الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5660 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - ما كذب الفؤاد ما رأى ولقد رآه نزلة أخرى قال : رآه بفؤاده مرتين . رواه مسلم .

وفي رواية الترمذي قال : رأى محمد ربه ، قال عكرمة : قلت : أليس الله يقول : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار قال : ويحك ! ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره ، وقد رأى ربه مرتين .

التالي السابق


5660 - ( وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - ) أي في قوله تعالى : ما كذب الفؤاد ما رأى ولقد رآه نزلة أخرى قال أي ابن عباس : ( رآه بفؤاده مرتين ) . قال صاحب المدارك أي ما كذب فؤاد محمد ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه الصلاة والسلام ، أي ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك ، ولو قال ذلك لكان كاذبا ؛ لأنه عرف ، يعني : أنه رآه بعينه وعرفه بقلبه ، ولم يشك في أن ما رآه حق ، وقيل : المرئي هو الله سبحانه رآه بعين رأسه ، وقيل بقلبه . وفي شرح مسلم للنووي ، قال ابن مسعود : رأى رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - جبريل ، وهذا الذي قال هو مذهبه في هذه الآية ، وذهب الجمهور من المفسرين إلى أن المراد أنه رأى ربه سبحانه ، ثم اختلفوا فذهب جماعة إلى أنه عليه الصلاة والسلام رأى ربه بفؤاده دون عينه ، وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه . قال الإمام أبو الحسن الواحدي ، قال المفسرون رحمهم الله : هذا إخبار عن رؤية النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ربه عز وجل ليلة المعراج . قال ابن عباس وأبو ذر وإبراهيم التميمي : رآه بقلبه ، وعلى هذا رأى بقلبه ربه رؤية صحيحة ، وهو أن الله تعالى جعل بصره في فؤاده ، أو خلق لفؤاده بصرا حتى رأى ربه رؤية صحيحة كما يرى بالعين . قلت : هذا قول حسن ، ووجه مستحسن يمكن به الجمع بين متفرقات الأقوال ، والله تعالى أعلم بالحال . ثم قال الواحدي : ومذهب جماعة من المفسرين أنه رأى بعينه ، وهو قول أنس وعكرمة والربيع . قال المبرد : إن الفؤاد رأى شيئا فصدق فيه ، و " ما رأى " في موضع النصب أي : ما كذب الفؤاد مرئيه .

قال القاضي عياض - رحمه الله - : اختلف السلف والخلف هل رأى نبينا - صلى الله تعالى عليه وسلم - ربه ليلة الإسراء ؟ فأنكرته عائشة ، وهو المشهور عن ابن مسعود ، وإليه ذهب جماعة من المحدثين والمتكلمين ، وروى ابن عباس أنه رأى بعينه ، ومثله عن أبي ذر وكعب والحسن ، كان يحلف على ذلك ، وحكي مثله عن ابن مسعود ، وأبي هريرة ، وأحمد بن حنبل ، وحكى أصحاب المقالات عن أبي الحسن الأشعري ، وجماعة من أصحابه رضي الله تعالى عنهم ، أنه رآه ، ووقف بعض مشايخنا . وقال : ليس عليه دليل واضح ، ولكنه جائز ، ورؤية الله تعالى في الدنيا جائزة ، واختلفوا أن نبينا - صلى الله تعالى عليه وسلم - هل كلم ربه سبحانه ليلة الإسراء بغير واسطة أم لا ؟ فحكي عن الأشعري وقوم من المتكلمين ، أنه كلمه وعزاه بعضهم إلى جعفر بن محمد ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وكذلك اختلفوا في قوله تعالى : ثم دنا فتدلى فالأكثرون على أن هذا الدنو والتدلي منقسم ما بين جبريل والنبي عليهما الصلاة والسلام . وعن ابن عباس ، والحسن ، ومحمد بن كعب ، وجعفر بن محمد ، وغيرهم - رضي الله تعالى عنهم - أنه دنو من النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - إلى ربه تعالى ، أو من الله تعالى له عليه الصلاة والسلام ، والدنو والتدلي على هذا متأول ليس على وجه . قال جعفر بن محمد وغيره : الدنو من الله لا حد له ، ومن العباد بالحدود ، فدنوه عليه الصلاة والسلام من ربه عز وجل قربه منه ، وظهور عظيم منزلته لديه ، وإشراق أنوار معرفته عليه ، وإطلاعه على أسرار ملكوته وغيبه بما لم يطلع عليه سواه ، والدنو من الله إظهار ذلك له وإيصال عظيم بره وفضله إليه ، وقاب قوسين أو أدنى على هذا عبارة عن لطف المحل وإيضاح المعرفة والإشراف على الحقيقة من نبينا - صلى الله تعالى عليه وسلم - ومن الله إجابة الرغبة وإنابة الرتبة ، ونحوه قوله - صلى الله تعالى عليه وسلم - حكاية عن ربه : " من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا " هذا آخر كلام القاضي عياض - رحمه الله . وقد أوردت بعض الفوائد من هذه الرياض في رسالتين المدراج للمعراج . ( رواه مسلم ) .

