الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5894 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال : بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقسم قسما أتاه ذو الخويصرة ، وهو رجل من بني تميم ، قال : يا رسول الله ! اعدل . قال : ( ويلك فمن يعدل إذا لم أعدل ؟ ) قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل ) فقال عمر : ائذن لي أن أضرب عنقه . قال : دعه ، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم ، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، ينظر إلى نصله ، إلى رصافه إلى نضيه وهو قدحه ، إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء ، قد سبق الفرث والدم ، آيتهم رجل أسود ، إحدى عضديه مثل ثدي المرأة ، أو مثل البضعة تدردر ، ويخرجون على خير فرقة من الناس ) . قال أبو سعيد : أشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه ، فأمر بذلك الرجل فالتمس ، فأتي به ، نظرت إليه على نعت النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي نعته .

وفي رواية : أقبل رجل غائر العينين ، ناتئ الجبهة ، كث اللحية ، مشرف الوجنتين محلوق الرأس ، فقال : يا محمد اتق الله . فقال : ( فمن يطع الله إذا عصيته ! فيأمنني الله على أهل الأرض ولا تأمنوني ) فسأل رجل قتله ، فمنعه ، فلما ولى قال : ( إن من ضئضئ هذا قوما يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية ، فيقتلون أهل الإسلام ، ويدعون أهل الأوثان ، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ) . متفق عليه .

التالي السابق


5894 - ( وعن أبي سعيد الخدري ) : رضي الله عنه ( قال : بينما نحن ) أي : حاضرون ( عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقسم قسما ) : قال التوربشتي : القسم مصدر قسمت الشيء فانقسم سمي الشيء المقسوم ، وهو الغنيمة بالمصدر ، والقسم بالكسر الحظ والنصيب ، ولا وجه للمكسورة في الحديث ، لأنه يختص بما إذا تفرد نصيب ، وهذا القسم كان في غنائم خيبر قسمها بالجعرانة . ( أتاه ذو الخويصرة ) : تصغير الخاصرة ( وهو رجل من بني تميم ) : قبيلة كبيرة شهيرة ونزل فيه قوله تعالى : ومنهم من يلمزك في الصدقات فهو من المنافقين وسيجيء أنه من أصله يخرج الخوارج ، وأما قول شارح : هو رئيس الخوارج ففيه مسامحة إذ أول ظهورهم في زمن علي كرم الله وجهه . ( فقال : يا رسول الله ! اعدل ) : الظاهر أنه أراد بذلك التورية كما هو عادة أهل النفاق بأن يراد بالعدل التسوية ، أو قسمة الحق اللائق بكل أحد من العدل الذي في مقابل الظلم ، لكنه - صلى الله عليه وسلم - علم بنور النبوة أو ظهور الفراسة أو قرينة الحال ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان في إعطائه يرى قدر الحاجة والفاقة وغيرها من المصلحة ، فتعين أنه أراد المعنى الثاني ، ولأن التسرية في مكان ينبغي التفاضل نوع من الظلم فغضب عليه . ( فقال : ويلك فمن يعدل إذا لم أعدل . قد خبت ) : بكسر الخاء المعجمة وسكون الموحدة وتاء الخطاب أي : حرمت المقصود ( وخسرت ) : على الخطاب أيضا ( إن لم أكن أعدل ) : قال التوربشتي : وإنما رد الخيبة والخسران إلى المخاطب على تقدير عدم عدل منه ، لأن الله تعالى بعثه رحمة للعالمين ، وبعثه ليقوم بالعدل فيهم ، فإذا قدر أنه لم يعدل فقد خان المعترف بأنه مبعوث إليهم ، فخاب وخسر ، لأن الله لا يحب الخائنين فضلا من أن يرسلهم إلى عباده انتهى . وخلاصته أنه إذا حكم ذلك القائل بأنه لا يعدل فقد خاب القائل وخسر بهذا الحكم .

( فقال عمر : ائذن لي أضرب عنقه ) . بالجزم وجوز رفعه ، وفي نسخة صحيحة : أن أضرب عنقه ( فقال : دعه ) ، أي اتركه في شرح السنة : كيف منع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتله ، مع أنه قال : لئن أدركتهم لأقتلنهم . قيل : إنما أباح قتلهم إذا كثروا ، وامتنعوا بالسلاح ، واستعرضوا الناس ، ولم تكن هذه المعاني موجودة حين منع من قتلهم ، وأول ما نجم ذلك في زمان علي رضي الله عنه ، وقاتلهم حتى قتل كثيرا منهم انتهى . والأظهر ما ذكره الأكمل حيث قال : فيه دلالة على حسن أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - وأنه ما كان ينتقم لنفسه لأنه قال : ( اعدل ) . وفي رواية : اتق الله ، وفي أخرى : إن هذه القسمة ما عدل فيها ، وكل ذلك يوجب القتل إذ فيه النقص للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولهذا لو قاله أحد في عصرنا لحكم بكفره أو ارتداده انتهى . وهو لا ينافي تعليل منعه عن قتله بقوله : ( فإن له أصحابا ) أي : أتباعا سيوجدون

