الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5847 - وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال : بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي عند الكعبة وجمع قريش في مجالسهم ، إذ قال قائل : أيكم يقوم إلى جزور آل فلان فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين يديه ؟ فانبعث أشقاهم فلما سجد وضعه بين يديه ، وبين كتفيه . وثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - ساجدا . فضحكوا حتى مال بعضهم على بعض من الضحك ، فانطلق منطلق إلىفاطمة ، فأقبلت تسعى ، وثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - ساجدا حتى ألقته عنه ، وأقبلت عليهم تسبهم ، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة قال : ( اللهم عليك بقريش ) ثلاثا وكان إذا دعا دعا ثلاثا ، وإذا سأل سأل ثلاثا : ( اللهم عليك بعمرو بن هشام ، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة ، وأمية بن خلف ، وعقبة بن أبي معيط ، وعمارة بن الوليد . قال عبد الله : فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر ، ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر . ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ( وأتبع أصحاب القليب لعنة ) . متفق عليه .

التالي السابق


5847 - ( وعن عبد الله بن مسعود قال : بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي عند الكعبة ) أي : قريبا منها ( وجمع قريش في مجالسهم ) ، أي : حال كون جمع من قريش في مجامعهم ( حول الكعبة إذ قال قائل ) أي : أبو جهل أو غيره ( أيكم يقوم ) أي : يتوجه ( إلى جزور آل فلان ) أي : بعيرهم ( فيعمد ) : بكسر الميم أي : فيقصد القائم ( إلى فرثها ) : وهو السرجين ما دام في الكرش على ما في الصحاح ، والضمير إلى الجزور ، فإنه وإن كان يطلق على الذكر والأنثى إلا أن اللفظة مؤنثة يقال : هذه الجزور ، وإن أردت ذكرا كذا في النهاية ( ودمها وسلاها ) : بفتح السين وتخفيف اللام ، وهو الجلد الرقيق الذي يخرج فيه الولد من بطن أمه ملفوفا فيه . وقيل : هو في الماشية السلاء وفي الناس المشيمة ، والأول أشبه لأن المشيمة تخرج بعد الولد ، ولا يكون الولد فيها حين يخرج كذا في النهاية . ( فانبعث ) أي : فقام وذهب إلى ما ذكر ، ( أشقاهم ) أي : أشقى كفار قريش ، وهو أبو جهل ، وقيل عقبة بن أبي معيط كذا ذكره شارح . وقال النووي : هو عقبة بن أبي معيط ، كما صرح به في الرواية الأخرى ، ( فلما سجد ) أي : النبي عليه السلام ( وضعه ) أي : ما ذكر ، والمعنى أحدها ، ولعله بهذا يحصل الجمع بين القولين السابقين ( بين كتفيه ، وثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - ساجدا ) ، أي : حال كونه مستمرا على سجوده ، ومستقرا على شهوده ، راضيا بقضائه ، [ ص: 3739 ] مسلما لأمره وحسن بلائه ؛ فهو في غاية من السرور ، ونهاية من الحضور الحاصل من قرب الرب ، وهم لبعدهم عن الحق المطلق ، وتعلقهم بالخلق غفلوا عن ذلك وأهلكوا هناك ، ( فضحكوا حتى مال بعضهم على بعض ) أي : واقعين وساقطين فوق بعضهم ( من الضحك ) ، أي : من كثرته الناشئة عن إعجابهم بفعلهم وتعجبهم من فعله - صلى الله عليه وسلم - ( فانطلق منطلق إلى فاطمة ) ، أي : وأخبرها بما جرى ( فأقبلت تسعى ) ، أي : حال كونها تسرع ، وهي صغيرة ، فإنها ولدت وعمره - صلى الله عليه وسلم - إحدى وأربعون سنة على ما في المواهب ( وثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - ساجدا ) : هو تأكيد لما قبله وتمهيد لما بعده ، وهو قوله : ( حتى ألقته ) أي : طرحته ( عنه ) : فاطمة وأبعدته منه ( وأقبلت ) أي : توجهت عليهم ( تسبهم ) ، أي : تشتمهم وتلعنهم وهم ساكتون عنها لصغرها ، ولعل هذا هو السبب في أن غيرها ما أقدم على هذا الفعل لما كان عسى أن تثور الفتنة المردية إلى القتال بين القبائل ، ( فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة ) أي : أداها وفرغ منها ( قال : ( اللهم عليك بقريش ) . الباء زائدة وعليك اسم فعل فالمعنى خذهم أخذا شديدا أخذ عزيز مقتدر ( ثلاثا ) . أي : كرره ثلاثا ( وكان ) أي : من عادته أنه ( إذا دعا ) أي : الله ( دعا ثلاثا ، وإذا سأل ) أي : طلب من الله ( سأل ثلاثا ) : فقيل هذا تأكيد لدعا ، والأظهر أنه تخصيص له ، هذا وفي شرح مسلم للنووي ، فإن قيل : كيف استمر في الصلاة مع وجود النجاسة على ظهره ؟ أجاب القاضي عياض : بأن ليس هذا بنجس ، لأن الفرث ورطوبة البدن طاهران ، وإنما النجس الدم ، وهو مذهب مالك ومن وافقه من أن روث ما يؤكل لحمه طاهر ، ومذهبنا ومذهب أبي حنيفة أنه نجس ، وهذا الذي قاله القاضي ضعيف ، لأن هذا السلا يتضمن النجاسة من حيث أنه لا ينفك عن الدم في الغالب ، ولأنه ذبيحة عباد الأوثان . قلت : يعني على تقدير أن تكون مذبوحة وإلا فميتة نجسة اتفاقا . وكان النووي غفل عن التصريح في الحديث بذكر الدم ، حتى تعلق بأن السلا لا ينفك عن الدم غالبا . ثم قال : والجواب المرضي أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يعلم ما وضع على ظهره ، فاستمر في سجوده استصحابا للطهارة . قلت : ورد بأنه لو كان كذلك لأخبره جبريل ، فإن الصلاة مع النجاسة لا تصح ، ولا بد من البيان في مثل ذلك . فالجواب : الصواب ما في شرح السنة . قيل : كان هذا الصنيع منهم قبل تحريم الأشياء من الفرث والدم وذبيحة أهل الشرك ، فلم تكن تبطل الصلاة بها كالخمر كانت تصيب ثيابهم قبل تحريمها . قال الطيبي : ولعل ثباته على ذلك كان مزيدا للشكوى ، وإظهارا لما صنع أعداء الله برسوله - صلى الله عليه وسلم - ليأخذهم أخذا وبيلا ، ولذا كرر الدعاء ثلاثا :