[ ص: 3606 ] ( وفي رواية الترمذي قال ) أي ابن عباس : ( رأى محمد ربه ) أي بفؤاده ؛ لئلا يخالف رواية مسلم ، وقيل : أي بعينه وهو الظاهر من الإطلاق الملائم لما بعده من السؤال ، وإلا فرؤية الفؤاد غير منكرة بإجماع أهل الكمال ، ولا يعتري عليها اعتراض نقلا ولا عقلا في كل حال . ( قال عكرمة : قلت : أليس الله يقول : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار قال - أي ابن عباس - : ( ويحك ! ) كلمة تقال عند الشفقة وحال خوف المزلقة ( ذاك ) أي الإدراك الكلي ( إذا تجلى بنوره ) أي الخالص ( الذي هو نوره ) أي الذاتي ، وهذا الجواب بظاهره أنه أراد الرؤية بالفؤاد ، وفهم عكرمة خلاف ذلك ، فرد عليه بأن رؤيته بالعين " هي في الآخرة بالتجلي الخاص الكامل لكل مؤمن ، لكن على قدر مراتبهم في المعرفة ، وعدلا كلاهما عن المعنى المشهور في الإدراك ، وهو الإحاطة المنفية بالإجماع لقوله تعالى : ولا يحيطون به علما وقال الطيبي : قوله : ذاك إذا تجلى بنوره يعني دلت الآية على أنه تعالى لا يحيط به وبحقيقة ذاته حاسة الأبصار ، وهذا إذا تجلى بنوره الذي هو نوره وظهر بصفة الجلال ، وأما إذا تجلى مما يسعه نطاق البشرية من صفات الجمال فلا استبعاد إذن ، انتهى .

وقال صاحب الخلاصة : فهم عكرمة من قول ابن عباس : رآه بفؤاده ، أنه رآه بعينه ، لكن بمساعدة فؤاده ، فذلك تمسك بالآية ، ولو كان المراد أنه كانت الرؤية بالفؤاد جلية كالرؤية البصرية لم يتجه السؤال بالآية ، إلا أن تحمل الآية على أن المراد نفي الإدراك الذي يكون كالإدراك البصري في الجلاء ، وإنما خص ذكر البصر لأن محل الإدراك بحسب العادة ، والظاهر أن سؤال عكرمة كان على قول ابن عباس : رأى محمد ربه - كما هو رواية الترمذي - لا على قوله : رآه بفؤاده ، كما هو رواية مسلم ، وحينئذ لا إشكال في الاستدلال بالآية الكريمة ، ومعنى جواب ابن عباس أنه إذا تجلى بنوره على ما هو عليه ، اضمحل الإدراك . وأما إذا كان تجلى على قدر ما يفي بإدراكه القوة البشرية ، فإنه يدرك على ذلك الوجه ، ثم قوله :

