الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5298 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير ، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ، ولا تعجز ، وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كان كذا وكذا ، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل ، فإن لو تفتح عمل الشيطان " . رواه مسلم .

التالي السابق


5298 - ( وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " المؤمن القوي " ) أي : القادر على تكثير الطاعة ( " خير وأحب إلى الله " ) : عطف تفسير ( " من المؤمن الضعيف " ) أي : العاجز عنه ، ( " وفي كل خير " ) أي : أصل الخير موجود في كل منهما . قيل : المراد بالمؤمن القوي الصابر على مخالطة الناس وتحمل أذيتهم وتعليمهم الخير وإرشادهم إلى الهدى ، ويؤيده ما رواه أحمد وغيره عن ابن عمر مرفوعا : " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم " . وقيل : أراد بالمؤمن القوي الذي قوي في إيمانه وصلب في إيقانه بحيث لا يرى الأسباب ، ووثق بمسبب الأسباب ، والمؤمن الضعيف بخلافه وهو أدنى مراتب الإيمان . وقال النووي - رحمه الله - : القوة هنا يراد بها عزيمة النفس في أمور الآخرة ، فيكون صاحب هذا أكثر إقداما على الغزو والجهاد ، وأسرع خروجا وذهابا في طلبه وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى في كل ذلك ، وقوله : في كل خير ، معناه في كل من القوي والضعيف خير لاشتراكهما في الإيمان ، مع ما يأتي به الضعيف من العبادات ( " احرص " ) : بكسر الراء ، ومنه قوله تعالى : إن تحرص على هداهم وفي نسخة بفتحها ، ففي القاموس : حرص كضرب وسمع ، والمعنى كن حريصا ( " على ما ينفعك " ) أي : من أمور الدين ( " واستعن بالله " ) أي : على فعلك فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله ( " ولا تعجز " ) بكسر الجيم ، ومنه قوله تعالى جل جلاله : أعجزت وفي نسخة بالفتح ففي القاموس : عجز كضرب وسمع أي : ولا تعجز عن الحرص والاستعانة ، فإن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يعطيك قوة على طاعته إذا استقمت على استعانته ، وقيل : معناه لا تعجز عن العمل بما أمرت ، ولا تتركه مقتصرا على الاستعانة به ، فإن كمال الإيمان أن يجمع بينهما .

قال الطيبي - رحمه الله - : يمكن أن يذهب إلى اللف والنشر ، فيكون قوله " احرص على ما ينفعك ولا تترك الجهد " بيانا للقوي " ولا تعجز " بيانا للضعيف ( " وإن أصابك شيء " ) أي : من أمر دينك أو دنياك ( " فلا تقل لو أني فعلت " ) أي : كذا وكذا ( " كان " ) أي : لصار ( " كذا وكذا " ) : فإن هذا القول غير سديد ، ومع هذا غير مفيد فإنه قال تعالى جل شأنه : قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا وقال - صلى الله تعالى عليه وسلم - : " ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك " وقد قال تعالى : لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ( " ولكن قل " ) أي : بلسان القال أو لسان الحال . ( " قدر الله " ) : بتشديد الدال أي : قل قدر الله ، ويجوز تخفيفها . أي : قل قدر الله كذا وكذا . أي : وقع ذلك بمقتضى قضائه وعلى وفق قدره . ( " وما شاء " ) أي : الله فعله ( " فعل " ) : فإنه فعال لما يريد ولا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ، ( " فإن لو " ) أي : كلمة الشرط أو إن ( " تفتح عمل الشيطان " ) .

