الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5578 - وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن ناسا قالوا : يا رسول الله ! هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " نعم ، هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوا ليس معها سحاب ؟ وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحوا ليس فيها سحاب ؟ " . قالوا : لا يا رسول الله ، قال : " ما تضارون في رؤية الله يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما ، إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن : ليتبع كل أمة ما كانت تعبد ; فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار ، حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر ، أتاهم رب العالمين قال : فماذا تنظرون ؟ يتبع كل أمة ما كانت تعبد . قالوا : يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم " .

التالي السابق


5578 - ( وعن أبي سعيد الخدري أن ناسا قالوا : يا رسول الله ! هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : نعم ) أي : ترون ربنا . ذكر السيوطي - رحمه الله - في بعض تعاليقه أن رؤية الله تعالى يوم القيامة في الموقف حاصلة لكل أحد من الرجال والنساء ، حتى قيل للمنافقين والكافرين أيضا ، ثم يحجبون بعد ذلك ; ليكون عليهم حسرة ، وأقول : وفيه بحث ; لقوله تعالى : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ; ولقوله - صلى الله تعالى عليه وسلم - على ما سيأتي : ( حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله أتاهم رب العالمين ) ; ولأن لذة النظر ولو مرة تنسي كل محنة وشدة ، بل يرتفع به كل حسرة ; إذ من المعلوم أن النظر لا يوجد دائما لأهل الجنة أيضا . قال : وأما الرؤية في الجنة فأجمع أهل السنة على أنها حاصلة للأنبياء والرسل والصديقين من كل أمة ، ورجال المؤمنين من البشر من هذه الأمة ، وفي نساء هذه الأمة ثلاث مذاهب : لا يرين ، ويرين ، ويرين في مثل أيام الأعياد دون غيرها ، وفي الملائكة قولان : لا يرون ربهم ، ويرونه . وفي الجن أيضا خلاف . ( هل تضارون ) : بضم التاء وفتحها مع تشديد الراء وتخفيفها .

قال شيخنا المرحوم مولانا عبد الله السندي : ففيه أربعة أوجه ، لكن فيه نظر ; لأن ضم التاء مع التشديد ظاهر ; لأنه من باب المفاعلة ، مع احتمال بنائه للفاعل أو المفعول ، وكذلك فتح التاء مع التشديد ; فإنه من باب التفاعل على حذف إحدى التائين ، وهو يتعين أن يكون بصيغة الفاعل ، وأما ضم التاء مع تخفيف الراء فمبني على أنه للمجهول ، من ضاره يضيره أو يضوره على ما في القاموس بمعنى صرف ، وأما فتح التاء مع الراء المخففة ، فلا وجه له بحسب القواعد العربية ، والمعنى : هل تتدافعون وتتزاحمون ليحصل لكم ضرر ( في رؤية الشمس بالظهيرة ) أي : وقت انتصاف النهار ( صحوا ) أي : حين لا سحاب ولا غبار ، من أصحت السماء إذا خلت من الغيم ، كذا ذكره شارح ، وفي القاموس : الصحو ذهاب الغيم ، فقوله : ( ليس معها سحاب ) ؟ تأكيد ، والمراد بالسحاب الحجاب ، أعم من أن يكون من جانب الرائي ، أو من جانب المرئي ، ثم أكد ثالثا وأظهر مثالا آخر بقوله : ( وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحوا ليس فيها ) أي : في السماء بقرينة المقام وإن لم يجر لها ذكر ، أو في جهة رؤية القمر من السماء ( سحاب ) ؟ أي مانع وحجاب ( قالوا : لا يا رسول الله ! قال : ما تضارون في رؤية الله يوم القيامة ) : أريد

[ ص: 3549 ] به الموقف وما بعده من دخول الجنة ( إلا كما تضارون في رؤية أحدهما ) ، وفيه مبالغة وتعليق بالمحال ، أي : لو كان في رؤية أحدهما مضارة لكان في رؤيته مضارة ، والتشبيه إنما هو لمجرد الظهور ، وتحقق الرؤية مع التنزه عن صفات الحدوث من نحو المقابلة والجهة ، ولعل ذكر الشمس والقمر للإشعار بأن رؤية الله حاصلة للمؤمنين في الليل والنهار ، على غاية من الظهور ونهاية من الأنوار ، وإيماء إلى تفاوت التجلي الرباني بالنسبة إلى الأبرار ، ( إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن ) أي : نادى مناد ( ليتبع ) : بتشديد التاء المفتوحة وكسر الموحدة ، وفي نسخة بالسكون والفتح ، أي : ليعقب ( كل أمة ما كانت تعبد ، فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام ) : بيان غير الله ( والأنصاب ) : جمع نصب بفتح النون وضمها وسكون الصاد ويضمان ، وهي حجارة كانت تنصب وتعبد من دون الله تعالى ، ويذبحون عليها تقربا إلى آلهتهم ، وكل ما نصب واعتقد تعظيمه من الحجر والشجر فهو النصب ، ( إلا يتساقطون في النار ) ; لأن الأنصاب والأصنام ملقاة فيها ( حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله ) أي : وحده ( من بر ) أي : مطيع صالح ( وعاص ) أي : فاجر فاسق ( أتاهم رب العالمين ) أي : أتاهم أمره ، كما أشار إليه بقوله : ( قال ) أي : الرب ( فماذا تنظرون ) ؟ أي : تنتظرون ، ويجوز أن يعبر بالإتيان عن التجليات الإلهية ، والتعريفات الربانية ، بل قيل : هو القول الحق ، وهو بالاعتبار أولى وأحق ، وقيل : الإتيان هنا عبارة عن رؤيتهم إياه ; لأن من غاب عن غيره لا يمكن رؤيته إلا بعد الإتيان ، فعبر بالإتيان عن الرؤية مجازا ، وقيل : الإتيان فعل من أفعال الله سبحانه سماه إتيانا ، وقيل : المراد إتيان بعض الملائكة .

