الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5407 - وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين ، فإن يهلكوا فسبيل من هلك ، وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاما " . قلت : أمما بقي أو مما مضى ؟ قال : " مما مضى " . رواه أبو داود .

التالي السابق


5407 - ( وعن عبد الله بن مسعود ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم : " تدور رحى الإسلام " ) أي : تستقر وتستمر دائرة رحى الإسلام ، ويستقيم دورانها على وجه النظام ، أو يبتدئ دوران دائرة الحرب وتزلزله وحركاته وسكناته في الإسلام ( " لخمس وثلاثين " ) أي : لوقت خمس وثلاثين من ابتداء ظهور دولة الإسلام ، وهي زمن هجرة خير الأنام ، وبانتهاء المدة تنقضي خلافة الخلفاء الثلاثة بلا خلاف بين الخاص والعام ; إذ بعدها مقتل عثمان - رضي الله عنه - ( " أو ست وثلاثين " ) وفيه قضية الجمل ، ( " أو سبع وثلاثين " ) وفيه وقعة صفين ، و ( أو ) فيها للتنويع ، أو بمعنى بل ، فإن الأمر فيهما أهون مما بعدهما ، لا سيما أمر الإسلام ، ونظام الأحكام ، وظهور الصحابة والعلماء الأعلام ; ولهذا قال : ( " فإن يهلكوا " ) أي : إن اختلفوا بعد ذلك واستهانوا في أمر الدين ، واقترفوا المعاصي ( " فسبيل من هلك " ) أي : فسبيلهم سبيل من هلك من الأمم الماضية الذين زاغوا عن الحق في اختلاقهم وزيغهم عن الحق ، ووهنهم في الدين ، وسمى أسباب الهلاك والاشتغال بما يؤدي إليه هلاكا ، هذا مجمل الكلام ، وأما تفصيل المرام ، فقال الخطابي : دوران الرحى كناية عن الحرب والقتال ، شبهها بالرحى الدوارة التي تطحن الحب ; لما يكون فيها من تلف الأرواح وهلاك الأنفس ، قال الشاعر :


فدارت رحانا واستدارت رحاهم



قلت : هو معنى ما قال غيره :


فيوما علينا ويوما لنا فيوما نساء ويوما نسر



وقال تعالى : وتلك الأيام نداولها بين الناس ، ثم الرحى وإن كان فيها ما ذكر من تلف الأرواح وهلاك الأنفس ، لكن فيها أيضا قوت الأشباح وقوة الأرواح . قال التوربشتي - رحمه الله : إنهم يكنون عن اشتداد الحرب بدوران الرحى ، ويقولون : دارت رحى الحرب أي استتب أمرها ، ولم تجدهم استعملوا دوران الرحى في أمر الحرب من غير جريان ذكرها ، أو الإشارة إليها . وفي هذا الحديث لم يذكر الحرب ، وإنما قال : رحى الإسلام ، فالأشبه أنه أراد بذلك أن الإسلام يستتب أمره ، ويدوم على ما كان عليه المدة المذكورة في الحديث ، ويصح أن يستعار دوران الرحى في الأمر الذي يقوم لصاحبه ويستمر له ، فإن الرحى توجد على نعت الكمال ما دامت دائرة مستمرة ، ويقال : فلان صاحب دارتهم إذا كان أمرهم يدور عليه ، ورحى الغيث معظمه ، ويؤيد ما ذهبنا إليه ما رواه الحربي في بعض طرقه : تزول رحى الإسلام مكان تدور ، ثم قال : كأن تزول أقرب ; لأنها تزول عن ثبوتها واستقرارها ، وأشار بالسنين الثلاث إلى الفتن الثلاث : مقتل عثمان - رضي الله عنه - وكان سنة خمسة وثلاثين ، وحرب الجمل ، وكانت سنة ست ، وحرب صفين ، وكانت سنة سبع ، فإنها كانت متتابعة في تلك الأعوام الثلاثة ، ( " وإن يقم لهم دينهم " ) أي : وإن صفت تلك المدد ولم يتفق لهم اختلاف وخور في الدين وضعف في التقوى ( " يقم لهم سبعين عاما " ) تتمادى بهم قوة الدين واستقامة أمره سبعين سنة ، وقد وقع المحذور في الموعد الأول ، ولم يزل ذلك كذلك إلى الآن .

[ ص: 3403 ] قال الخطابي : أراد بالدين الملك ، قال : ويشبه أن يكون أراد بهذا ملك بني أمية ، وانتقاله عنهم إلى بني العباس ، وكان من بين استقرار الملك لبني أمية إلى أن ظهرت الدعاة بخراسان ، وضعف أمر بني أمية ، ودخل الوهن فيه نحوا من سبعين سنة .

قال التوبشتي : يرحم الله أبا سليمان ، فإنه لو تأمل الحديث كل التأمل ، وبنى التأويل على سياقه لعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرد بذلك ملك بني أمية دون غيرهم من الأمة ، بل أراد به استقامة أمر الأمة في طاعة الولاة ، وإقامة الحدود والأحكام ، وجعل المبدأ فيه أول زمان الهجرة ، وأخبرهم أنهم يلبثون على ما هم عليه خمسا وثلاثين أو ستا وثلاثين أو سبعا وثلاثين ، ثم يشقون عصا الخلاف ; فتفرق كلمتهم ، فإن هلكوا فسبيلهم سبيل من قد هلك قبلهم ، وإن عاد أمرهم إلى ما كان عليه من إيثار الطاعة ونصرة الحق يتم لهم ذلك إلى تمام السبعين ، هذا مقتضى اللفظ ، ولو اقتضى اللفظ أيضا غير ذلك لم يستقم لهم ذلك القول ، فإن الملك في أيام بعض العباسية لم يكن أقل استقامة منه في أيام المروانية ، ومدة إمارة بني أمية من معاوية إلى مروان بن محمد كانت نحوا من تسع وثمانين سنة .

والتواريخ تشهد له ، مع أن بقية الحديث ينقض كل تأويل يخالف تأويلنا هذا ، وهي قول ابن مسعود : ( قلت ) أي : يا رسول الله ( أو مما بقي أو مما مضى ؟ ) يريد أن السبعين تتم لهم مستأنفة بعد خمس وثلاثين ، أم تدخل الأعوام المذكورة في جملتها ؟ ( قال : " مما مضى " ) .

يعني يقوم لهم أمر دينهم إلى تمام سبعين سنة من أول دولة الإسلام ، لا من انقضاء خمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين إلى انقضاء سبعين ، وفي جامع الأصول قيل : إن الإسلام عند قيام أمره على سنن الاستقامة ، والبعد عن إحداثات الظلمة إلى أن ينقضي مدة خمس وثلاثين سنة ، ووجهه أن يكون قد قاله ، وقد بقيت من عمره - صلى الله عليه وسلم - خمس سنين أو ست ، فإذا انضمت إلى مدة خلافة الخلفاء الراشدين ، وهي ثلاثون سنة ، كانت بالغة ذلك المبلغ ، وإن كان أراد سنة خمس وثلاثين من الهجرة ، ففيها خرج أهل مصر وحصروا عثمان - رضي الله عنه - وإن كان سنة ست وثلاثين ، ففيها كانت وقعة الجمل ، وإن كانت سنة سبع وثلاثين ، ففيها كانت وقعة صفين . ( رواه أبو داود ) .




الخدمات العلمية