الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5711 - وعن أبي بن كعب رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا ، ولو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا " . متفق عليه .

التالي السابق


5711 - ( وعن أبي بن كعب قال : قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم : " إن الغلام الذي قتله الخضر " ) : بفتح فكسر ، وفي نسخة بكسر فسكون .

قال النووي - رحمه الله : جمهور العلماء على أنه حي موجود بين أظهرنا ، سيما عند الصوفية ، وأهل الصلاح ، والمعرفة . وحكاياتهم في رؤيته والاجتماع به ، والأخذ عنه وسؤاله وجوابه ، وحضوره في المواضع الشريفة ، ومواطن الخير أكثر من أن تحصى ، وصرح الشيخ أبو عمرو بن الصلاح بذلك ، وشذ من أنكره من المحققين .

قال الحميري المفسر ، وأبو عمرو : هو نبي ، واختلفوا في كونه مرسلا . وقال القشيري ، وكثيرون : هو ولي واحتج من قال بنبوته بقوله : ما فعلته عن أمري ، فدل على أنه أوحي إليه ، وبأنه أعلم من موسى عليه الصلاة والسلام ، ويبعد أن يكون الولي أعلم من النبي . وأجاب الآخرون : بأنه يجوز أن يكون قد ألقي إليه بطريق الإلهام ، كما ألقي إلى أم موسى في قوله تعالى : إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه قلت : فيه أن الوحي إلى أم موسى فيما يتعلق بتدبير خلاص الطفل حالة الاضطرار في أمره ، وأما حمل أمر الغلام على الإلهام إلى الولي فغير صحيح ، إذ لا يصح لأحد من الأولياء أن يقتل نفسا زاكية بغير نفس اعتمادا على الوحي الإلهامي بأنه طبع كافرا ، وقد قال الثعلبي المفسر : الخضر نبي معمر محجوب عن أكثر الأبصار . قال ، وقيل : إنه لا يموت إلا في آخر الزمان حين يرفع القرآن .

قلت : وقد تقدم أنه يقتله الدجال ، ثم ذكر أقوالا أنه من زمن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام أم بعده بقليل أو كثير ؟ قلت : ويروى أنه من أولاد آدم والله تعالى أعلم .

وفي ( الجامع الصغير ) : روى الحارث عن أنس : الخضر في البحر ، وإلياس في البر يجتمعان كل ليلة عند الردم الذي بناه ذو القرنين بين الناس وبين يأجوج ومأجوج ، ويحجان ويعتمران كل عام ، ويشربان من زمزم شربة تكفيهما إلى قابل . وفي ( الفتاوى الحديثية ) : رواه ابن عدي في الكامل : إن إلياس والخضر عليهما الصلاة والسلام يلتقيان في كل عام بالموسم ، فيحلق كل واحد منهما رأس صاحبه ، ويفترقان عن هؤلاء الكلمات : بسم الله ما شاء الله لا يسوق الخير إلا الله ، بسم الله ما شاء الله لا يصرف السوء إلا الله ، ما شاء الله ما كان من نعمة فمن الله ، ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله .

[ ص: 3647 ] ثم قوله : ( طبع كافرا ) أي : خلق الغلام على أنه يختار الكفر ، فلا ينافي خبر : " كل مولود يولد على الفطرة " إذ المراد بالفطرة استعداد قبول الإسلام ، وهو لا ينافي كونه شقيا في جبلته ، وقد روى ابن عدي في ( الكامل ) ، والطبراني في ( الكبير ) ، عن ابن مسعود مرفوعا : " خلق الله يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا ، وخلق فرعون في بطن أمه كافرا " . وفي الحديث المشهور أن بعد نفخ الروح في كل مولود يكتب شقي أو سعيد ، وعلى طبقة يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد ، وقد قال تعالى : أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهوائهم قال القاضي عياض - رحمه الله : في هذا حجة بينة لأهل السنة وصحة مذهبهم في أن العبد لا قدرة له على الفعل إلا بإرادة الله وتيسيره له ، خلافا للمعتزلة القائلين بأن للعبد فعلا من قبل نفسه ، وقدرة على الهدى والضلال ، وفيه أن الذين قضي لهم بالناس طبع على قلوبهم ، وختم عليها ، وجعل من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا ، أو حجابا مستورا ، وجعل في آذانهم وقرا ، وفي قلوبهم مرضا ، لتتم سابقته وتمضي كلمته ، لا راد لحكمه ولا معقب لأمره وقضائه وقد يحتج بهذا الحديث من يقول : إن أطفال الكفار في النار . قلت : الأولى التفصيل بأن من طبع منهم كافرا يكون في النار ، ومن ولد على الفطرة فهو في الجنة ، وبه يحصل الجمع بين أقوال الأئمة ، ويقارب القول بالتوقف الذي اختاره إمامنا الأعظم والله تعالى أعلم .

ويدل عليه قوله : ( ولو عاش ) أي : ذلك الغلام بأن أدرك الكبر ( لأرهق أبويه ) أي : لكلفهما ( طغيانا وكفرا ) أي : جعل سببا لإضلالهما ، فالحاصل أن علة قتله مركبة من كونه طبع كافرا ، وإنه لو فرض أنه عاش لكان مضلا فاجرا . قال النووي : ولما كان أبواه مؤمنين يكون هو مؤمنا . قلت : فكيف يجوز قتل المؤمن ؟ قال : فيجب تأويله بأن معناه والله سبحانه أعلم أن ذلك الغلام لو بلغ لكان كافرا ، ولو عاش لأرهق أبويه . أي : غشيهما طغيانا وكفرا . أي طغيانا عليهما وكفرا لنعمتهما بعقوقه ، أو معناه حملهما أن يتبعاه فيطغيا .

قال ابن الملك ، فإن قلت : خوف كفر أحد في المآل لا يبيح قتله في الحال ، فكيف قتله الخضر من خوف كفر ؟ قلت : يجوز أن يكون ذلك في شرعهم . قلت : تقرير الله تعالى ، وتقريره موسى صريح في ذلك ، بل على جواز مثل ذلك في شرعنا لو علم قطعا أنه طبع كافرا ، كما قرره صاحب الشرع في هذا الحديث ، فبطل كون الغلام مؤمنا حينئذ ، إذ لا يجوز قتل المؤمن من غير جنح إجماعا في جميع الأديان . قال : أو نقول هذا علم لدني ، وله مشرب آخر غير المعهود في الظاهر ، فلا نشتغل بكيفيته . قلت : لا مخالفة بين الشريعة والحقيقة في أحكام الطريقة ، ومن فرق بينهما ممن لم يصل إلى مرتبة الجمع نسب إلى الزندقة ، ثم إن الأمر لا يخلو عن أحد شيئين : فإن الخضر إن كان من أهل النبوة ، فلا بد أن يكون عمله على وفق الشريعة ، وإن كان من أهل الولاية ، فليس له أن يعتمد على علمه اللدني ، وإلهامه الغيبي في مثل هذه القضية العظمى ، والبلية الكبرى ، ثم في الحديث بيان الحكمة في قتل الخضر ، وكأنه خرج موضع الاعتذار عنه تصريحا بخلاف ما في الآية من الإشارة إلى ذلك تلويحا . ( متفق عليه ) .




الخدمات العلمية