الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5860 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : إن ضمادا قدم مكة وكان من أزد شنوءة ، وكان يرقي من هذا الريح ، فسمع سفهاء أهل مكة يقولون : إن محمدا مجنون . فقال : لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي . قال : فلقيه . فقال : يا محمد ! إني أرقي من هذا الريح ، فهل لك ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ( إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أما بعد ) فقال : أعد علي كلماتك هؤلاء فأعادهن عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات فقال : لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء ، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء ، ولقد بلغن قاموس البحر ، هات يدك أبايعك على الإسلام ، قال : فبايعه . رواه مسلم . وفي بعض نسخ ( المصابيح ) : بلغنا ناعوس البحر وهو تصحيف ، وذكر حديثا أبي هريرة وجابر بن سمرة ( يهلك كسرى ) والآخر ( لتفتحن عصابة ) في باب ( الملاحم ) .

وهذا الباب خال عن الفصل الثاني

التالي السابق


5860 - ( وعن ابن عباس قال : إن ضمادا ) : بكسر الضاد ويضم وتخفيف الميم ودال في آخره ، ويروى ضمام بميم في آخره ( قدم مكة ) ، بكسر الدال أي : نزل بها من سفر ( وكان من أزد شنوءة ) : بفتح أوله وضم نون فواو ساكنة فهمزة فهاء ، قبيلة كبيرة من اليمن ، والأزد قبيلة منها . قال ابن الملك : هو بضم الضاد المعجمة وكسرها اسم رجل كان صديقا للنبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبعث . وقال المؤلف : هو ضماد بن ثعلبة الأزدي ، كان يتطيب ويطلب العلم أسلم في أول الإسلام ( وكان يرقي ) : بكسر القاف أي : يعالج الداء بشيء يقرأ ثم ينفث ( من هذا الريح ) ، قال الطيبي : الإشارة بهذا إلى جنس العلة له ، وذكره باعتبار الجنون . قال التوربشتي : الإشارة بهذا إلى جنس العلة التي كانوا يرونها الريح ، وكأنهم كانوا يرون أن الخبل الذي يصيب الإنسان ، والأدواء التي كانوا يرونها من مسة الجن نفحة من نفحات الجن فيسمونها الريح اهـ . وقال أبو موسى : الريح هنا بمعنى الجن سموا بها لأنهم لا يرون كالريح ( فسمع ) أي : ضماد ( سفهاء أهل مكة ) أي : جهالهم من الكفار ( يقولون : إن محمدا مجنون . فقال لو أني رأيت ) أي : أبصرت ( هذا الرجل ) أي : بالوصف المذكور لداويته ، فجواب ( لو ) مقدر ، والأظهر أن لو هذه للتمني كما يشير إليه قوله : ( لعل الله أن يشفيه على يدي ) . أي : بسببي ( قال ) أي : ابن عباس ( فلقيه ) أي : محمدا ( فقال : يا محمد ! إني أرقي من هذا الريح ، فهل لك ) ؟ أي : رغبة في أن أرقيك وأخلصك من الجنون ( فقال - صلى الله عليه وسلم - ( إن الحمد لله ) ، أي : ثابت له مختص به ، سواء حمد أو لم يحمد ( نحمده ) أي : لوجوبه علينا ولعود نفعه إلينا ( ونستعينه ) أي : في جميع أمورنا ( من يهده الله ) أي : إلى طريق توحيده وشهود تفريده بمقتضى فضله ( فلا مضل له ، ومن يضلل ) أي : ومن يضلله عن سواء السبيل بموجب عدله ( فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ) أي : منفردا وهو تأكيد لما قبله كقوله : ( لا شريك له ) ، أو المراد بالأول توحيد الذات ، وبالثاني تفريد الصفات ( وأشهد أن محمدا عبده ) أي : المختص المكرم ( ورسوله ) أي : المخصوص المعظم - صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 3750 ] وشرف وكرم ( أما بعد ) أي : وأراد أن يخطب له خطبة عظيمة وموعظة جسيمة تعجز عنه البلغاء ، ويتحير فيه الفصحاء ، ليعلم العقلاء أنهم بجنبه من المجانين والسفهاء ، ( قال : أعد علي كلماتك هؤلاء ) ، المتقدمة الدالة على جزالة الخاتمة ( فأعادهن عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات ) . يحتمل أن يكون التثليث بالأولى كما كان له العادة أو بغيرها ، كما يفيد حقيقة الإعادة مع زيادة المبالغة في مقام الإفادة وتمام الاستفادة ( قال ) أي : ضماد ( لقد سمعت قول الكهنة ) . بفتحتين جمع كاهن وهو المخبر عن الغيب بعبارات مسجعة وإشارات مبدعة ( وقول السحرة ) جمع ساحر وهو المخيل في العين والذهن من جهة قوله أو من أجل فعله ( وقول الشعراء ) ، جمع شاعر وهو المحلى باللسان في كل شأن حتى شان ما زان وزان ما شان ، يريد أنهم ينسبونك تارة إلى الكهانة ومرة إلى السحر ، وأخرى إلى الشعر ، وقد سمعت مقالة أصحابها ( فما سمعت ) أي : منهم ( مثل كلماتك هؤلاء ) . يعني فلو كنت منهم لأشبه كلامك كلامهم ، فإذا كان كلامه أبلغ من كلام هؤلاء ، فلا يعده مجنونا إلا السفهاء ، ثم إنهم كانوا يرون الكهان والسحرة والشعراء أهل البلاغة والمتصرفين في القول على أي أسلوب شاءوا ، فأشار بقوله هذا إلى الإعجاز أي : جاوز كلامك حد البلاغة ، وحاصله أنه - صلى الله عليه وسلم - قابل كلام ضماد بما تقدم ليظهر له كمال عقله ، ويتبين جهل أعدائه .

