الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5908 - وعن أنس - رضي الله عنه - قال : قال أبو طلحة لأم سليم : لقد سمعت صوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضعيفا أعرف فيه الجوع ، فهل عندك من شيء ؟ فقالت : نعم ، فأخرجت أقراصا من شعير ، ثم أخرجت خمارا لها فلفت الخبز ببعضه ثم دسته تحت يدي ولاثتني ببعضه ، ثم أرسلتني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذهبت به ، فوجدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ومعه الناس فقمت عليهم ، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أرسلك أبو طلحة ؟ ) . قلت : نعم . قال : ( بطعام ؟ ) قلت : نعم . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن معه : ( قوموا ) . فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة . فأخبرته ، فقال أبو طلحة : يا أم سليم قد جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس وليس عندنا ما نطعمهم فقالت : الله ورسوله أعلم .

فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو طلحة معه . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( هلمي يا أم سليم ! ما عندك ) فأتت بذلك الخبز ، فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففت ، وعصرت أم سليم عكة فأدمته ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه ما شاء الله أن يقول ، ثم قال : ( ائذن لعشرة ) فأذن لهم ، فأكلوا حتى شبعوا ، ثم خرجوا ، ثم قال : ائذن لعشرة فأذن لهم ، فأكلوا حتى شبعوا ، ثم خرجوا ، ثم قال : ائذن لعشرة ، فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ، ثم خرجوا . ثم قال : ( ائذن لعشرة ثم لعشرة ) فأكل القوم كلهم وشبعوا ، والقوم سبعون أو ثمانون رجلا
. متفق عليه .

وفي رواية لمسلم أنه قال : ( ائذن لعشرة ) فدخلوا فقال : ( كلوا وسموا الله ) فأكلوا حتى فعل ذلك بثمانين رجلا ، ثم أكل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل البيت وترك سؤرا .

وفي رواية للبخاري قال : " أدخل علي عشرة " حتى عد أربعين ثم أكل النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعلت أنظر هل نقص منها شيء ؟ . وفي رواية لمسلم : ثم أخذ ما بقي فجمعه ، ثم دعا فيه بالبركة فعاد كما كان . فقال : ( دونكم هذا ) .

التالي السابق


5908 - ( وعن أنس قال أبو طلحة لأم سليم ) : وهي أم أنس زوجة أبي طلحة ( لقد سمعت صوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضعيفا أعرف فيه الجوع ، فهل عندك من شيء ) ؟ أي : ولو قليلا من المأكول ( فقالت : نعم ، فأخرجت أقراصا من شعير ، ثم أخرجت خمارا لها ) : وهو ما تستر المرأة به رأسها ( فلفت الخبز ببعضه ، ثم دسته ) ، أي : خبأته وأخفته ( تحت يده ) ، أي : يد أنس ، ففي النهاية يقال : دسه إذا أدخله في الشيء بقهر وقوة ( ولاثتني ) : بالثاء المثلثة ، أي : عممتني ( ببعضه ) ، أي : ببعض الخمار وهو الطرف الآخر منه . قال القاضي ، أي : عممتني أو لففتني من اللوث وهو لف الشيء بالشيء ، وإدارته عليه اهـ . وفيه دلالة على كمال قلة الخبز . ( ثم أرسلتني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذهب به ) ، أي بالخبز إليه ( فوجدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ) . قال العسقلاني : المراد بالمسجد هو الموضع الذي أعده النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلاة فيه حين محاصرة الأحزاب للمدينة في غزوة الخندق ، ومعه الناس أي : الكثير وهم ثمانون رجلا على ما سيأتي . ( فسلمت عليهم ) ، أي : بلفظ الجمع وقصد الجميع ( فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أرسلك ) : بهمزة مقدرة وقال العسقلاني : همزة ممدودة للاستفهام أي : أبعثك ( إلي أبو طلحة ؟ قلت : نعم ) . وهو لا ينافي إرسال أمه لأن مؤداهما واحد ، ومآلهما متحد ، ولعله - صلى الله عليه وسلم - عدل عن ذكرها احتشاما ، أو لأن أبا طلحة هو الباعث الأول فتأمل فإنه المعول . ( قال : بطعام ؟ قلت : نعم ) . والتفريق إما للتفهيم أو بحسب تدريج الوحي والتعليم ( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن معه : قوموا ) : قال ابن حجر : ظاهره أنه صلى الله - صلى الله عليه وسلم - فهم أن أبا طلحة استدعاه إلى منزله ، فلذا قال لمن حوله : قوموا ، وأول الكلام يقتضي أن أم سليم ، وأبا طلحة أرسلا الخبز مع أنس ، فيجمع بأنهما أرادا إرسال الخبز مع أنس أن يأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - فيأكله ، فلما وصل أنس ، ورأى كثرة الناس استحى وظهر له أن يدعو النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقوم معه وحده إلى المنزل ، فيحصل مقصودهم من إطعامه ، ويحتمل أن يكون ذلك على رأي من أرسله عهد إليه إذا رأى كثرة الناس دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - خشية أن لا يكفيهم ذلك الشيء ، وقد عرفوا إيثار النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه لا يأكل وحده ، وقد وجدت أكثر الروايات تقتضي أن أبا طلحة استدعى النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الواقعة .

