الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثالث

5831 - عن عمرو بن سعيد ، عن أنس ، قال : ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان إبراهيم ابنه مسترضعا في عوالي المدينة فكان ينطلق ونحن معه فيدخل البيت وإنه ليدخن وكان ظئره قينا فيأخذه فيقبله ثم يرجع . قال عمرو : فلما توفي إبراهيم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " إن إبراهيم ابني وإنه مات في الثدي وإن له لظئرين تكملان رضاعه في الجنة . رواه مسلم .

التالي السابق


الفصل الثالث

5831 - ( عن عمرو بن سعيد ، عن أنس ) : كذا في النسخ المعتبرة والأصول المشتهرة ، ويؤيده ما في الكاشف . وفي نسخة : عن أنس عن عمرو بن سعيد ، والظاهر أنه سهو قلم ، وزلة قدم ، وقلب كلام لما في أسماء الرجال للمؤلف : هو عمرو بن سعيد مولى ثقيف بصري ، روى عن أنس وأبي العالية وغيرهما ، وعنه ابن عون وجرير بن حازم وعدة . ( قال : ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم ) ، قال النووي : هذا هو المشهور ، ويروى بالعباد . قلت : ويلائم الأول استئنافه البياني بقوله : ( كان إبراهيم ابنه مسترضعا ) : بفتح الضاد وقيل بكسرها ( في عوالي المدينة ) ، أي القرى التي عند المدينة ( فكان ) أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - ( ينطلق ونحن معه ، فيدخل البيت ) أي : الذي فيه إبراهيم ( فإنه ليدخن ) . بضم الياء وتشديد الدال وفتح الخاء ، وفي نسخة بسكون الدال ، وفي نسخة بفتح الياء وتشديد الدال وكسر الخاء ، ثم بين سببه بقوله : ( وكان ظئره قينا ) : وهو أبو سمين القين ، " ، واسمه البراء بن أوس الأنصاري ، وهو معروف بكنيته . قال النووي : الظئر بكسر الظاء مهموزة المرضعة ولد غيرها وزوجها ظئر لذلك المرضع ، والظئر يقع على الذكر والأنثى ، والقين : بالفتح الحداد ، ثم الجملتان حاليتان معترضتان بين المعطوف عليه ، وهو قوله : ( فيدخل البيت ) : والمعطوف ، وهو قوله : ( فيأخذه ) أي : ابنه ( فيقبله ثم يرجع . قال عمرو ) أي : ناقلا عن أنس خلافا لمن توهم أنه الراوي ، فإنه من التابعين على أنه يمكن أن يكون مقوله الآتي موقوفا عليه ، ومنقطعا عما قبله ، ( فلما توفي إبراهيم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " إن إبراهيم ابني " ) محط فائدة فائدته التقرير لأن أمه جارية ، وهي مارية القبطية ، أهداها المقوقس القبطي ، صاحب مصر والإسكندرية ، وولدت إبراهيم في ذي الحجة سنة ثمان ( " وأنه مات في الثدي " ) وهو كناية عن الرضاع ، أو المراد به اللبن ، وزوجته التي أرضعت إبراهيم أم بردة ، كذا ذكره المؤلف بذكر المحل وإرادة الحال . وقال الطيبي أي : في سن رضاع الثدي ، أو في حالة تغذيه بلبن الثدي ، ( " وإن له لظئرين " ) أي : لمرضعتين بدل واحدة في الدنيا ( " تكملان " ) : من باب الأفعال وفي نسخة من باب التفعيل أي : توفيان وتتممان ( " رضاعه " ) : بفتح الراء وتكسر أي : مدة رضاعه وهي الحولان ، فإنه توفي وله ستة عشر شهرا أو سبعة عشر ، وقيل : وله سبعون يوما فترضعانه بقية السنتين ( " في الجنة " ) . قال صاحب التحرير : وهذا الإتمام ، رضاع إبراهيم ، يكون عقيب موته فيدخل الجنة متصلا بموته ، فيتم فيها رضاعه كرامة له ولأبيه - صلى الله عليه وسلم . ( رواه مسلم ) .

وأما حديث : لو عاش إبراهيم لكان صديقا نبيا ، فأخرجه الماوردي عن أنس ، وابن عساكر عن جابر وابن عباس ، وعن ابن أبي أوفى . ورواه ابن سعد عن مكحول مرسلا : لو عاش إبراهيم ما رق له خال ، وروى ابن سعد عن الزهري مرسلا لو عاش إبراهيم لوضعت الجزية عن كل قبطي ، كذا ذكره الشيخ جلال الدين السيوطي في الجامع الصغير .

[ ص: 3721 ] وقال ابن الربيع في كتابه : ( تمييز الطيب من الخبيث ) : أخرج ابن ماجه وغيره من حديث ابن عباس قال : لما مات إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : إن له مرضعا في الجنة ، ولو عاش لكان صديقا نبيا ، ولو عاش أعتقت أخواله من القبط ، وما استرق قبطي . وفي سنده أبو شيبة إبراهيم بن عثمان الواسطي ، وهو ضعيف والله أعلم . انتهى .

وقال النووي في تهذيبه : وأما ما روي عن بعض المتقدمين حديث لو عاش إبراهيم لكان نبيا فباطل ، وجسارة على الكلام بالمغيبات ومجازفة وهجوم على عظيم . وقال ابن عبد البر في تمهيده : لا أدري ما هذا ، فقد ولد نوح غير نبي ، ولو لم يلد إلا نبيا لكان كل أحد نبيا لأنه من ولد نوح انتهى . وهو تعليل عليل إذ ليس في الكلام ما يدل على أن ولد النبي نبي بطريق الكلية ، ولا ضرر في تخصيص التقدير والفوضية ، مع أنه لا يستلزم وقوع المقدم في القضية الشرطية ، فلا ينافي كونه - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين ، فيقرب من قوله - صلى الله عليه وسلم - على ما رواه أحمد والترمذي والحاكم عن عقبة بن عامر مرفوعا لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب " والله سبحانه أعلم بما كان وما يكون ، وبما لا يكون ، وبأنه لو كان كيف يكون . هذا وقد قال شيخ مشايخنا العلامة الرباني الحافظ ابن حجر العسقلاني في الإصابة : وهذا عجيب من النووي ، مع وروده عن ثلاثة من الصحابة ، ولا يظن بالصحابي أن يهجم على مثل هذا بظنه . قلت : مع أنهم لم يقولوه موقوفا ، بل أسندوه مرفوعا ، كما بينه خاتمة الحفاظ السيوطي بأسانيده في رسالة على حدة ، مع أن من القواعد المقررة في الأصول أن موقوف الصحابي إذا لم يتصور أن يكون من رأي ، فهو في حكم المرفوع ، فإنكار النووي كابن عبد البر لذلك ، إما لعدم اطلاعهما أو لعدم ظهور التأويل عندهما . والله أعلم .




الخدمات العلمية