وقال الطيبي : طابق هذا القول منه - صلى الله عليه وسلم - قول ضماد من أنه لما سمع من سفهاء أهل مكة أن محمدا مجنون اعتقد أنه كذلك ، فقال : هل لك رغبة في الخلاص ؛ كأنه - صلى الله عليه وسلم - ما التفت إلى قوله ذلك ، وأرشده إلى الحق البحت والصدق المحض ، أي : إني لست بمجنون أتكلم كلام المجانين ، بل كلامي نحو هذا وأمثاله ، فتفكر فيه هل ينطق المجنون بمثل هذه الكلمات ونحوه . وقوله تعالى : ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين أي : إنهم جننوه لأجل القرآن ، وما هو إلا ذكر وموعظة للعالمين ، وكيف يجنن من جاء بمثله . قلت بل المجنون من غفل عن ذكر الحق واشتغل بكلام الخلق ، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - ( اذكروا الله حتى يقولوا مجنون ) ثم قال الطيبي : والعرب ربما استعملوا هؤلاء في غير العقلاء ، وقد شهد به التنزيل قال تعالى : إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا قال الشاعر :


ذم المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأيام

( ولقد بلغن ) أي : هؤلاء الكلمات الجامعات المحيطات بحروف كاللآلئ المنظومات التي يعجز الغواص عن إخراجها وإبرازها لما فيها من الدلالات البينة على إعجازها من كمال إيجازها ( قاموس البحر ) ، أي : معظم بحر الكلام ووسط لجة المرام ، والمعنى بلغت غاية الفصاحة ونهاية البلاغة . قال صاحب القاموس : القمس الغوص والغمس والقومس معظم ماء البحر كالقاموس والقاموس البحر أو أبعد موضع فيه غورا ( هات ) : بكسر التاء أي : إلخ ( يدك أبايعك ) : بالجزم جواب الأمر ( على الإسلام . قال ) أي : ابن عباس ( فبايعه ) . أي : النبي عليه الصلاة والسلام . ( رواه مسلم ) .

