الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5844 - وعن عائشة رضي الله عنها ، أن الحارث بن هشام سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ! كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ( أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس ، وهو أشده علي ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال ، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني ، فأعي ما يقول ) . قالت عائشة : ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد ، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا . متفق عليه .

التالي السابق


5844 - ( وعن عائشة أن الحارث بن هشام ) : هو مخزومي ، أخو أبي جهل شقيقه ، أسلم يوم الفتح ، وكان من فضلاء الصحابة ، واستشهد في فتوح الشام . قال العيني : وأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة من الإبل . ( سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ! كيف يأتيك الوحي ) ؟ ظاهره أن الحديث من مسند عائشة ، وعليه اعتمد أصحاب .

[ ص: 3736 ] الأطراف ، فكأنها حضرت القصة ، ويحتمل أن يكون الحارث أخبرها بذلك بعد ، فيكون مرسل صحابي وحكمه الوصل اتفاقا ، ويؤيده أن في مسند أحمد وغيره من طريق عامر بن صالح الزهري عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة ، عن الحارث بن هشام ، قال : سألت ، وعامر فيه ضعف ، لكن له متابع عند ابن منده ( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم ) : ( أحيانا ) أي : في بعض الأحيان والأزمان ، قيل : وهو وقت إتيان الوعيد ( يأتيني ) أي : الوحي ( مثل صلصلة الجرس ) أي : إتيانا مثل صوته . قال الطيبي : يجوز أن يكون مفعولا مطلقا والأحسن أن يكون حالا أي : يأتيني الوحي مشابها صوته لصوت الجرس ، والصلصلة : صوت الحديد إذا حرك ( وهو ) أي : هذا النوع من الوحي ( أشده ) : أصعبه ( علي ) : وأتعبه إلي . قال العسقلاني : لأن الفهم من كلام الصلصلة أشكل من الفهم من كلام الرجل بالتخاطب المعهود على ما سيأتي ، ولعل في قوله تعالى : إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا إشارة إلى ذلك . قال الخطابي : يريد والله أعلم أنه صوت متدارك يسمعه ولا يثبته عند أول ما يقرع سمعه ، حتى يتفهم ويتثبت فيتلقفه حينئذ ويعيه ، ولذا قال : ( وهو أشده علي ) ( فيفصم عني ) : بفتح الياء وكسر الصاد أي : ينقطع عني ، وفي نسخة بضم الياء وكسر الصاد من أفصم الحمى والمطر أي : أقلع على ما في القاموس ، وفي نسخة أخرى بصيغة المجهول أي : يقلع عني كرب الوحي . قال العسقلاني قوله : فيفصم أي : الوحي أو الملك فكأنه جوز تقدير المضاف في الوحي السابق أي كيف يأتيك صاحب الوحي وهو الملك ثم قال وهو بفتح المثناة التحتية وسكون الفاء وكسر الصاد المهملة ، كذا لأبي الوقت من فصم يفصم من باب ضرب يضرب ، والمراد قطع الشدة أي : يقطع وينجلي ما يغشاني من الكرب والشدة ، ويروى : فيفصم بضم الياء وكسر الصاد من أفصم المطر إذا أقلع رباعي . قال في المفاتيح : وهي لغة قليلة ، وفي رواية أخرى : فيفصم بضم أوله وفتح ثالثه مبني للمفعول والفاء عاطفة ، والفصم القطع من غير بينونة ، فكأنه قال : إن الملك يفارقني ليعود حالي . ( وقد وعيت عنه ما قال ) ، جملة حالية وهو بغير العين أي : حفظت الذي ذكره ، فما موصولة والعائد محذوف ، ثم الوعي هنا قبل الإفصام ، وفيما بعد حال الكلام ، فلذلك ورد أولا ماضيا وثانيا حالا حيث قال : ( وأحيانا يتمثل ) أي : يتصور ويتشكل ( لي الملك رجلا ) أي : مثل رجل ( فيكلمني ، فأعي ما يقول ) . قال التوربشتي : هذا حديث يغالط فيه أبناء الصلابة ويتخذونه ذريعة إلى تضليل العامة وتشكيكهم ، وهو حق أبلج ، ونور يتوقد من شجرة مباركة يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار لا يغلط فيه إلا من أعمى الله عين قلبه .