( وقد رأى ربه مرتين ) يحتمل أنه رآه بفؤاده مرتين ، وهو الظاهر الموافق لما في صحيح مسلم ، أو مرة بفؤاده ومرة بعينه ، إذ لم يقل أحد أنه رآه بعينه مرتين ، والحاصل أنه ليس في كلام ابن عباس صريح دلالة على أن مراده رؤية ربه بعين البصر . وأما صاحب التحرير ، فإنه اختار إثبات الرؤية فقال : الجمع في هذه المسألة وإن كانت كثيرة ، لكنا لا نتمسك إلا بالأقوى . منها حديث ابن عباس : أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام ، والكلام لموسى عليه الصلاة والسلام ، والرؤية لمحمد - صلى الله عليه وسلم - قلت : ليس في كلامه نص على أن المراد به الرؤية البصرية ؛ لاحتمال أن يكون رؤية البصيرة من خصائصه أيضا ، مع أن ظاهر هذا الكلام أن لا يكون لنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وصفت الخلة ونعت الكلام ، مع أنهما ثابتان له عليه الصلاة والسلام على ما ذكره العلماء الأعلام ، ثم قال : والأصل في الباب حديث ابن عباس حبر الأمة ، والمرجوع إليه في المعضلات ، وقد راجعه ابن عمر في هذه المسألة هل رأى محمد صلوات الله عليه وسلامه ربه ؟ فأخبره أنه رآه . قلت : يحتمل أن يكون سؤال ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - وكذا سؤال عكرمة ناشئا عن تفسير قوله تعالى : ولقد رآه نزلة أخرى هل الضمير راجع إلى جبريل أو إلى الله سبحانه ؟ فأخبره أنه رآه أي بفؤاده ، كما يدل عليه ما رواه مسلم في صحيحه قال : ولا يقدح في هذا حديث عائشة - رضي الله عنها - لأنها لم تخبر أنها سمعت من النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - يقول : أرى ربي . قلت : وكذا ابن عباس لم يخبر أنه سمع النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - يقول : ما رأيت ربي مطلقا ، فضلا عن أن يكون مقيدا بعين البصر . قال : وإنما ذكرت ما ذكرت متأولة لقوله تعالى : ما كان لبشر أن يكلمه الله الآية ، ولقوله : لا تدركه الأبصار قلت : هاتان الآيتان سندان لمنعهما على أن ابن عباس أيضا متأول كما لا يخفى على متأمل . قال : وإذا صحت الروايات .

[ ص: 3607 ] عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في إثبات الرؤية وجب المصير إلى إثباتها ، فإنها ليست مما يدرك بالعقل ويؤخذ بالظن ، وإنما يتلقى بالسماع ولا يستجير أحد أن يظن بابن عباس أنه تكلم في هذه المسألة بالظن والاجتهاد . قلت : الرؤية ببصر العين غير مصرحة عنه ، وعلى تقدير الآية التسليم ، فلا شك أنه نشأ من باب اجتهاده وأخذه من إطلاق الآية . قال : وقد قال معمر بن راشد حين ذكر اختلاف عائشة وابن عباس : عائشة ما عندنا بأعلم من ابن عباس : قلت : هذا مع ما فيه من المناقشة لا يفيد فائدة تامة ، مع أنها ليست منفردة في هذا الباب ، بل يوافقها ابن مسعود وغيره من الأصحاب ، ثم على تقدير التعارض وتساقط التناقض يثبت كلامها ويتحقق مرامها . قال : ثم إن ابن عباس أثبت شيئا نفاه غيره ، والمثبت مقدم على النافي . قلت : هذا إذا كان الإثبات مستندا إلى حسن ، وإلا فمن آداب البحث أن كلام المانع معتبر ، لا سيما مع سند المنع ، حتى يأتي الخصم ببرهان جلي ، إذ الأصل هو العدم ، فالوجود يحتاج إلى تحقق بدليل قطعي من النقل أو العقل . هذا آخر كلام صاحب التحرير .

