الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5647 - وعن سعيد بن المسيب - رضي الله عنه - أنه لقي أبا هريرة ، فقال له أبو هريرة : أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة . فقال سعيد : أفيها سوق ؟ قال : نعم ، أخبرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " إن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم ، ثم يؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا ، فيزورون ربهم ، ويبرز لهم عرشه ، ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة ، توضع لهم منابر من نور ، ومنابر من لؤلؤ ، ومنابر من ياقوت ، ومنابر من زبرجد ، ومنابر من ذهب ، ومنابر من فضة ، ويجلس أدناهم - وما فيهم دنيء - على كثبان المسك والكافور ، ما يرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسا " .

قال أبو هريرة : قلت : يا رسول الله ، وهل نرى ربنا ؟ قال : نعم ، هل تتمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر ؟ قلنا : لا ، قال : " كذلك لا تتمارون في رؤية ربكم ، ولا يبقى في ذلك المجلس رجل إلا حاضره الله محاضرة حتى يقول للرجل منهم : يا فلان بن فلان ، أتذكر يوم قلت كذا وكذا ؟ يذكره بعض غدراته في الدنيا . فيقول : يا رب أفلم تغفر لي ؟ فيقول : بلى ، فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه . فبينا هم على ذلك غشيتهم سحابة من فوقهم ، فأمطرت عليهم طيبا لم يجدوا مثل ريحه شيئا قط ، ويقول ربنا : قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة فخذوا ما اشتهيتم ، فنأتي سوقا قد حفت به الملائكة ، فيها ما لم تنظر العيون إلى مثله ، ولم تسمع الآذان ، ولم يخطر على القلوب ، فيحمل لنا ما اشتهينا ، ليس يباع فيها ولا يشترى ، وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضا " . قال : " فيقبل الرجل ذو المنزلة المرتفعة ، فيلقى من هو دونه - وما فيهم دنيء - فيروعه ما يرى عليه من اللباس ، فما ينقضي آخر حديثه حتى يتخيل عليه ما هو أحسن فيه ، وذلك أنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها ، ثم ننصرف إلى منازلنا ، فيتلقانا أزواجنا ، فيقلن : مرحبا وأهلا ، لقد جئت وإن بك من الجمال أفضل مما فارقتنا عليه ، فيقول : إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار ، ويحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا
" . رواه الترمذي وابن ماجه ، وقال الترمذي : هذا حديث غريب .

التالي السابق


5647 - ( وعن سعيد بن المسيب ) ، تابعي جليل ( أنه لقي أبا هريرة ) أي في السوق على ما يدل عليه السياق ( فقال له أبو هريرة : أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة ) أي كما بيننا في سوق المدينة ( فقال سعيد : أفيها ) أي : أفي الجنة ( سوق ؟ ) يعني وهي موضوعة للحاجة إلى التجارة ( قال : نعم ، أخبرني رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - : ( إن ) : بالفتح في أصل السيد وغيره ، وفي نسخة بالكسر على الحكاية أي الخبر هو قوله إن ، أو التقدير قائلا إن ( أهل الجنة إذا دخلوها ) أي الجنة ( نزلوا فيها ) أي في منازلها ودرجاتها ( بفضل أعمالهم ) أي : بقدر زيادة طاعاتهم كمية وكيفية ( ثم يؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة ) أي : قدر إتيانه ، والمراد في مقدار الأسبوع ( من أيام الدنيا ، فيزورون ربهم ) ، أي فيه ( ويبرز ) : من الإبراز أي : ويظهر ربهم إليهم عرشه ) ، أي نهاية لطفه وغاية رحمته ، كما أشير إليه بقوله : الرحمن على العرش استوى وإلا فقد سبق أن العرش سقف الجنة ، وليلائم على وجه التنزيه من الجهة . قوله : ( ويتبدى ) بتشديد الدال أي : يظهر ويتجلى ربهم ( لهم في روضة ) أي عظيمة ( من رياض الجنة ، فتوضع لهم منابر ) أي : كراسي مرتفعة ( من نور ، ومنابر من لؤلؤ ، ومنابر من ياقوت ، ومنابر من زبرجد ) : بفتح زاي وموحدة فراء ساكنة فجيم مفتوحة : جوهر معروف ( ومنابر من ذهب ، ومنابر من فضة ) ، أي بحسب مقادير أعمالهم ومراتب أحوالهم ، ( ويجلس أدناهم ) أي : دونهم منزلة ( وما فيهم دنيء ) أي : والحال أنه ليس في أهل الجنة دون وخسيس . قال الطيبي - رحمه الله - : هو تتميم صونا لما يتوهم من قوله : أدناهم الدناءة ، والمراد به الأدنى في المرتبة ، والحاصل أنه يجلس أقل أهل الجنة اعتبارا ( على كثبان المسك ) بضم الكاف وسكون المثلثة ، جمع كثيب أي : تل من الرمل المستطيل من كثبت الشيء إذا جمعته ( والكافور ) ، بالجر عطف على المسك ، ففي القاموس : هو نبت طيب نوره كنور الأقحوان أو الطلع أو وعائه ، طيب معروف يكون من شجر بجبال بحر الهند والصين ، يظل خلقا كثيرا ، وتألفه النمورة ، وخشبه أبيض هش ، ويوجد في أجوافه الكافور ، وهو أنواع ، ولونها أحمر ، وإنما بيض بالتصعيد مع الكرم وعين في الجنة ( ما يرون ) بصيغة المجهول من الإراءة ، والضمير إلى الجالسين على الكثبان أي : لا يظنون ولا يتوهمون ( أن أصحاب الكراسي ) أي : أرباب المنابر ( بأفضل منهم مجلسا ) حتى يحزنوا بذلك ، لقولهم على ما في التنزيل : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن بل إنهم واقفون في مقام الرضا ، ومتلذذون بحال التسليم بما جرى القضاء .