( وفي بعض نسخ المصابيح : بلغنا ) أي : بصيغة المتكلم مع الغير ( ناعوس البحر ) . بالنون والعين وهو تصحيف وتحريف ، حيث لم يذكر الناعوس في القاموس . قال التوربشتي : وفي كتاب المصابيح بلغنا وهو خطأ لا سبيل إلى تقويمه من طريق المعنى والرواية لم ترد له ، وناعوس البحر أيضا خطأ ، وكذلك رواه مسلم في كتابه وغيره من أهل الحديث ، وقد وهموا فيه ، والظاهر أنه سمع بعض الرواد أخطأ فيه ، فروي ملحونا وهذا من الألفاظ التي تسمع في لغة العرب ، والصواب فيه قاموس البحر ، وهو وسطه ومعظمه من القمس وهو الغوص والقماس الغواص . وقال الطيبي ، قوله : بلغنا خطأ إن أراد به من حيث الرواية ، فلا ننكره لأنا ما وجدناها في الأصول ، وإن أراد بحسب المبنى فمعناها صحيحة أي : قد وصلنا إلى لجة البحر ومحل اللآلئ والدر ، فيجب أن نقف عليه ونغوص فيه استخراجا لفوائده والتقاطا لفرائده قلت : الشيخ نفى المعنى اللغوي الحقيقي إذ ليس الكلام في المعنى المجازي الذي هو بإشارات الصوفية أشبه فتدبر وتنبه . قال : وأما قوله ( ناعوس البحر ) أيضا خطأ ، فليس بصواب ، أما رواية فقد قال الشيخ محيي الدين

[ ص: 3751 ] في شرح صحيح مسلم : ( ناعوس البحر ) ضبطاه بوجهين أشهرهما بالنون والسين ، وهذا هو الموجود في نسخ بلادنا ، والثاني قاموس البحر بالقاف والميم ، وهذا الثالث هو المشهور في روايات الحديث في غير صحيح مسلم . قلت هذا ما ينافي قول الشيخ ، فإنه لم ينكر وجوه النقل والرواية ، بل يطعن فيه من حيث اللغة والدراية . قال : وقال القاضي عياض : روى بعضهم ( ناعوس ) بالنون والعين . وقال شيخنا أبو الحسين : ناعوس البحر بمعنى قاموسه . قلت : وهذا يفيد أن القاموس هو الأشهر والأكثر ، وإنما جاء الناعوس في رواية ، وهو لكونه لا يستقيم في المعنى حمل على أنه بمعنى القاموس ، وإن لم يسمع في كلام العرب . قال : وفي النهاية قال أبو موسى : ( ناعوس البحر ) كذا وقع في صحيح مسلم ، وفي سائر الروايات ( قاموس البحر ) ، وهو وسطه ولجته ، ولعله لم يجود كيفيته ، فصحفه بعضهم ، وليست هذه اللفظة أصلا في مسند إسحاق بن راهويه الذي روى عنه مسلم هذا الحديث ، غير أنه قرنه بأبي موسى وروايته ، فلعلها فيها قال : وإنما أورد نحو هذه الألفاظ لأن الإنسان إذا طلبه ولم يجده في شيء من الكتب فتحير ، فإذا نظر في كتابنا عرف أصله ومعناه قلت : وهذا كله يؤيد الشيخ فيما قرره ، ويؤكد ما حرره من جهة عدم صحة ما يتعلق به من الرواية .

قال الطيبي : وأما دراية فقال القاضي ناصر الدين : ناعوس البحر معظمه ، وتحته الذي يغاص فيها لإخراج اللآلئ ، من نعس إذا نام لأن الماء من كثرته لا تظهر حركته ، فكأنه نائم . قلت : ثبت العرش ثم انقش الفرش ، فإن تحقيق الرواية مقدم على تدقيق الدراية ، مع أن هذا ليس معناه اللغوي ، بل تكلف وتعسف في تصحيحه بالمعنى المجازي ، فأنى يقاوم قول الشيخ ، وهذا من الألفاظ التي لم تسمع في لغة العرب ، وأغرب الطيبي حيث قال : ومن الجائز أن يكون الناعوس حقيقة في القاموس ، وكانت لغة عربية خفي مكانها فلم تنقل نقلا فاشيا اهـ . ولا يخفى أنه إن فتحنا باب الإمكان انسد طريق التحقيق في مكان ، والله المستعان .

( وذكر حديثا أبي هريرة وجابر بن سمرة ) : بإضافة الحديثين إلى الروايتين لفا ونشرا مرتبا ، والتقدير أحدهما ( يهلك كسرى ) أي : إلخ . ( والآخر ( لتفتحن عصابة ) أي : الحديث ( في باب الملاحم ) . متعلق بذكر ، ووجهه مرارا قرر ، وكذا حرر توجيه قوله : ( وهذا الباب خال عن الفصل الثاني ) .




الخدمات العلمية