الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5713 - وعنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " جاء ملك الموت إلى موسى ابن عمران ، فقال له : أجب ربك " . قال : " فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها " . قال : " فرجع الملك إلى الله ، فقال : إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت ، وقد فقأ عيني " قال : " فرد الله إليه عينه ، وقال : ارجع إلى عبدي فقل : الحياة تريد ؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور ، فما توارت يدك من شعره فإنك تعيش بها سنة ، قال : ثم مه ؟ ، قال : ثم تموت . قال : فالآن من قريب ، رب أدنني من الأرض المقدسة رمية بحجر " . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " والله لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جنب الطريق عند الكثيب الأحمر " . متفق عليه .

التالي السابق


5713 - ( وعنه ) أي : عن أبي هريرة ( قال : قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم : ( " جاء ملك الموت " ) أي : في صورة بشر ( إلى موسى بن عمران فقال له ) أي : لموسى عليه الصلاة والسلام ( أجب ربك ) أي : بقبول الموت ، والمعنى إني جئتك لأقبض روحك ( قال ) أي : النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ( فلطم موسى عين ملك الموت ) أي : ضربها بباطن كفه ( ففقأها ) . بفاء فقاف فهمزة مفتوحات أي : فشقها وقلعها وأعماها . قيل : الملائكة يتصورون بصورة الإنسان ، وتلك الصورة بالنسبة إليهم كالملابس بالنسبة إلى الإنسان ، واللطمة إنما أثرت في العين الصورية لا في العين الملكية ، فإنها غير متأثرة باللطمة وغيرها .

قال شارح : وإنما لطمها موسى لإقدامه على قبض روحه قبل التخيير ، والأنبياء كانوا مخيرين عند الله آخر الأمر بين الحياة والوفاة ، وسيأتي زيادة تحقيق لذلك . ( قال : " فرجع الملك إلى الله ، فقال : إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت ، فقد فقأ عيني " . قال : " فرد الله إليه عينه ، وقال : ارجع إلى عبدي ) : قال الطيبي - رحمه الله - فإن قلت أي فرق بين قول الملك عبد لك على التنكير ، وبين قول الله عبدي ؟ قلت : دل قول الملك على نوع طعن فيه حيث نكره ، وبينه بقوله : لا يريد الموت ، وقوله سبحانه : دل على تفخيم شأنه وتعظيم مكانه حيث أضافه إلى نفسه ردا عليه . ( فقال : الحياة ) : بالنصب على أنه مفعول قوله ( تريد ) ؟ على تقدير الاستفهام قبل الفعل ، أو المفعول ، ويمكن أن يقرأ : الحياء بهمزة ممدودة كما في قوله تعالى : قل آلذكرين حرم أم الأنثيين فالتقدير الحياة تريد أم الموت ؟ ثم فصله بقوله : ( فإن كنت تريد الحياة ) أي : الطويلة إذ المؤبدة غير متصورة في الدنيا لقوله تعالى : كل نفس ذائقة الموت ( فضع يدك ) أي : واحدة أو اثنتين ( على متن ثور ) أي : على ظهر بقرة ( فما توارت ) : وفي نسخة : فما وارت ( يدك ) : بالرفع وفي نسخة بالنصب وقوله : ( من شعرة ) : بيان لها ، وفي نسخة : من شعره بالضمير أي : من شعر متن الثور ( فإنك تعيش بها ) أي : بكل شعرة متوارية ( سنة ) ، واعلم أنه يقال : واراه الشيء أي ستره ، وتوارى أي استتر ، ومنه قوله تعالى : يتوارى من القوم فقال شارح قوله : فما توارت غلط وقع من بعض الرواة في كتاب مسلم ، وفي كتاب البخاري ، فله بما غطت يده بكل شعرة سنة . وقال القاضي : فما توارت يدك ، هكذا مذكور في صحيح مسلم ، ولعل الظاهر فما وارت يدك بالرفع ، وأخطأ بعض الرواة ، ويدل عليه ما رواه البخاري في صحيحه : فله بما غطت يدك بكل شعرة سنة . ويحتمل أن يكون يدك منصوبا بنزع الخافض ، وفي توارت ضمير رفع فأنثه لكونه مفسرا بالشعرة . قال الطيبي قوله : من شعرة بيان " ما " والضمير فيه راجع إلى متن ثور ، وما وارت يده قطعة منه ، فأنثه باعتبار القطعة أي القطعة التي توارت بيدك أو تحت يدك انتهى . وقيل : التاء الأولى زائدة لأن معناه وارت أي غطت ، ذكره الأكمل .