[ ص: 3595 ] ( قال أبو هريرة : قلت : يا رسول الله ، وهل نرى ربنا ) ؟ أي : يتجلى الذات ؟ ( قال : نعم ، هل تتمارون ) : بفتح الراء ، وفي نسخة بحذف إحدى التائين أي : هل تشكون ( في رؤية الشمس ) أي : في رؤيتكم الشمس ( والقمر ) أي : وفي رؤية القمر ( ليلة البدر ) ؟ واحترز عن الهلال وعن القمر في غير ليالي البدور ، فإنه لم يكن حينئذ في نهاية النور ( قلنا : لا ) أي : لا نشك في رؤية الشمس والقمر ( قال : ( كذلك لا تتمارون في رؤية ربكم ) : والتشبيه إنما هو في كمال الظهور لا في غيره من خطرات تختلج في الصدور ( ولا يبقى في ذلك المجلس رجل إلا حاضره الله محاضرة ) : بالضاد المعجمة من الحضور وقد صحف بالمهملة . قال التوربشتي - رحمه الله - : الكلمتان بالحاء المهملة والضاد المعجمة ، والمراد من ذلك كشف الحجاب والمقاولة مع العبد من غير حجاب ولا ترجمان ، ويبينه الحديث : ( ما منكم من أحد إلا ويكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ) الحديث . والمعنى خاطبه الله مخاطبة وحاوره محاورة . ( حتى يقول للرجل منهم : يا فلان ) : بالفتح وفي نسخة بالضم ( ابن فلان ) بنصب ابن وصرف فلان ، وهما كنايتان عن اسمه واسم أبيه ، وروى أحمد وأبو داود عن أبي الدرداء مرفوعا : ( إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم ، فأحسنوا أسماءكم ) . ( أتذكر يوم قلت كذا وكذا ؟ ) أي : مما لا يجوز في الشرع ، فكأنه توقف الرجل فيه ويتأمل فيما ارتكبه من معاصيه ( فيذكره ) بتشديد الكاف أي : فيعلمه الله ( ببعض غدراته ) بفتح الغين المعجمة والدال المهملة ، جمع غدرة - بالسكون - بمعنى الغدر ، وهو ترك الوفاء ، والمراد معاصيه ؛ لأنه لم يف بتركها الذي عهد الله إليه في الدنيا . ( فيقول : يا رب ! أفلم تغفر لي ) ؟ أي : أدخلتني الجنة فلم تغفر لي ما صدر لي من المعصية . ( فيقول : بلى ) ، أي : غفرت لك ( فبسعة مغفرتي ) بفتح السين ويكسر ( بلغت ) أي : وصلت ( منزلتك هذه ) قال الطيبي - رحمه الله - : عطف على مقدر أي : غفرت لك فبلغت بسعة رحمتي هذه المنزلة الرفيعة ، والتقديم دل على التخصيص ، أي : بلوغك تلك المنزلة كائن بسعة رحمتي لا بعملك . ( فبينا ) وفي نسخة " فبينما " ( هم ) أي : أهل الجنة ( على ذلك ) أي : على ما ذكر من المحاضرة والمحاورة ( غشيتهم ) أي : غطتهم ( سحابة من فوقهم ، فأمطرت عليهم طيبا ) أي : عظيما ( ولم يجدوا مثل ريحه شيئا قط ، ويقول ربنا : قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة ، فخذوا ما اشتهيتم ، فنأتي سوقا قد حفت ) : بتشديد الفاء أي : أحاطت ( به الملائكة ، في ) كذا في بعض الأصول المعتمدة موجودة ، والمعنى عليه أي : في تلك السوق ( ما لم تنظر العيون ) بضم العين ويكسر جمع العين ( إلى مثله ) : وهو في نسخ أكثر الشراح مفقود ، فقال المظهر : " ما " موصولة والموصول مع صلته يحتمل أن يكون منصوبا بدلا من الضمير المنصوب المقدر العائد إلى ما في قوله : ما أعددت ، ويحتمل أن يكون في محل الرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف أي : المعد لكم ، وقال شارح : أو هو مبتدأ خبره محذوف أي : فيها أقول ، وهو أحق وأوفق . وقال الطيبي - رحمه الله - : الوجه أن يكون " ما " موصوفة بدلا من سوقا . ( ولم تسمع الآذان ) بمد الهمزة وجمع الآذان أي : وما لم تسمعه بمثله ( ولم يخطر ) : بضم الطاء أي : وما لم يمر مثله ( على القلوب ) وهذا هو معنى الحديث القدسي المشهور ( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ) على ما رواه أبو هريرة أيضا كما سبق .