قال القاضي عياض - رحمه الله : وهذا الوجه أشبه عندي بالحديث ، أو يكون معناه : يأتيهم الله في صورة الملائكة مخلوقاته التي لا تشبه صفات الإله ليختبرهم ، فإذا قال لهم الملك ، أو هذه الصورة : أنا ربكم ، ورأوا عليه من علامة المخلوق ينكرونه ، ويعلمون أنه ليس ربهم ، فيستعيذون بالله منه ، وقيل : الرؤية حقيقة غير أنا لا نكيف ذلك ، وقيل : كنه معرفتها إلى علم الله تعالى . وقال التوربشتي - رحمه الله : إتيان الله في الكتاب مفسر بإتيان أمره ، وإتيان بأسه ، ولفظ التنزيل محتمل لكلا القولين ، فأما هذا الحديث فإنه يئول على إتيان أمره ، وهو قوله : فماذا تنظرون ؟ ومن السلف من تنزه عن تأويله خشية الخطأ ، مع تمسكه بعروة الوثقى ، وهي تنزيه الله تعالى عن الاتصاف بما تتحدث به النفوس من أوصاف الخالق .

قال الشيخ الإمام أبو الفتوح العجلي في كتاب الأقاويل المشهورة : قال البيهقي : قد تكلم الشيخ أبو سليمان الخطابي - رحمه الله - في تفسير هذا الحديث وتأويله بما فيه الكفاية . قال : إن هذا موضع يحتاج الكلام فيه إلى تأويل وتخرج ، وليس ذلك من أجل أنا ننكر رؤية الله سبحانه وتعالى ، بل نثبتها ، ولا من أجل أنا ندفع ما جاء في الكتاب والسنة من ذكر المجيء والإتيان ، غير أنا لا نكيف ذلك ، ولا نجعله حركة وانتقالا كمجيء الأشخاص وإتيانها ، فإن ذلك من نعوت الحادث ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، ويجب أن يعلم أن الرؤية التي هي ثواب الأولياء وكرامة لهم في الجنة ، غير هذه الرؤية المذكورة في مقامهم ، واحتج بحديث صهيب في الرؤية يعني كما سيجيء في باب رؤية الله تعالى ، وإنما تعرضهم لهذه الرؤية امتحان من الله تعالى لهم ، فيقع بها التمييز بين من عبد الله تعالى وبين من عبد الطواغيت ; ليتبع كل من الفريقين معبوده ، وليس ننكر أن يكون الامتحان إذ ذاك بعد قائما ، وحكمه على الخلق جاريا حتى يفرغ من الحساب ، ويقع الجزاء بما يستحقونه من الثواب أو العقاب ، ثم ينقطع إذا حقت واستقرت الحقائق أمر العباد قرارها ، ألا ترى إلى قوله تعالى : يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون ، وجاء في الحديث : ( إن المؤمنين يسجدون ويصير ظهور المنافقين طبقا واحدا ) . قال : ويخرج معنى إتيان

[ ص: 3550 ] الله في هذا إياهم أنه يشهدهم رؤيته ليتيقنوه ; فيكون معرفتهم له في الآخرة عيانا كما كان اعترافهم بربوبيته في الدنيا علما واستدلالا ، ويكون طريق الرؤية بعد أن لم يكن بمنزلة إتيان الآتي من حيث لم يكونوا شاهدوه ، ثم قوله : فماذا تنظرون ؟ أي : قلنا لكم ليتبع كل أمة ما كانت تعبد ، فبعضكم اتبع ما عبده ، فلم أنتم أيضا لا تتبعونه ؟ وهذا معنى قوله : ( يتبع كل أمة ما كانت تعبد ) ، فإن لفظه خبر ومعناه أمر ( قالوا : يا ربنا فارقنا الناس ) أي : الذين عبدوا غير الله ، فضلا عن أن نعبد ما سواه في الدنيا ، والمعنى : ما اتبعناها ما دمنا في الدنيا ( أفقر ما كنا إليهم ) : بالنصب على الظرفية ، أي : في أفقر أكواننا إلى الناس ( ولم نصاحبهم ) أي : في أفعالهم ، بل قاتلناهم وحاربناهم ، وعاديناهم وقاطعناهم لمرضاتك ورجاء لتجلياتك ، وحاصله أنا ما اتبعناهم حينئذ والأمر غيب عنا ، ونحن محتاجون إليهم ، فكيف نتبعهم الآن وقت العيان ؟ إنهم وما يعبدون من دون الله حصب جهنم .

قال الطيبي - رحمه الله : أفقر : حال من ضمير فارقنا ، وما : مصدرية والوقت مقدر . قال النووي - رحمه الله : معناه أنهم تضرعوا إلى الله تعالى ولجأوا إليه وتوسلوا بهذا القول المشعر بالإخلاص إلى الخلاص ، يعني : ربنا فارقنا الناس في الدنيا ، الذين زاغوا عن طاعتك من الأقرباء ، وممن يحتاج إليهم في المعاش والمصالح الدنيوية ، وهكذا كان دأب الصحابة ومن بعدهم من المؤمنين في جميع الأزمان ; فإنهم كانوا يقاطعون من حاد الله ورسوله مع حاجتهم إليه ، وآثروا رضا الله تعالى على ذلك .




الخدمات العلمية