قلت : هذا الكلام كله غير مستقيم على المنهج القويم ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - لما عرف بنور الوحي أن أبا طلحة أرسل أنسا بطعام وأخبره به ، كيف يفهم أن أبا طلحة استدعاه إلى منزله ؟ ثم قوله : وأول الكلام يقتضي إلخ . ليس في محله لأنه صريح في ذلك المرام لا مقتضى الكلام ، ثم لا دلالة للاستحياء والاستدعاء المنسوبين لأنس ، لأنه ليس له ولاية ذلك ، ولا على رأي من أرسله لأنه لو كان بأمر أبي طلحة لما حصل له فزع واضطراب بمأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه ، فالصواب أنه - صلى الله عليه وسلم - أراد إظهار المعجزة ، وهو إشباع جمع كثير بخبز قليل ، ومنضمة إلى معجزة أخرى ، وهي قضية العكة الآتية في بيت أبي طلحة وأنس وأمه ليحصل لهم بركة عظيمة بحسن نيتهم ، وإخلاص طويتهم ، وآداب خدمتهم ، ويكون نظير ما تقدم والله أعلم .

( قال أنس : فانطلق ) ، أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من الناس . ( وانطلقت بين أيديهم ) ، أي : قدامهم كهيئة الخادم والمضيف أو مسرعا لإيصال الخبر لقوله ( حتى جئت أبا طلحة فأخبرته ) ، أي : بإتيانهم فقال أبو طلحة يا أم سليم قد جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس ، أي : معهم ( وليس عندنا ما نطعمهم ) ، أي : غير ما أرسلناه إليه وثم جمع كثير ، فكيف نقدم لهم شيئا قليلا ؟ ( فقالت : الله ورسوله أعلم ) . أي فلا بد من ظهور بعض الحكم . قال النووي : فيه منقبة

[ ص: 3807 ] عظيمة لأم سليم ، ودلالة على عظم دينها ورجحان عقلها وقوة يقينها ، تعني أنه - صلى الله عليه وسلم - علم قدر الطعام ، فهو أعلم بالمصلحة ، ولو لم يعلم المصلحة لما فعلها ، ( فانطلق أبو طلحة ) ، أي : مسارعا ( حتى لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو طلحة معه ) ، أي : حتى دخلا على أم سليم والناس وراءهما ( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هلمي يا أم سليم ) . أي : عجلي وأحضري ( ما عندك ) . أي من الخبز ( فأتت بذلك الخبز فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم - ) : أو أبا طلحة أو غيره بالخبز يعني بتفتيته ( ففت ) : بصيغة المجهول الماضي أي : جعل فتيتا أي قطعا صغارا مفتوتا قال شارح : أو هو أمر مخاطب ، ولعل تقديره فأمر به وقال : ففت ( وعصرت أم سليم عكة فأدمته ) : بفتح الهمزة وفي نسخة بمدها ، أي : جعلت ما خرج من العكة وهو السمن إداما لذلك الفتيت ( ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه ) : أي في ذلك الخبز مع الإدام أو فيما ذكر من الخبز والإدام ( ما شاء الله أن يقول ) ، أي : من الدعاء أو الأسماء .