( اللهم عليك بعمرو بن هشام ) أي : خصوصا ، وهو ابن المغيرة المخزومي الجاهلي المعروف ، كان يكنى أبا الحكم ، فكناه النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا جهل ، فغلبت عليه هذه الكنية ، قتله ابنا عفراء ، وقطع رأسه ابن مسعود في بدر . ( وعتبة بن ربيعة ) : جاهلي ، قتله حمزة بن عبد المطلب يوم بدر مشركا ( وشيبة بن ربيعة ) ، أي : ابن عبد شمس بن عبد مناف ، جاهلي ، قتله علي بن أبي طالب يوم بدر مشركا ( والوليد بن عتبة ) ، أي : ابن ربيعة ، جاهلي قتل ببدر مشركا ( وأمية ) : بضم الهمز وفتح ميم وتشديد تحتية ( بن خلف ) ، بفتحتين ، قتل يوم بدر مشركا ، وأما أخوه أبي بن خلف ، فإنه قتل يوم أحد مشركا ، قتله النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده ، ذكره المؤلف في أسمائه ، ( وعقبة ) : بضم فسكون ( بن أبي معيط ) ، بالتصغير ( وعمارة ) : بضم فتخفيف ( بن الوليد . قال عبد الله : فوالله لقد رأيتهم ) أي : أبصرت المذكورين ( صرعى ) : هلكى ، وهو حال من المفعول أي : مصروعين حين ( يوم بدر ثم سحبوا ) : بصيغة المجهول أي : جروا ( إلى القليب ) : وهو البئر قبل أن تطوى ( قليب بدر ) ، بالجر على البدلية ، ويجوز رفعه ونصبه ، ثم بدر اسم موضع معروف ، وقيل : هو اسم رجل كان صاحب ذلك الموضع . قال العسقلاني : قد استشكل عد عمارة في المذكورين ، فإنه لم يقتل ببدر ، بل ذكر أصحاب المغازي أنه مات بأرض الحبشة ، والجواب : أن كلام ابن مسعود محمول على الأكثر ، ويدل عليه عقبة بن أبي معيط إنما قتل صبرا بعد أن رجعوا عن بدر ، وأمية بن خلف لم يطرح في القليب كما هو بل مقطعا .

[ ص: 3740 ] ( ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ( وأتبع ) : بصيغة المجهول مخففا ( أصحاب القليب لعنة ) . أي : أتبع عذابهم في الدنيا بعذاب الآخرة مثل قوله تعالى : وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة وفي نسخة بفتح الهمزة وكسر الموحدة ، ونصب أصحاب على الدعاء عليهم بإيصال اللعنة المتواصلة إليهم . قال العسقلاني : جملة وأتبع إلخ . يحتمل أن تكون من تمام الدعاء الماضي ؛ فيكون فيه علم عظيم من أعلام النبوة ، ويحتمل أن يكون قاله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن ألقوا في القليب . ( متفق عليه ) .




الخدمات العلمية