الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
692 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه ، إلا المسجد الحرام ) . متفق عليه .

التالي السابق


692 - ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( صلاة ) : التنكير للوحدة : أي صلاة واحدة ( في مسجدي هذا ) : أي : مسجد المدينة لا مسجد قباء . قال النووي : يعني أن يتحرى الصلاة فيما كان مسجدا في حياته عليه السلام ، لا فيما زيد بعده ، فإن المضاعفة تختص بالأول . ووافقه السبكي وغيره ، واعترضه ابن تيمية وأطال فيه ، والمحب الطبري وأوردا آثارا استدلا بها ، وبأنه سلم في مسجد مكة أن المضاعفة لا تختص بما كان موجودا في زمنه صلى الله عليه وسلم ، وبأن الإشارة في الحديث إنما هي لإخراج غيره من المساجد المنسوبة إليه عليه السلام ، وبأن الإمام مالكا سئل عن ذلك ، فأجاب بعدم الخصوصية وقال : لأنه عليه السلام أخبر بما يكون بعده وزويت له الأرض ، فعلم بما يحدث بعده ، ولولا هذا ما استجاز الخلفاء الراشدون أن يستزيدوا فيه بحضرة الصحابة ، ولم ينكر ذلك عليهم ، وبما في تاريخ المدينة عن عمر رضي الله عنه أنه لما فرغ من الزيادة قال : لو انتهى إلى الجبانة . وفي رواية : إلى ذي الحليفة لكان الكل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لو زيد في هذا المسجد ما زيد كان الكل مسجدي ) وفي رواية : لو بني هذا المسجد إلى صنعاء كان مسجدي . هذا خلاصة ما ذكره ابن حجر في الجوهر المنظم في زيارة القبر المكرم ، والله أعلم . ( خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ) : فإن الصلاة فيه أفضل من ألف صلاة في مسجدي كذا ذكره ابن الملك . قال الطيبي : قيل : الاستثناء يحتمل أن الصلاة في مسجدي لا تفضل الصلاة في المسجد الحرام بألف بل بدونها ، ويحتمل أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل ، ويحتمل المساواة أيضا .

قلت : لكن الحديث الآتي في آخر الفصل الثاني ، يدفع الاحتمالين للطرفين ; فإنه قال : ( صلاة في مسجدي بخمسين ألف صلاة ، وصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة ) . رواه ابن ماجه ، والله أعلم . ( متفق عليه ) : ورواه النسائي قاله ميرك .

[ ص: 586 ] قال ابن حجر : وفهم منه المالكية أفضلية المدينة على مكة ، قالوا : ومعناه إلا المسجد الحرام ; فإن الصلاة بمسجد المدينة أفضل منها بمسجد مكة بدون الألف ، وهو غفلة عن بقية الأحاديث المبطلة لما فهموه ، بل معناه إلا المسجد الحرام ; فإن الصلاة فيه تفضل الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأضعاف مضاعفة ، كما صرح به في خبر أحمد ، والبزار . وصحيح ابن حبان ، من حديث حماد بن زيد ، عن حبيب المعلم ، عن عطاء ، عن عبد الله بن الزبير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجدي هذا بمائة ألف صلاة ) . وإسناده على شرط الشيخين .

ولما صححه ابن عبد البر من أئمة المالكية قال : إنه الحجة عند التنازع . وقال أيضا : إنه حديث ثابت لا مطعن فيه لأحد إلا المتعسف لا يعرج على قوله في حبيب المعلم ، وقد كان الإمام أحمد يمدحه ويوثقه ويثني عليه ، وكان ابن مهدي ، ويزيد بن زريع ، وحماد بن زيد ، وعبد الوهاب الثقفي وغيرهم - يروون عنه ، وهم أئمة علماء يقتدى بهم ، وبقية رجال إسناده أئمة ثقات ، ومنهم من علله بالاختلاف على عطاء ; لأن قوما يروونه عنه ، عن ابن الزبير ، وآخرين عنه عن ابن عمر ، وآخرين عنه عن جابر ، ومن العلماء من يجعل مثل هذا علة في الحديث ، وليس كذلك ; لأنه يمكن أن يكون عند عطاء عن هؤلاء جميعهم ، بل هو الواقع كما يأتي ، والواجب أن لا يدفع خبر نقله العدول إلا بحجة . وقال البزار : وهذا الحديث روي عن عطاء واختلف عليه فيه ، ولا نعلم أحدا قال : إنه يزيد عليه بمائة ، إلا ابن الزبير . وقد تابع حبيبا المعلم الربيع بن صبيح ، فرواه عن عطاء بن الزبير ، ورواه عبد الملك بن أبي سليمان عنه عن ابن عمر ، وابن جريج عنه عن أبي سلمة عن أبي هريرة اهـ . كلام ابن عبد البر ولا مزيد على حسنه .