( قال ) أي : موسى ( ثم مه ) ؟ بفتح الميم وسكون الهاء ، وأصله ما حذفت ألفه ، ووقف عليه بالهاء للتعذر بين الحركة والسكون . قال النووي : هي هاء السكت ، وما : استفهامية أي : ثم ماذا يكون أحياة أم موت ؟ ( قال : ثم تموت . قال : فالآن من قريب ) ، أي فأختار الموت في هذه الحالة ( رب أدنني ) : أمر من الإدناء أي قربني ( من الأرض المقدسة ) : ولعله أراد أفضل مواضعها وهو المسمى ببيت المقدس الذي كان فيه قبلة الأنبياء ، وإلا فالأرض

[ ص: 3649 ] المراد أن يكون التقريب مقدار رمية واحدة بحجر ، ولذا قال ابن الملك أي : بمقدار ذلك . أقول : ولعله كان المقدسة تطلق على جميع أراضي الشام ( رمية بحجر ) . أي كرمية حجر ، والمراد السرعة ذكره شارح ، والظاهر أن في التيه ، فأراد التقريب إلى بيت الرب ، ولو بمقدار قليل من موضع دعائه ، أو من محل مطلوب . قال النووي - رحمه الله : وأما سؤاله الإدناء من الأرض المقدسة ، فلشرفها وفضيلة ما فيها من المدفونين من الأنبياء وغيرهم من الصالحين .

قالوا : وإنما سأل الإدناء ولم يسأل نفس بيت المقدس ، لأنه خاف أن يكون قبره مشهورا عندهم ، فيفتن به الناس .

قلت : وهذا بعيد جدا إذ لم يقع التفتن بقبر غيره من الأنبياء مع إمكان الفتنة في كل مكان ، بل فيه إشارة إلى أن المقبرة ينبغي أن تكون قرب القرية لا داخلها ، ولعل عمارة بيوت بيت المقدس كانت حينئذ قريبة إلى محل تربته عليه الصلاة والسلام ، وعلى كل ففيه استحباب الموت والدفن في المواضع الفاضلة ، والمواطن المباركة ، والقرب من مدافن أرباب الديانة .

( قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم : " والله لو أني عنده " ) أي : عند بيت المقدس ، وأبعد شارح حيث قال : لو أني عند موسى ( لأريتكم قبره إلى جنب الطريق ) أي : طريق الجادة من بيت المقدس إلى حواليه ( عند الكثيب الأحمر ) . أي التل المستطيل المجتمع من الرمل . ( متفق عليه ) . قال المازري : وقد أنكر بعض الملاحدة هذا الحديث قالوا : كيف يجوز على موسى فقء عين ملك الموت ؟ وأحالوا عن هذا بأجوبة . أحدها : أنه لا يمتنع أن يكون موسى عليه الصلاة والسلام قد أذن الله له في هذه اللطمة ، وأن يكون ذلك امتحانا بالملطوم ، والله سبحانه يفعل في خلقه ما يشاء ، ويمتحنهم بما يريد . قلت : ولا يخفى أنه بعيد . والثاني : أن هذا على المجاز ، والمراد أن موسى ناظره وحاجه فغلبه بالحجة ، يقال : فقأ فلان عين فلان إذا غلبه بالحجة . قال : وفي هذا ضعف لقوله - صلى الله تعالى عليه وسلم - فرد الله إليه عينه ، فإن قيل : أراد رد حجته كان بعيدا . والثالث : أن موسى لم يعلم أنه ملك من عند الله ، وظن أنه رجل قصده يريد نفسه فدفعه عنها ، فأدت المدافعة إلى فقء عينه ، وما قصدها بالفقء ، وهذا جواب الإمام أبي بكر بن حزم وغيره من المتقدمين ، واختاره القاضي عياض . قالوا : وأتاه في المرة الثانية بعلامة علم بها أنه ملك الموت ، فاستسلم له بخلاف المرة الأولى . قال ابن الملك في ( شرح المشارق ) ، فإن قيل : كيف صدر من موسى هذا الفعل ؟ أجيب : بأنه متشابه يفوض علمه إلى الله تعالى ، وبأن موسى لم يعرف أنه ملك الموت ، وظن أنه رجل قصد نفسه فدفعه عنها فأدت مدافعته إلى فقء عينه ، وهذا مختار المازري والقاضي عياض ، وأنكر الشيخ الشارح يعني الأكمل بأن هذا غير صحيح ، لأن الرجل الداخل لم يقصده بالمحاربة حتى يدفعه عنه ، بل دعاه إلى الموت ، وبمجرد هذا القول لا يصدر عن مؤمن صالح مثل هذا الفعل فما ظنك بموسى عليه الصلاة والسلام ؟ وأقول : إن موسى عليه السلام كان في طبعه حدة ، حتى روي أنه عليه الصلاة والسلام إذا غضب استعلت قلنسوته فإذا هجم عليه رجل فدعاه إلى الهلاك عرف أنه لا يكون إلا بالحرب ، فدفعه قبل قصده ، وذا يحتمل أن يكون جائزا في شرعه ، أو لأن موسى عليه الصلاة والسلام زعم أنه كاذب حين ادعى قبض روحه لزعمه أن بشرا لا يقبض الروح ، فغضب عليه فلطمه ، وكان هذا الغضب لله ، وفي الله ، فلم يكن مذموما ، ولهذا لم يعاقب الله موسى عليه السلام حين أخذ رأس هارون ولحيته ، وكان يجره مع أن هارون أكبر منه سنا وأجل قدرا عند علماء الأمة ، وقد قال - صلى الله تعالى عليه وسلم : " حق كبير الأخوة عليهم كحق الوالد على ولده " . قلت : هذا وجه حسن إلا أن قوله لزعمه غير مستحسن .

[ ص: 3650 ] قال : وما اختاره الشيخ الشارح في الجواب أن موسى عليه الصلاة والسلام يحتمل أن يكون مأذونا في حق اللطمة ، ويكون ذلك امتحانا للملطوم ، فلا يخفى بعده ، وفي شرح السنة : يجب على المسلم الإيمان به على ما جاء به من غير أن يعتبره بما جرى عليه عرف البشر ، فيقع في الارتياب ، لأنه أمر مصدره قدرة الله تعالى وحكمه ، وهو مجادلة جرت بين ملك كريم ونبي كليم ، كل واحد منهما مخصوص بصفة يخرج بها عن حكم عوام البشر ومجاري عاداتهم في المعنى الذي خص به ، فلا يعتبر حالهما بحال غيرهما ، وقد اصطفى الله - تعالى موسى بالمعجزات الباهرة والآيات الظاهرة ، فلما دنت وفاته وهو بشر يكره الموت طبعا لطف الله تعالى به بأن لم يفاتحه بغتة ، ولم يأمر الملك الموكل به بأن يأخذه قهرا ، بل أرسله على سبيل الامتحان في صورة بشر ، فلما رآه موسى عليه الصلاة السلام استنكر شأنه ، واستوعر مكانه احتجز منه دفعا عن نفسه بما كان من صكه إياه ، فأتى ذلك على عينه التي ركبت في الصورة البشرية ، وقد كان في طبع موسى عليه السلام حدة على ما قص الله علينا من أمره في كتابه ؟ من وكزه القبطي ، وإلقائه الألواح ، وأخذه برأس أخيه يجره إليه ، هذا وقد جرت سنة الدين بدفع كل قاصد سوء ، وقد ذكر الخطابي هذا المعنى في كتابه ردا على من طعن في هذا الحديث ، وأمثاله من أهل البدع الملحدين أبادهم الله تعالى .




الخدمات العلمية