[ ص: 3319 ] قال الشاطبي - رحمه الله - : ولم ولو وليت تورث القلب انفلاقا . قال بعض شراح المصابيح ، أي : أن قول لو واعتقاد معناها يفضي بالعبد إلى التكذيب بالقدر ، أو عدم الرضا بصنع الله ; لأن القدر إذا ظهر بما يكره العبد قال : لو فعلت كذا لم يكن كذا ، وقد قدر في علم الله أنه لا يفعل إلا الذي فعل ، ولا يكون إلا الذي كان ، وقد أشار - صلى الله تعالى عليه وسلم - بقوله قبل ذلك ، ولكن قدر الله وما شاء فعل ، ولم يرد كراهة اللفظ بلو في جميع الأحوال وسائر الصور ، وإنما عنى الإتيان بها في صيغة تكون فيها منازعة القدر والتأسف على ما فاته من أمور الدنيا ، وإلا فقد ورد في القرآن مثل : لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل . وفي الحديث : " لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت " لأنه لم يرد به منازعة القدر .

وقال القاضي - رحمه الله - : قوله : فإن لو تفتح أي : لو كان الأمر لي وكنت مستبدا بالفعل والترك كان كذا وكذا ، فيه تأسف على الفائت ، ومنازعة للقدر وإيهام بأن ما كان يفعله باستبداده ، ومقتضى رأيه خير مما ساقه القدر إليه من حيث أن لو تدل على انتفاء الشيء لانتفاء غيره فيما مضى ، ولذلك استكرهه وجعله مما يفتح عمل الشيطان ، وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث فسخ الحج إلى العمرة " ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت " ليس من هذا القبيل ، وإنما هو كلام قصد به تطييب قلوبهم وتحريضهم على التحلل بأعمال العمرة . وفي شرح مسلم للنووي - رحمه الله - ، وقال القاضي عياض - رحمه الله - : هذا النهي إنما هو لمن قاله معتقدا ذلك حتما ، وأما قول أبي بكر - رضي الله عنه - : لو أن أحدهم رفع رأسه لرآنا ، فهذا لا حجة فيه لأنه إنما أخبر عن مستقبل ، وكذا قوله - صلى الله تعالى عليه وسلم - : " لو كنت راجما بغير بينة لرجمت هذا " وشبه ذلك لا اعتراض فيه على قدر ، فلا كراهة فيه لأنه إنما أخبر عن اعتقاده فيما كان يفعل لولا المانع وعما هو في قدرته ، وأما الماضي فليس في قدرته ، وأما معنى قوله : فإن لو تفتح عمل الشيطان ، أنه يلقي في القلب معارضة القدر ويوسوس به الشيطان . قال الشيخ - رحمه الله تعالى - : وقد جاء استعمال " لو " في الماضي كقوله - صلى الله تعالى عليه وسلم - : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي " فالظاهر إنما ورد فيما لا فائدة فيه ، فيكون نهي تنزيه لا تحريم ، وأما من قاله متأسفا على ما فات من طاعة الله أو هو معتذر من ذلك فلا بأس به ، وعليه يحمل أكثر استعمال " لو " الموجودة في الأحاديث .

أقول : بل التأسف على فوت طاعة الله مما يشاب ، فينبغي أن يعد من باب الاستحباب ، فقد روى الرازي في مشيخته عن أبي عمرو : من أسف على دنيا فاتته اقترب من النار مسيرة ألف سنة ، ومن أسف على آخرة فاتته اقترب من الجنة مسيرة ألف سنة . ذكره السيوطي في الجامع . ( رواه مسلم ) : ولفظ الجزري في الحصن : ومن وقع له ما لا يختاره فلا يقل : لو أني فعلت كذا وكذا أي : لكان كذا وكذا - ولو للتمني - ولكن ليقل : بقدر الله وما شاء فعل . رواه مسلم والنسائي وابن ماجه وابن السني ، لكن لفظ النسائي وابن السني : قدر الله موضع بقدر الله ، وقد ضبط بصيغة الفعل مخففا ومشددا ، وبصيغة المصدر بالرفع مضافا ، وأيضا لفظهما صنع بدل فعل ، والله تعالى أعلم . وروى أبو داود والنسائي وابن السني عن عوف بن مالك الأشجعي مرفوعا : " من غلبه أمر فليقل حسبي الله ونعم الوكيل " .

[ ص: 3320 ]



الخدمات العلمية