( وفي رواية ثم قال : باسم الله ، اللهم أعظم فيهما البركة . ثم قال ) ، أي : لأبي طلحة أو لأنس أو لغيرهما ( ائذن لعشرة ) : وإنما أذن لعشرة عشرة ليكون أرفق بهم ، فإن القصعة التي فيها الطعام لا يتحلق عليها أكثر من عشرة إلا بضرر يلحقهم لبعدها عنهم ، ذكره الطيبي . وقيل : إنما لم يأذن للكل مرة واحدة ; لأن الجمع الكثير إذا نظروا إلى طعام قليل يزداد حرصهم على الأكل ، ويظنون أن ذلك الطعام لا يشبعهم ، والحرص عليه يمحق البركة ، ويمكن أن يكون بناء على أن الجمع الجليل إذا أبصروا الطعام القليل لآثر بعضهم بعضا على أنفسهم ، أو استحيوا من الأكل الكثير ، واستقلوا في أكلهم ، ولم يحصل لهم مرادهم من القوة في الشجاعة ، وعلى أداء الطاعة ، وقيل : لضيق المنزل ، ( فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ، ثم قال : ائذن لعشرة ثم لعشرة ) أي : وهلم جرا ( فأكل القوم كلهم وشبعوا ، والقوم سبعون أو ثمانون رجلا ) .

قال ابن حجر : كذا وقع هنا بالشك ، وفي غير هذه الجزم بالثمانين ، وفي رواية بضعة وثمانين ، وفي رواية ابن أبي ليلى : فعل ذلك بثمانين رجلا . وفي رواية عند أحمد ، قلت : كم كانوا ؟ قال : كانوا نيفا وثمانين ، ولا منافاة بينها لاحتمال أن يكون ألغى الكسر ، لكن في رواية عند أحمد حتى أكل منه أربعون وبقيت كما هي ، وهذا يؤيد التغاير ، وأن القضية متعددة . قلت : القضية متحدة ، والجمع بأن الجمع الأول كانوا أربعين ، ثم لحقهم أربعون أخر ممن كانوا وراءهم ، أو وقع منه - صلى الله عليه وسلم - دعاءهم . ( متفق عليه ) .

( وفي رواية لمسلم أنه قال : ائذن لعشرة ) : فدخلوا فقال : ( كلوا وسموا الله ، فأكلوا حتى فعل ذلك بثمانين رجلا ، ثم ) ، أي : بعد فراغ أكل أصحابه ( أكل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل البيت ، وترك سؤرا ) : بضم سين وسكون همز ويبدل ، وجزم التوربشتي وقال : هو بالهمز أي بقية .

( وفي رواية للبخاري قال : أدخل علي عشرة حتى عد أربعين ، ثم أكل النبي صلى الله عليه وسلم - ) . أي : من غير انتظار للأربعين الأخر ، ليحصل بركته للطرفين من الأربعين ، أو المعنى ثم بعد فراغ الكل أكل ، ( فجعلت أنظر ) ، أي : أتفكر وأتردد وأتأمل ( هل نقص منها شيء ) ؟ أي أم لا . فلا يظهر نقص أصلا .

[ ص: 3808 ] ( وفي رواية لمسلم : ثم أخذ ما بقي فجمعه ثم دعا فيه بالبركة ، فعاد كما كان فقال ) ، أي : لأهل البيت ( دونكم هذا ) أي : خذوه . قال التوربشتي : فإن قيل : كيف تستقيم هذه الروايات من صحابي واحد ففي إحداها يقول : ترك سؤرا ، وفي الأخرى يقول : فجعلت أنظر هل نقص منها شيء ، وفي الثالثة : ثم أخذ ما بقي فجمعه الحديث ؟ قلنا : وجه التوفيق فيهن هين بين ، وهو أن نقول : إنما قال وترك سؤرا باعتبار أنهم كانوا يتناولون منه ، فما فضل منه سماه سؤرا ، وإن كان بحيث يحسب أنه لم ينقص منه شيء ، أو أراد بذلك ما فضل عنهم بعد أن فرغوا منه . وقيل : أخبر في الأولى أنه دعا فيه بالبركة ، وفي الثانية يحكيه على ما وجده عليه بعد الدعاء ، وعوده إلى المقدار الذي كان عليه قبل التناول ، والثالثة لا التباس فيها على ما ذكرناه .




الخدمات العلمية