وجملة القول في هذا الباب أن تقول : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - معينا بالبلاغ ، مهيمنا على الكتاب ، مكاشفا بالعلوم الغيبية ، مخصوصا بالمسامرات القلبية ، وكان يتوفر على الأمة حصتهم بقدر الاستعداد ، فإن أراد أن ينبئهم بما لا عهد لهم به من تلك العلوم صاغ لها أمثلة من عالم الشهادات ، ليعرفوا مما شاهدوه ما لم يشاهدوه ، فلما سأل الصحابي عن كيفية الوحي ، وكان ذلك من المسائل العويصة والعلوم الغريبة التي لا يكشف نقاب التعري عن وجهها لكل طالب ومتطلب ، وعالم ومتعلم ، ضرب لها في الشاهد مثلا بالصوت المتدارك الذي يسمع ولا يفهم منه شيء تنبيها على أن أنباءها يرد على القلب في لبسة الجلال ، وأبهة الكبرياء ، فتأخذ هيبة الخطاب حين ورودها بمجامع القلب ، ويلاقي في ثقل القول ما لا علم له بالقول مع وجود ذلك فإذا سري عنه وجد القول المنزل هنا ملقى في الروع ، واقعا موقع المسموع ، وهذا معنى قوله : ( فيفصم عني وقد وعيت ) ومعنى : يفصم يقلع عني كرب الوحي شبهه بالحمى إذا فصمت عن المحموم ، ويقال : أفصم المطر أي : أقلع ، وهذا الضرب من الوحي شبيه بما يوحى إلى الملائكة ، على ما رواه أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا قضى الله في السماء أمرا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله : كأنها سلسلة على صفوان فـ إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير .

[ ص: 3737 ] هذا وقد سبق لنا من حديث عائشة أن الوحي كان يأتيه على صفتين . أولهما أشد من الأخرى ، وذلك لأنه كان يرد فيها من الطباع البشرية إلى الأوضاع الملكية ، فيوحى إليه كما يوحى إلى الملائكة ، على ما ذكر في حديث أبي هريرة وهو حديث حسن صحيح ، والأخرى يرد فيها الملك إلى شكل البشر وشاكلته ، فكانت هذه أيسر . وقال الطيبي : لا يبعد أن يكون هناك صوت على الحقيقة متضمن للمعاني ، مدهش للنفس لعدم مناسبتها إياه ، ولكن القلب للمناسبة يشرب معناه ، فإذا سكن الصوت أفاق النفس ، فحينئذ يتلقى النفس من القلب ما ألقي إليه ، فيعي على أن العلم بكيفية ذلك من الأسرار التي لا يدركها العقل . في شرح مسلم قال القاضي عياض : إن ما جاء مثل ذلك مجرى على ظاهره ، وكيفية ذلك وصورته مما لا يعلمه إلا الله سبحانه ، ومن أطلعه الله على شيء من ذلك من ملائكته ورسله ، وما يتناول هذا ويحيله عن ظاهره إلا ضعيف النظر والإيمان ، إذ جاءت به الشريعة ودلائل العقول لا تحيله .

( قالت عائشة ) : قال الكرماني : يحتمل أن يكون داخلا تحت الإسناد المذكور ، سيما إذا جوزنا العطف بحذف حرف العطف ، وأن يكون غير داخل تحته ، بل كان ثابتا بإسناد آخر ذكره على سبيل التعليق تأييدا لأمر الشدة وتأكيدا له . قال العسقلاني : هو بالإسناد الذي قبله ، وإن كان بغير عطف . ( ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد ، فيفصم عنه وإن ) : بكسر الهمز والواو للحال أي : فينفصل الوحي عنه والحال أن ( جبينه ) أي : مقدم وجهه ( ليتفصد ) أي : ليتصبب ( عرقا ) . تمييز محول عن الفاعل ، والمعنى ليسيل عرقه مثل سيلان الدم من العرق المفصود . ( متفق عليه ) . ورواه الترمذي .




الخدمات العلمية