[ ص: 3596 ] ( فيحمل لنا ) أي : إلى قصورنا ( ما اشتهينا ) أي : في تلك السوق من أنواع المرزوق ( ليس يباع فيها ولا يشترى ) الجملة حال من " ما " في " ما اشتهينا " ، وهو المحمول ، والضمير في يباع عائد إليه ( وفي ذلك السوق ) : هو يذكر ويؤنث فأنثه تارة وذكره أخرى ، والتأنيث أكثر وأشهر وأكثر أي : وفي تلك السوق ( يلقى ) أي : يرى ( أهل الجنة بعضهم بعضا قال ) أي النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أو أبو هريرة مرفوعا حقيقة أو موقوفا في حكم المرفوع ( فيقبل ) من الإقبال أي : فيجيء ويتوجه ( الرجل ذو المنزلة المرتفعة ، فيلقى من هو دونه ) أي : في الرتبة والمنزلة ( - وما فيهم من دنيء - ) زيد " من " للمبالغة في نفي الاستغراق ، وهو في نسخة صحيحة بدون " من " كما في صدر الحديث ( فيروعه ) بضم الراء أي : يعجب الرجل ( ما يرى ) أي يبصره ( عليه ) أي : على من دونه ( من الناس ) : بيان " ما " ، كذا ذكره شارح ، والظاهر عكس مرجع الضميرين .

قال الطيبي - رحمه الله - : الضمير المجرور يحتمل أن يرجع إلى " من " ، فيكون الروع مجازا عن الكراهة مما هو عليه من اللباس ، وأن يرجع إلى الرجل ذي المنزلة ، فالروع بمعنى الإعجاب أي : يعجبه حسنه فيدخل في روعه ما يتمنى مثل ذلك لنفسه ، ويدل عليه قوله : ( فما ينقضي آخر حديثه ) أي : ما ألقي في روعه من الحديث ، وضمير المفعول فيه عائد إلى " من " . قال شارح أي : حديث من هو دونه مع الرجل الرفيع المنزلة . قلت : ويجوز قلب الكلام أيضا ( حتى يتخيل عليه ) بصيغة الفاعل ، وفي نسخة بالبناء للمفعول أي : حتى يتصور له أن عليه ( ما هو أحسن منه ) والمعنى : يظهر عليه أن لباسه أحسن من لباس صاحبه ( وذلك ) أي سبب ما ذكر من التخيل ( لأنه ) أي الشأن ( لا ينبغي لأحد أن يحزن ) بفتح الزاي أي : يغتم ( فيها ) أي : في الجنة ، فحزن هنا لازم من حزن بالكسر لا من باب نصر ، فإنه متعد غير ملائم للمقام ( ثم ننصرف ) أي : نرجع ونعود ( إلى منازلنا ، فيتلقانا ) من التلقي أي : يستقبلنا وفي نسخة فيلقانا من اللقي أي : فيرانا ( أزواجنا ) أي : من نساء الدنيا ومن الحور العين ( فيقلن : مرحبا وأهلا ، لقد جئت وإن بك من الجمال أفضل مما فارقتنا عليه ، فيقول : إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار ، ويحقنا ) بكسر الحاء وتشديد القاف ، وفي نسخة بضم الحاء ، ففي المصباح : حق الشيء كضرب ونصر - إذا ثبت ، وفي القاموس : حق الشيء : وجب ووقع بلا شك ، وحقه أوجبه ، لازم ومتعد ، فالمعنى : يوجبنا ويلزمنا . ويمكن أن يكون من باب الحذف والإيصال أي : يحق لنا ويليق بنا ( أن ننقلب بمثل ما انقلبنا ) أي : من الانقلاب ، وهو الانصراف على وجه الكمال لأثر مجالسة ذي الجلال والجمال ، ومشاهدته المنزهة عن الحلول والاتحاد والاتصال والانفصال . ( رواه الترمذي وابن ماجه ، وقال الترمذي : هذا حديث غريب ) .




الخدمات العلمية