[ ص: 3797 ] من نعتهم ( أنه يحقر أحدكم صلاته ) ، أي كمية وكيفية ( مع صلاتهم ) أي : في جنب صلاتهم المزينة المحسنة للرياء والسمعة ( وصيامه مع صيامهم ) ، أي في نوافل أيامهم . قال شارح : فيه تنبيه على أنهم يصلون وأنه نهى عن قتل المصلين انتهى . وفيه أنه ليس هذا النهي على إطلاقه ( يقرءون القرآن ) : استئناف بيان أي : يداومون على تلاوته ، ويبالغون في تجويده ، وترتيله ، ومراعاة مخارج حروفه وصفاته ( لا يجاوز تراقيهم ) ، أي : حال كونهم لا يتجاوز مقروءهم عن حلوقهم ، وهو كناية عن عدم صعود عملهم ، ونفي قبول قراءتهم . قال شارح : والتراقي جمع ترقوة ، وهي العظام بين نقرة الحلق والعاتق ، يريد أنه لا يتخلص عن ألسنتهم وآذانهم إلى قلوبهم وأفهامهم . وقال القاضي أي : لا تتجاوز قراءتهم عن ألسنتهم إلى قلوبهم ، فلا تؤثر فيها ، أو لا تتصاعد من مخرج الحروف وحيز الصوت إلى محل القبول والإنابة ( يمرقون ) : بضم الراء أي : يخرجون ( من الدين ) أي : من طاعة الإمام ، أو من أهل الإسلام ، ويمرون عليه سريعا من غير حظ وانتفاع به ، ( كما يمرق السهم من الرمية ) ، بتشديد التحتية فعيلة بمعنى مفعولة وهي الصيد ، ويقال : مرق السهم من الرمية إذا خرج من الجانب الآخر ، أي : خروج السهم ، ومروره بجميع أجزائه وتنزهه عن التلوث بما يمر عليه من فرث ودم . قال شارح : شبههم في ذلك بالرمية لاستحياشهم عما يرمون به من القول النافع ، ثم وصف المشبه به في سرعة تخلصه وتنزهه عن التلوث بما يمر عليه من فرث ودم ليبين المعنى المضروب له بقوله : ( ينظر إلى نصله ) ، بصيغة المجهول ( إلى رصافه ) : بضم الراء ويكسر بدل وهو عصب يلوى فوق مدخل النصل ( إلى نضيه ) : بفتح فكسر فتشديد ( وهو قدحه ) ، بكسر القاف ، وهو ما جاوز الريش إلى النصل من النضو ، لأنه بري حتى صار نضوا ، فهو مجاز باعتبار ما كان ، وهو جملة معترضة من كلام الراوي تفسير للنضي ، ثم قوله : ( إلى قذذه ) : من كلامه - صلى الله عليه وسلم - وهو جمع قذة بضم القاف وتشديد الذال المعجمة ريش السهم . قال القاضي : أخرج متعلقات الفعل على سبيل التعداد لا التنسق ( فلا يوجد فيه ) أي : في السهم ، أو في كل واحد من المذكورات ( شيء ) أي : من الفرث والدم ، والحال أن السهم أو كل واحد منها ( قد سبق الفرث والدم ) ، أي مر عليهما ، والمعنى كما نفذ السهم في الرمية بحيث لم يتعلق به شيء من الروث والدم ، دخول هؤلاء في الإسلام ، ثم خروجهم منه سريعا بحيث لم يؤثر فيهم ، هذا وقيل : المراد بالنصل القلب الذي هو المؤثر والمتأثر ، فإذا نظرت إلى قبله ، فلا تجد فيه أثرا مما شرع فيه من العبادة وبالرصاف الصدر الذي هو محل الانشراح بالأوامر والنواهي ، فلم يشرح لذلك ، ولم يظهر فيه أثر السعادة ، وبالنضي البدن ، والمعنى أن البدن وإن تحمل لتكاليف الشرع من الصلاة والصوم وغير ذلك ، لكنه لم يحصل له منه فائدة وبالقذة أطراف البدن التي هي بمنزلة الآلات لأهل الصناعات أي : لن يحصل له بها ما يحصل لأهل السعادات ، ( آيتهم ) أي : علامة أصحابه الكائنة فيهم الكامنة منهم ( رجل أسود ) أي : ظاهرا وباطنا ( إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة ) : بفتح الموحدة أي قطعة اللحم وأو للتخيير في التشبيه أو للشك من الراوي ( تدردر ) بحذف إحدى التاءين أي : تضطرب وتجيء وتذهب ، وقال الطيبي أي : تحرك وتزحزح مارا أو جائيا انتهى . وظاهره أنه جعله فعلا ماضيا ، وهو خلاف ما عليه الأصول المضبوطة ( ويخرجون ) : عطف على يمرقون ( على خير فرقة ) . أي في زمانهم ( من الناس ) : يريد عليا وأصحابه رضي الله عنهم . وفي رواية : على حين فرقة بضم الفاء فعلى بمعنى ( في ) أي : يظهرون في حين تشتت أمر الناس واضطراب أحوالهم وظهور المحاربة فيما بينهم .

