الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5863 - وعن ثابت البناني ، عن أنس رضي الله عنه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أتيت بالبراق ، وهو دابة أبيض طويل ، فوق الحمار ودون البغل يقع حافره عند منتهى طرفه ، فركبته حتى أتيت بيت المقدس ، فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء ) . قال : ( ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ، ثم خرجت فجاءني جبرئيل بإناء من خمر ، وإناء من لبن ، فاخترت اللبن ، فقال جبرئيل : اخترت الفطرة ، ثم عرج بنا إلى السماء ) وساق مثل معناه قال : ( فإذا أنا بآدم ، فرحب ودعا لي بخير ) . وقال في السماء الثالثة : فإذا أنا بيوسف ، إذا هو قد أعطي شطر الحسن ، فرحب بي ودعا لي بخير ) . ولم يذكر بكاء موسى ، وقال في السماء السابعة : ( فإذا أنا بإبراهيم مسندا ظهره إلى البيت المعمور ، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، لا يعودون إليه ، ثم ذهب بي إلى السدرة المنتهى ، فإذا ورقها كآذان الفيلة ، إذا بها كالقلال ، فلما غشيها من أمر الله ما غشى تغيرت ، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها ، وأوحى إلي ما أوحى ، ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة ، فنزلت إلى موسى ، فقال : ما فرض ربك على أمتك ؟ قلت : خمسين صلاة في كل يوم وليلة . قال : ارجع إلى ربك فسله التخفيف ; فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فإني بلوت بني إسرائيل وخبرتهم قال : ( فرجعت إلى ربي ، فقلت : يا رب ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍خفف على أمتي ، فحط عني خمسا ، فرجعت إلى موسى ، فقلت : حط عني خمسا . قال : إن أمتك لا تطيق ذلك ، فارجع إلى ربك فسله التخفيف ) . قال : ( فلم أزل أرجع بين ربي وبين موسى ، حتى قال : يا محمد ! إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة ، لكل صلاة عشر ، فذلك خمسون صلاة ، من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشرا ، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب له شيئا ، فإن عملها كتبت له سيئة واحدة ) . قال : ( فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته ، فقال : ارجع إلى ربك فسله التخفيف ) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فقلت قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه ) . رواه مسلم .

التالي السابق


5863 - ( وعن ثابت البناني ) : بضم الموحدة قبل النون الأولى ، تابعي من أعلام أهل البصرة وثقاتهم ، اشتهر بالرواية عن أنس بن مالك ، وصحبه أربعين سنة ، وروى عنه نفر . ( عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أتيت بالبراق ، وهو دابة أبيض طويل ) ، أي وسلطاني لقوله : ( فوق الحمار ودون البغل يقع حافره عند منتهى طرفه ) ، أي نظره ( فركبته حتى أتيت بيت المقدس ) ، بفتح الميم وسكون القاف وكسر الدال ، ويروى بضم الميم وفتح القاف وتشديد الدال المفتوحة ( فربطته بالحلقة ) : بسكون اللام ويفتح . قال النووي : هي بسكون اللام على اللغة الفصيحة المشهورة ، وحكي فتحها ( التي يربط ) : بالتذكير ويجوز تأنيثه ، وهو بكسر الموحدة ويضم ، ففي القاموس : ربطه يربطه ويربطه شده ، وفي الصحاح : ربطت الشيء أربطه وأربطه أيضا عن الأخفش انتهى . فعلم أن الضم لغة ضعيفة ، ولهذا أجمع القراء على الكسر في قوله تعالى : وليربط على قلوبكم ثم قوله : ( بها ) : بضمير المؤنث في جميع نسخ المشكاة ، وهو ظاهر . وفي شرح مسلم : الحلقة التي يربط به ، كذا هو في الأصول بضمير المذكر أعاده على معنى الحلقة ، وهو الشيء أي الذي يربط به ، والمعنى بالشيء الذي يربط به ( الأنبياء ) . أي براقهم ، أو هذا البراق على خلاف تقدم ، نعم لو كان المروي يربط الأنبياء بها لوقع الاتفاق على اتحاد البراق .

