الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 578 ] 686 - وعن أبي هريرة - رضى الله عنه - ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أقيمت الصلاة ، فلا تأتوها تسعون ، وائتوها - تمشون وعليكم السكينة . فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا ) . متفق عليه . وفي رواية لمسلم : ( فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة ) . وهذا الباب خال عن الفصل الثاني .

التالي السابق


686 - ( وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ) حال أي : لا تأتوا إلى الصلاة مسرعين في المشي ، وإن خفتم فوت الصلاة ، كذا قاله بعض علمائنا . وقال الطيبي : لا يقال هذا مناف لقوله تعالى : فاسعوا لأنا نقول : المراد بالسعي في الآية القصد ، يدل عليه قوله تعالى : وذروا البيع أي : اشتغلوا بأمر المعاد ، واتركوا أمر المعاش . قال الحسن : ليس السعي منحصرا على الأقدام ، لكن على النيات والقلوب . اهـ .

يعني : ليس السعي الكامل ، أو ليس السعي منحصرا على الأقدام ; بل المدار على تحصيل الإخلاص في وصول المرام ، والنهي ( إنما هو عن الإسراع المفضي إلى تشتت البال وعدم استقامة الحال ، ولذا قال : ( وائتوها تمشون ) أي : بالسكينة والطمأنينة التي مدار الطاعة عليهما ، إذ المقصود من العبادة الحضور مع المعبود . قال ابن حجر : وهو أبلغ في النهي من : لا تسعوا لتصويره حالة سوء الأدب ، وأنه مناف لما هو أولى به من الوقار والسكينة ، ومن ثم عقبه بما ينبه على حسن الأدب فقال : وائتوها حال كونكم تمشون لقوله تعالى وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا والأظهر أنه عليه السلام لم يقل : إذا أقيمت الصلاة فلا تسعوا لظهور إعطاء ظاهر المعارضة لقوله تعالى : ( أكبركم " ) : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا ولإبهام ترك الإتيان مطلقا ، فبين أن السعي له معنيان ، أحدهما : الإتيان على طريقة الهرولة وهو مكروه ، وثانيهما : الإتيان على سبيل المشي والسكينة وهو مستحب ، وحاصله أن السعي بمعنى الجد والجهد في الأمر ، ومنه قوله تعالى : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وقوله تعالى : فاسعوا في آية الجمعة بمعنى : امضوا كما قرأ به ، أو بمعنى اقصدوا كما قاله الحسن .

قال ميرك نقلا عن الأزهار : إن قلت قوله : " فلا تأتوها تسعون وائتوها تمشون " ، ما هذا إلا كما تقول : لا تأكل لحم الفرس ، ولكن كل لحم الحيوان وهو كلام ضعيف قلت : لا نسلم ضعفه ، لأن المراد لحم حيوان غيره ، وإن سلم فالقيد موجود في الحديث ، وهو قوله : ( وعليكم السكينة ) مع أن السعي قد يكون مشيا كقوله تعالى : فاسعوا إلى ذكر الله وقد يكون عدوا كقوله تعالى : وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى وقد يكون عملا كقوله تعالى : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ثم من خاف التكبيرة الأولى فقيل : إنه يسرع ، فإن عمر - رضي الله عنه - سمع الإقامة بالبقيع فأسرع إلى المسجد ، وقيل : إنه يهرول ، ومنهم من اختار أن يمشي على وقار للحديث ، لأن من قصد الصلاة فكأنه في الصلاة ، وذلك إذا لم يقع منه تقصير اهـ .

والأظهر الإسراع مع السكينة دون العدو إحرازا للفضيلتين ، ولقوله تعالى : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم قال ابن حجر : أما الجمعة فإذا لم تدرك بإدراك ركوعها الثاني إلا بالسعي فإنه يجب السعي ; لأن للوسيلة حكم المقصد ، وهو هنا واجب علينا ، فوجبت وسيلته كذلك . اهـ .

وينبغي أن يكون كذلك عندنا إذا لم يدرك الإمام قبل السلام ، ولعله تعالى قال : فاسعوا لهذا المعنى ، ثم السكينة نصب على أنه مفعول بها أي : الزموا السكينة ، قاله ابن الملك . وفي نسخة بالرفع على الابتداء ، وفي بعض الروايات جمع بين السكينة والوقار فقيل : هما بمعنى ، والحق أن السكينة التأني في الحركات واجتناب العبث ونحو ذلك ، والوقار في الهيئة وغض البصر وخفض الصوت والإقبال على طريقه من غير التفات ، ونحو ذلك ، قاله الطيبي . والأظهر أن المراد بالسكينة سكون القلب وحضوره وخشوعه وخضوعه وأمثال ذلك ، وبالوقار سكون القالب من الهيئات الغير المناسبة للسالك ( فما أدركتم ) الفاء جواب شرط محذوف أي : إذا بينت لكم ما هو أولى بكم فما أدركتم فصلوا ، ويحصل لكم الثواب كاملا ، وبإطلاقه أخذ جماعة من العلماء أن الجماعة تدرك بأي جزء أدرك قبل سلام الإمام ، ويحصل للمأموم فضل الجماعة وهو السبع والعشرون درجة ، لكن من أدركها من أولها تكون درجته أكمل . ( وما فاتكم فأتموا ) فيه دليل على أن ما أدركه المرء من صلاة إمامه هو أول صلاته ; لأن لفظ الإمام يقع على باقي شيء تقدم أوله ، وإلى هذا ذهب الشافعي ، وأحمد قاله ابن الملك . ‌‌50 [ ص: 579 ] قال الطيبي : وهو مذهب علي وأبي الدرداء . قلت : وإليه ذهب أبو حنيفة إلا في القراءة . قال ابن حجر : وهو مذهب جمع من الصحابة والتابعين ، وقال آخرون : ما أدركه معه هو آخر صلاته لرواية : " ما فاتكم فاقضوا " ، ورد بأن حقيقة القضاء هنا غير متأتية ، فتعين حملها على رواية الإمام الصريحة فيما ذهبنا إليه . ( متفق عليه ) .

( وفي رواية لمسلم : ( فإن أحدكم ) تعليل لقوله : وعليكم السكينة ( إذا كان يعمد ) بكسر الميم أي : يقصد ( إلى الصلاة فهو في صلاة ) : أي : حكما وثوابا وقصدا ومآبا ، وفي نسخة : " في الصلاة " كما في المصابيح . قال ابن الملك : هو في الصلاة من حين قصدها ; لأن المشارف للشيء كأنه فيه ، وهذا إذا لم يقصر في التأخير اهـ . قلت : ولو وقع تقصير في التأخير فبقصده يرتفع التقصير ، فيكون بمنزلة الغائب عن المعائب .

( وهذا الباب ) أي : بالنسبة إلى تبويب صاحب المشكاة ، وإلا فهو في المصابيح : فصل ( خال عن الفصل الثاني ) لأنه لم يجد صاحب المصابيح في السنن أحاديث حسانا مناسبة لهذا الفصل ، - والله أعلم - .




الخدمات العلمية