( قال أبو سعيد ) أي : الخدري راوي الحديث ( أشهد ) أي : أحلف ( أني سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه ) ، أي : فهو ومن معه خير الفرقة ( فأمر ) أي : علي ( بذلك الرجل ) أي : بطلب ذلك الرجل الذي آيتهم وعلامتهم ( فالتمس ) بصيغة المجهول أي فطلب وأخذ ( فأتي به حتى نظرت إليه على نعت النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي نعته ) . أي سابقا .

[ ص: 3798 ] ( وفي رواية ) : قال ابن الملك أي : بدل أتاه ذو الخويصرة في أول الحديث ( أقبل رجل غائر العينين ) : اسم فاعل من الغور أي : غارت عيناه ودخلتا في رأسه ( ناتئ الجبهة ) : بكسر الفوقية بعدها همز أي مرتفعها ( كث اللحية ) : بفتح فتشديد مثلثة أي كثيفها ( مشرف الوجنتين ) أي : عالي الخدين ( محلوق الرأس ) أي : لادعاء المبالغة في النظافة والتأكيد في قطع التعلق ، وهو مخالفة ظاهرة لما عليه أكثر أصحابه - صلى الله عليه وسلم - من إبقاء شعر رأسه ، وعدم حلقه إلا بعد فراغ النسك ، غير علي كرم الله وجهه ، فإنه كان يحلق كثيرا لما قدمنا سببه ووجهه ، ( فقال : يا محمد ! اتق الله ) أي : في قسمك ( فقال : فمن يطع الله ) أي : يتقيه من أمتي ( إذا عصيته ) أي : مع عصمتي وثبوت نبوتي ( فيأمنني الله ) أي : يجعلني أمينا ( على أهل الأرض ولا تأمنوني ) : بتشديد النون ويخفف ، والخطاب على وجه العتاب لذي الخويصرة وقومه ( فسأله رجل ) : وهو عمر رضي الله عنه كما سبق ( قتله ) ، أي تجويزه ( فمنعه ) ، أي لما تقدم ( فلما ولى ) أي : الرجل ( قال : إن من ضئضئ هذا ) : بكسر معجمتين وهمزتين يبدل أولهما أي : من أصله ونسبه وعقبه على ما في النهاية . وقال التوربشتي : من ذهب إلى أنهم يتولدون منه ، فقد أبعد ، إذ لم يذكر في الخوارج قوم من نسل ذي الخويصرة ، ثم إن الزمان الذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا القول إلى أن نابذ المارقة عليا رضي الله عنه وحاربوه لا يحتمل ذلك ، بل معناه أن من الأصل الذي هو منه في النسب ، أو من الأصل الذي هو عليه في المذهب . ( قوما يقرءون القرآن لا يجاوز ) أي : مقروءهم ( حناجرهم ) أي : ظواهرهم ، ولا يؤثر في بواطنهم ( يمرقون من الإسلام ) أي : من كماله ، أو من انقياد الإمام . استدل به من كفر الخوارج ، وقال الخطابي : المراد بالإسلام هنا طاعة الإمام ( مروق السهم ) أي : كخروجه سريعا ( من الرمية ) أي : من غير انتفاع بها ( فيقتلون أهل الإسلام ) أي : لتكفيرهم إياهم بسبب ارتكاب الكبائر ( ويدعون ) : بفتح الدال أي : يتركون ( أهل الأوثان ) ، أي : أهل عبادة الأصنام وغيرهم من الكفار ( لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ) . أراد بقتل عاد استئصالهم بالهلاك ، فإن عادا لم تقتل ، وإنما أهلكت بالريح ، واستؤصلت بالإهلاك . قيل : دل الحديث على جواز القتل عند اجتماعهم وتظاهرهم ، ولذلك منع من قتل ذلك الرجل انتهى . وفيه أن منع قتله لم يكن لانفراده ، بل لسبب آخر بيانه تقدم ، والله أعلم . ( متفق عليه ) .




الخدمات العلمية