( قال : ( ثم دخلت المسجد ) أي : المسجد الأقصى ، وهذا المقدار من الإسراء مما أجمع عليه العلماء ، وإنما خلاف المعتزلة في الإسراء إلى السماء بناء على منع الخرق والالتئام تبعا لكلام الحكماء اللئام ، ( فصليت فيه ركعتين ) أي : تحية المسجد ، والظاهر أن هذه هي الصلاة التي اقتدى به الأنبياء وصار فيها إمام الأصفياء ( ثم خرجت ) أي : من المسجد ( فجاءني جبريل بإناء من خمر ، وإناء من لبن ) ولعل ترك العسل من اقتصار الراوي ( فاخترت اللبن ) ، أي لما سبق ( فقال جبريل : اخترت الفطرة ) ، أي التي فطر الناس عليها ، وهو : الدين القيم كما قال تعالى . وأشار إليه - صلى الله عليه وسلم - بقوله : ( كل مولود يولد على الفطرة ) انتقالا مما يفطر به المولود ، ويغذى من اللبن المعهود . ( ثم عرج ) : بفتح العين والراء على ما ذكره النووي ، وتبعه السيوطي فالفاعل جبريل أو الرب الجليل لقوله : ( بنا ) أي : بي وبجبريل ، ويمكن أن يكون قوله : ( بنا ) بناء على التعظيم ، وفي نسخة بصيغة المجهول أي : صعد بنا ( إلى السماء وساق ) أي : وذكر ثابت الحديث عن أنس ( مثل معناه ) . أي نحو معنى الحديث السابق برواية قتادة عن أنس .

( قال ) أي : النبي عليه السلام أو ثابت أو أنس مرفوعا ( فإذا أنا بآدم فرحب بي ) أي : قال لي بعد رد سلامي : مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح . ( ودعا لي بخير ) . يحتمل أن يكون بيانا لقوله : فنعم المجيء جاء ، وأن يكون غيره غير مبين ، ( وقال في السماء الثالثة : ( فإذا أنا بيوسف إذا هو ) : بدل من الأول في معنى بدل [ ص: 3766 ] الاشتمال ( قد أعطي شطر الحسن ) ، قال المظهر أي : نصف الحسن . أقول : وهو محتمل أن يكون المعنى نصف جنس الحسن مطلقا ، أو نصف حسن جميع أهل زمانه . وقيل بعضه لأن الشطر كما يراد به نصف الشيء قد يراد به بعضه مطلقا . أقول : لكنه لا يلائمه مقام المدح وإن اقتصر عليه بعض الشراح ، اللهم إلا أن يراد به بعض زائد على حسن غيره ، وهو إما مطلق فيحمل على زيادة الحسن الصوري دون الملاحة المعنوية لئلا يشكل نبينا - صلى الله عليه وسلم - وإما مقيد بنسبة أهل زمانه وهو الأظهر ، وكان الطيبي - رحمه الله - أراد هذا المعنى ، لكنه أغرب في المبنى حيث عبر عنه بقوله : وقد يراد به الجهة أيضا نحو قوله تعالى : فول وجهك شطر المسجد الحرام أي إلى جهة من الحسن ومسحة منه ، كما قال : على وجهه مسحة ملك ومسحة جمال . أي : أثر ظاهر ، ولا يقال ذلك إلا في المدح اهـ . وغرابته مما لا تخفى على ذوي النهى ، هذا وقد قال بعض الحفاظ من المتأخرين ، وهو من مشايخنا المعتبرين : أنه - صلى الله عليه وسلم - كان أحسن من يوسف عليه السلام إذ لم ينقل أن صورته كان يقع من ضوئها على جدران ما يصير كالمرآة يحكي ما يقابله ، وقد حكي عن صورة نبينا - صلى الله عليه وسلم - لكن الله تعالى ستر عن أصحابه كثيرا من ذلك الجمال الباهر ، فإنه لو برز لهم لم يطيقوا النظر إليه كما قاله بعض المحققين ، وأما جمال يوسف عليه السلام فلم يستر منه شيء اهـ .