وما يترتب عليه من التقرير ، فقال الإمام النووي : الحاصل أن الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - رأى ربه بعيني رأسه ليلة الإسراء ، وإثبات هذا ليس إلا بالسماع من رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وهذا مما لا ينبغي أن يشك فيه . قلت : ولا ينبغي أن يجزم به أيضا ؛ لعدم ثبوت السماع أصلا ، فضلا عن أن لا يكون طريقه قطعا وفصلا ، وإلا لما وقع فيه خلاف للأقل أو للأكثر ، فتأمل وتدبر . قال : ثم إن عائشة لم تنف الرؤية بحديث ، ولو كان معها لذكرته . قلت : وكذا ابن عباس لم يثبت الرؤية بحديث ، ولو كان معه لذكره ، وإنما أخذه من إطلاق الآية المتقدمة . لو ثبت النقل صريحا عنه من إثبات الرؤية بعين البصر ، وقد علم أيضا مما سبق أن عائشة مانعة للرؤية المذكورة ، وما ذكرته من الأدلة فإنما هي سند منعها للتقوية وليست مستدلة حتى يقال في حقها ما قال ، وإنما اعتمدت على الاستنباط من الآيات ، أما احتجاجها بقوله تعالى : لا تدركه الأبصار فجوابه أن الإدراك هو الإحاطة ، والله تعالى لا يحاط به ، فإذا ورد النص بنفي الإحاطة لا يلزم منه نفي الرؤية بغير إحاطة . قلت : سبق سؤال عكرمة مطابقا لما فهمت عائشة من الآية . وكذا تقرير ابن عباس هذا المعنى ، وجوابه على غير هذا المبنى ، وإن كان هذا جوابا حسنا في نفس الأمر كما لا يخفى . قال : ولقوله تعالى : وما كان لبشر أن يكلمه الله الآية . فجوابه : أنه لا يلزم من الرؤية وجود الكلام حال الرؤية ، فيجوز وجود الرؤية من غير كلام . قلت : الظاهر أن هذا المعنى أخذ من سياق قوله تعالى : فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى حيث استدل الخصم به على الجمع بين كمال القرب والوحي الخاص المراد به الكلام من غير واسطة ، فدفعته بقوله تعالى : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أي بالإلقاء بالقلب ، أو من وراء حجاب أي أو تكليما ظاهرا يدركه سمع القالب ، لكن من وراء حجاب ، والله تعالى أعلم بالصواب .

وفي التفسير الكبير : اعلم أن النصوص وردت أن محمدا - صلى الله تعالى عليه وسلم - رأى ربه بفؤاده ، وجعل بصره في فؤاده ، أو رآه ببصره وجعل فؤاده في بصره ، وكيف لا ، ومذهب أهل السنة الرؤية بالإراءة لا بقدرة العبد ، فإذا حصل الله تعالى العلم بالشيء من طريق البصر كان رؤية بالإراءة ، وإن حصل من طريق القلب كان معرفة ، والله تعالى قادر أن يحصل العلم بخلق مدرك للعلوم في البصر ، كما قدر أن يحصله بخلق مدرك للعلوم في القلب ، والمسألة مختلف فيها بين الصحابة ، واختلاف الوقوع مما ينبئ عن الاتفاق على الجواز . انتهى . وهو غاية التحقيق ونهاية التدقيق ، والله ولي التوفيق .

[ ص: 3608 ] وقال صاحب التعرف : وأجمعوا أنه لا يرى في الدنيا بالإبصار ، ولا بالقلب إلا من جهة الإيقان ؛ لأنه غاية الإكرام وأفضل النعم ، ولا يجوز أن يكون ذلك إلا في أفضل المكان ، وأحرى أن الدنيا دار فناء ، ولا يجوز أن يرى الباقي في الدار الفانية ، ولو رأوه في الدنيا لكان الإيمان به ضرورة ، وبالجملة أن الله تعالى أخبر أنها تكون في الآخرة ، ولم يخبر أنها تكون في الدنيا ، فوجب الانتهاء إلى ما أخبر الله تعالى به ، واختلفوا في النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - هل رأى ربه ليلة الإسراء ، فقال الجمهور منهم : إنه لم يره محمد - صلى الله تعالى عليه وسلم - ببصره ، واحتجوا بخبر عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : من زعم أن محمدا عليه الصلاة والسلام رأى ربه فقد كذب ، منهم : الجنيد والثوري وأبو سعيد الخراز . وقال بعضهم : رآه وأنه خص بين الخلائق بالرؤية ، واحتجوا بخبر ابن عباس وأسماء وأنس ، منهم : أبو عبد الله القرشي وبعض المتأخرين . وقال بعضهم : رآه بقلبه ولم يره ببصره ، واستدل بقوله تعالى : ما كذب الفؤاد ما رأى هذا وزعم بعض الناس أن قوما من الصوفية ادعوا الرؤية لأنفسهم ، فقد أطبق المشايخ على تضليل من قال ذلك ، وصنفوا في ذلك كتبا منهم : أبو سعيد الخراز له في إنكار ذلك كتاب ورسائل ، وكذا للجنيد في تكذيب من ادعاه رسائل وكلام كثير ، وأجمعوا على أن من ادعى ذلك لم يعرف الله سبحانه .




الخدمات العلمية