحد من أغنياء المؤمنين ، وإنما عبر عن الخاص بلفظ العام للمبالغة في تحصيل المرام ، فإن الغنى يغير الخواص والعوام ، ولا يتوهم أن المراد بالرجل الأول أحد من الكفار لعدم انتظام الكلام حينئذ في قوله عليه الصلاة والسلام " هذا خير " بمعنى أفضل منه إذ لا مفاضلة بين الكفار وأهل الإسلام ، لأنه لا خير في كفار الأنام ، حتى قال بعض العلماء الأعلام : إن من قال النصراني خير من اليهودي يخشى عليه الكفر إذ أثبت الخير فيمن لا خير فيهم وإنما لم يجز لكفره لأنه قد يقصد بالخير أنه أقرب إلى الحق ، ولذا قال تعالى : لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى كما أنه قد يقصد بالخير مجرد زيادة الحسن ومنه قوله تعالى : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا لكن إيراد الحديث في هذا الباب يدل على أن ما ذكرناه هو الصواب ، وهو لا ينافي ما ذكره الغزالي : إن عذاب الكافر الفقير الدني أخف من الكافر الغني ، فإذا كان الفقير ينفع الكافر في النار فما ظنك بنفعه للأبرار في دار القرار ؟ ( متفق عليه ) .

[ ص: 3278 ]



الخدمات العلمية