وهو يؤيد ما قدمناه من أن زيادة الحسن الصوري ليوسف عليه الصلاة والسلام ، كما أن زيادة الحسن المعنوي لنبينا - صلى الله عليه وسلم - مع الاشتراك في أصل الحسن على أنه قد يقال : المعنى أعطي شطر حسني ( فرحب بي ودعا لي بخير ) . ولم يذكر ) أي : ثابت عن أنس في هذا الحديث ( بكاء موسى ، وقال في السماء السابعة ) أي : زيادة على ما سبق ( فإذا أنا بإبراهيم مسندا ) : بكسر النون منصوبا على الحال في جميع نسخ المشكاة مطابقا لما في صحيح مسلم وشرحه وشرح السنة ، وفي المصابيح مرفوع على حذف المبتدأ وقوله : ( ظهره ) : منصوب على المفعولية لكلتا النسختين وقوله : ( إلى البيت المعمور ) ، متعلق بالمسند ( وإذا هو ) أي : البيت المعمور ( يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، لا يعودون إليه ) ، أي إلى البيت المعمور . قال الطيبي : الضمير المجرور فيه عائد إلى البيت المعمور أي : يدخلون فيه ذاهبين غير عائدين إليه أبدا لكثرتهم ( ثم ذهب بي ) : بصيغة الفاعل ، وفي نسخة للمفعول أي انطلق بي ( إلى السدرة المنتهى ) ، هكذا وقع في الأصول السدرة بالألف واللام ، وفي الروايات بعد هذا سدرة المنتهى كذا في شرح مسلم ، ( فإذا أوراقها كآذان الفيلة ، وإذا ثمرها كالقلال ، فلما غشيها ) أي : السدرة ، وهو بكسر الشين المعجمة وفتح التحتية أي : جاءها ونزل عليها ( من أمر الله ) : بيانية مقدمة أو تعليلية معترضة ( ما غشى ) أي : غشيها إيماء إلى قوله تعالى : فغشاها ما غشى فقيل : أنوار أجنحة الملائكة ، وقيل فراش الذهب . قال القاضي : ولعله مثل ما يغشى الأنوار التي تنبعث منها ، ويتساقط على مواقعها بالفراش ، وجعلها من الذهب لصفاتها وإضاءتها في نفسها ، أو ألوان لا يدري ما هي وهو الأظهر ( تغيرت ) أي : السدرة عن حالتها الأولى إلى مرتبتهـا الأعلى وهو جواب لما . ( فما أحد من خلق الله ) أي : من مخلوقاته .

[ ص: 3767 ] وسكان أرضه وسماواته ( يستطيع أن ينعتها ) : بفتح العين أي يصفها ( من حسنها ) : تعليلية أي : من كمال جمالها وعظمة جلالها ( وأوحى إلي ما أوحى ) : في إبهام الموصلة أو الموصوفة إيماء إلى تعظيم الموحي ، وإنه من قبيل ما لا يحكى ولا يروى ، ( ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة ، فنزلت إلى موسى ) أي : منتهيا إليه ( فقال : ما فرض ربك على أمتك ؟ قلت : خمسين صلاة ) : وزيد في نسخة صحيحة : في كل يوم وليلة ( قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك فإني بلوت ) أي : جربت ( بني إسرائيل وخبرتهم ) أي : أخبرتهم وامتحنتهم .

