الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5300 - وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أيها الناس ! ليس من شيء يقربكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا قد أمرتكم به ، وليس شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا قد نهيتكم عنه ، وإن الروح الأمين - وفي رواية : وإن الروح القدس - نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها ، ألا فاتقوا الله ، وأجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله ، فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته " . رواه في ( شرح السنة ) والبيهقي في ( شعب الإيمان ) إلا أنه لم يذكر ( وإن روح القدس ) .

التالي السابق


5300 - ( وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - : " أيها الناس ! ليس من شيء " ) : من زائدة مبالغة أي : ليس شيء ما من الأشياء ( " يقربكم " ) : بتشديد الراء أي : يجعلكم قريبا ( " إلى الجنة ويباعدكم " ) أي : ومن شيء يباعدكم ( " من النار " ) أي : على وجه السببية ، فالنسبية في الفعلين مجازية ( " إلا قد أمرتكم به " ) أي : بما ذكر أو بكل منهما ( " وليس شيء " ) : ليس من هنا في الأصول ( " يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا قد نهيتكم عنه " ) : وفيه دليل صريح على أن جميع العلوم من الأمور النافعة والأمور الدافعة يستفاد من الكتاب والسنة ، وأن الاشتغال بغيرها تضييع العمر من غير المنفعة ( " وإن الروح الأمين " ) : وفي نسخة : وإن روح الأمين أي : جبرائيل - عليه السلام - كما قال تعالى : نزل به الروح الأمين ( وفي رواية : " وإن روح القدس " ) : بضمتين وتسكن الدال كقوله تعالى : وأيدناه بروح القدس أي : الروح المقدسة من الأخلاق المدنسة . قال الطيبي - رحمه الله - : هو كما يقال : حاتم الجود ورجل صدق ، فهو من باب إضافة الموصوف إلى الصفة للمبالغة في الاختصاص ، ففي الصفة القدس منسوب إليها ، وفي الإضافة بالعكس نحو مال زيد ( " نفث في روعي " ) : بضم الراء أي : أوحي إلي وألقى من النفث بالفم وهو شبيه بالنفخ ، وهو أقل من التفل ; لأن التفل لا يكون إلا ومعه شيء من الريق ، والروع الجلد والنفس ، كذا في النهاية ، والمعنى أنه أوحي إلي وحيا خفيفا ( " أن نفسا " ) : بفتح الهمزة ، ويجور الكسر لأن الإيحاء في معنى القول ، والمعنى أن نفسا ذات نفس وهي حي مخلوق ( " لن تموت حتى تستكمل رزقها " ) أي : المقدر لها كما أشار إليه سبحانه بقوله : الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ( " ألا " ) : للتنبيه أي : تنبهوا ( " فاتقوا الله " ) : فإنكم مأمورون بالتقوى وبالسعي إلى الدرجات العلى ( " وأجملوا " ) أي : من الإجمال أي : وأحسنوا ( " في الطلب " ) أي : في تحصيل الرزق ولا تبالغوا في طلبه ، فإنكم غير مكلفين بطلب الرزق . قال تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين وقال عز وجل : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى فالأمر للإباحة ، أو المعنى اطلبوا من الحلال فالأمر للوجوب ويؤيده قوله : ( " ولا يحملنكم " ) : بكسر الميم أي : لا يبعثكم ( " استبطاء الرزق " ) أي : تأخيره ومكثه عليكم ( " أن تطلبوه " ) أي : على أن تبتغوه ( بمعاصي الله ) أي : بسبب ارتكابها بطريق من طرق الحرام كسرقة وغصب وخيانة وإظهار سيادة وعبادة وديانة ، وأخذ من بيت المال على وجه زيادة ونحو ذلك . ( " فإنه " ) أي : الشأن ( " لا يدرك ما عند الله " ) أي : من الرزق الحلال أو من الجنة وحسن المآل ( " إلا بطاعته " ) أي : لا بتحصيل المال من طريق الوبال .

قال الطيبي - رحمه الله - : قوله : فأجملوا أي : اكتسبوا المال بوجه جميل ، وهو أن لا تطلبه إلا بالوجه الشرعي ، والاستبطاء بمعنى الإبطاء والسين فيه للمبالغة ، كما أن استعف بمعنى عف في قوله تعالى : ومن كان غنيا فليستعفف وفيه أن الرزق مقدر مقسوم لا بد من وصوله إلى العبد ، لكن العبد إذا سعى وطلب على وجه مشروع وصف بأنه حلال ، وإذا طلب بوجه غير مشروع فهو حرام ، فقوله : ما عند الله إشارة إلى أن الرزق كله من عند الله الحلال والحرام . وقوله : أن تطلبوه بمعاصي الله تعالى ، إشارة إلى أن ما عند الله إذا طلب بمعصية الله ذم وسمي حراما ، وقوله : إلا بطاعته ، إشارة إلى أن ما عند الله إذا طلب بطاعته مدح وسمي حلالا . وفي هذا دليل بين لأهل السنة على أن الحلال والحرام يسمى رزقا وكله من عند الله ، خلافا للمعتزلة . ( رواه ) أي : البغوي ( في " شرح السنة " والبيهقي في " شعب الإيمان " إلا أنه ) أي : البيهقي ( لم يذكر : " وإن روح القدس " ) : فرواية روح القدس من روايات البغوي أو غيره .

[ ص: 3322 ] قال ميرك : ورواه ابن أبي الدنيا في القناعة ، والحاكم وصححه عنه ، وعن جابر - رضي الله تعالى عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - : " يا أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب ، فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ، خذوا ما حل ودعوا ما حرم " رواه ابن ماجه واللفظ له ، والحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم .

قلت : وروى أبو نعيم في الحلية عن أبي أمامة مرفوعا : " إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها ، فأجملوا في الطلب ، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله ، فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته " .




الخدمات العلمية