( قال : فرجعت إلى ربي فقلت : يا رب ! خفف على أمتي ) أي : عنهم وعدل إلى على لتضمين التهوين ( فحط عني ) أي : فوضع عن جهتي ولأجلي عن أمتي ( خمسا ) أي : خمس صلوات ، ولعل التقدير خمسا فخمسا ، فيوافق رواية عشرا ، والأظهر أن رواية عشرا اقتصار من رواية خمسا ، ويؤيده قوله : ( فرجعت إلى موسى فقلت : حط عني خمسا . قال : إن أمتك لا تطيق ذلك ) أي : المقدار الباقي أيضا ( فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ) . قال : ( فلم أزل أرجع بين ربي وبين موسى ) : قال النووي : معناه بين الموضع الذي ناجيته أولا فناجيته ثانيا ، وبين موضع ملاقاة موسى أولا ( حتى قال ) أي : سبحانه وتعالى : ( يا محمد ! إنهن خمس صلوات ) أي : محتمة ( كل يوم وليلة ) . قال الطيبي : الضمير فيه مبهم يفسره الخبر كقوله :

هي النفس ما حملتها تتحمل ( لكل صلاة ) أي : حقيقة واختيارا ( عشرا ) أي : ثواب صلوات أي : حكما واعتبارا ( فذلك ) أي فمجموع ما ذكر ( خمسون صلاة ) ، ثم استأنف ببيان قضية أخرى وعطية أخرى متضمنة لهذه الجزئية المندرجة في القاعدة الكلية حيث قال : ( من هم بحسنة ) أي : عزم على فعلها ( فلم يعملها ) : لمانع شرعي أو عذر عرفي ( كتبت ) : بصيغة المجهول أي : كتب له هم الحسنة والتأنيث من إضافته إلى الحسنة ، أو من قبيل حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ( له ) أي : لعاملها ( حسنة ) ، النصب أي ثواب حسنة واحدة . قال الطيبي : كتبت مبني على المفعول والضمير فيه راجع إلى قوله : بحسنة . وحسنة : وضعت موضع المصدر أي : كتبت الحسنة كتابة واحدة ، وكذا عشرا وكذا شيئا منصوبان على المصدر على ما في جامع الأصول ، وشرح السنة ، وفي بعض نسخ المصابيح : حسنة وعشر مرفوعان وهو غلط من الناسخ . أقول : لعله من جهة الرواية ، وأما من طريق الدراية فله وجه في الجملة ، وهو أن يكون قوله : كتبت له جملة مستقلة مجملة ، وقوله : حسنة بتقدير هي جملة مبينة

[ ص: 3768 ] مفصلة ( فإن عملها ) أي : بعدما هم بها واهتم بشأنها ( كتبت ) أي : تلك الحسنة المهمومة والمعمولة ( له عشرا ) أي : ثواب عشر حسنات لانضمام قصد القلب إلى مباشرة عمل القالب ، كقوله تعالى : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وهذا أقل التضاعف في غير الحرم المحترم ( ومن هم بسيئة ) أي : ولم يصمم على فعلها ( فلم يعملها ) أي : فتركها من غير باعث أو لسبب مباح بخلاف ما إذا تركها لله ( لم تكتب ) أي : تلك السيئة الموصوفة ( له شيئا ) . أما لو تركها وقد عزم على عملها ، فإن تركها لله فلا شك أنها تكتب له حسنة ، وإن تركها لغرض فاسد ، فتكتب له سيئة على ما بينه حجة الإسلام في الإحياء ، وصرح به كثير من العلماء ، ( فإن عملها كتبت ) أي : له كما في نسخة صحيحة ( سيئة واحدة ) . لأن السيئة لا تتضاعف بحسب الكمية كما قال تعالى : ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون إشارة إلى أن هذا عدل كما أن التضاعف فضل .

( قال : فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته ، فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( فقلت قد رجعت إلى ربي ) أي : وراجعته في أمر أمتي ( حتى استحييت منه . رواه مسلم ) .




الخدمات العلمية