ومن ثم قال الذهبي : إسناده صالح ، وفي ابن ماجه بسند في بعض رجاله لين : ( صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه ) . وخبر ابن عبد البر وقال : رجال إسناده علماء أجلاء ، ولفظه كالذي قبله . ورواه ابن زنجويه بلفظ : ( إلا المسجد الحرام فإنها تعدل مائة ألف صلاة في مسجد المدينة ) . وفي حديث البزار : ( فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره مائة ألف صلاة ، وفي مسجدي ألف صلاة ، وفي مسجد بيت المقدس خمسمائة صلاة ) . وخبر ابن ماجه ( صلاة الرجل في بيته بصلاة ، وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة ، وصلاته في المسجد الأقصى ومسجد المدينة بخمسين ألف صلاة ، وصلاته في مسجد الحرام بمائة ألف صلاة ) . وخبر الطبراني : ( صلاة في مسجدي هذا بعشرة آلاف صلاة ، وصلاة في المسجد الحرام بعشرة أمثالها بمائة ألف صلاة ، وصلاة الرجل في بيت المقدس بألف صلاة ، وصلاة الرجل في بيته حيث لا يراه أحد أفضل من ذلك كله ) .

قلت : يحمل صلاة الرجل في بيته أولا على الفرض ، وثانيا على النفل ; لئلا يتعارضا أو على العذر ، وصح عن عمر . - قال ابن حزم بسند كالشمس في الصحة - أنه قال : صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، وصح عن عبد الله بن الزبير قال : الصلاة في المسجد الحرام تفضل على مسجد النبي بمائة ضعف .

[ ص: 587 ] قال ابن عبد البر وابن حزم : فهذان صحابيان جليلان يقولان بفضل المسجد الحرام على مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا مخالف لهما من الصحابة ، فصار كالإجماع منهم في ذلك . وفي رسالة الحسن البصري إلى الرجل الزاهد الذي أراد الخروج من مكة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من صلى في المسجد الحرام ركعتين فكأنما صلى في مسجدي ألف صلاة ، والصلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه من البلدان ) إذا تأملت ذلك علمت ضعف ما قيل على رواية صلاة بالمسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة ، تبلغ صلاة واحدة فيه عمر خمس وخمسين سنة وستة أشهر وعشرين ليلة ، وصلاة خمس صلوات فيه تبلغ مائتي سنة ، وسبعا وسبعين سنة ، وسبعة أشهر ، وعشر ليال اهـ .

وضعف ما قيل أيضا : صلاة بالمسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة . كما ورد : كل صلاة فيه جماعة بألفي ألف صلاة وسبعمائة ألف صلاة ، والصلوات الخمس فيه بثلاثة عشر ألف ألف صلاة وخمسمائة ألف صلاة ، وصلاة الرجل بغير المساجد الثلاثة كل مائة سنة شمسية بمائة ألف وثمانين ألف صلاة ، وكل ألف سنة بألف ألف صلاة وثمانمائة ألف صلاة . فتلخص من هذا أن صلاة واحدة في المسجد الحرام جماعة ، يفضل ثوابها على ثواب من صلى في بلده فرادى ، حتى بلغ عمر نوح بنحو الضعف ، وهذه فائدة تساوي رحلة اهـ .

وهذا كله كالذي قبله غفلة عن الرواية الصحيحة السابقة أن : صلاة واحدة بمكة أفضل من مائة ألف صلاة بمسجده عليه السلام ، وإلا فالحسنات تزيد على ذلك بما لا نهاية له ، ثم لا تنافي في الروايات المختلفة في التضعيف ; لاحتمال أن حديث الأقل قبل حديث الأكثر ، ثم تفضل الله بالأكثر شيئا بعد شيء ، ويحتمل أن يكون تفاوت الأعداد لتفاوت الأحوال ; لما جاء أن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعين إلى سبعمائة إلى غير نهاية . وورد : تفكر ساعة خير من عبادة سنة كذا ذكره ابن حجر . وقال الخطابي : ذكر الفاكهاني بلفظه : فكرة ساعة خير من عبادة سنة ، من كلام السري السقطي .

قلت : ذكر السيوطي في الجامع الصغير : فكرة ساعة خير من عبادة ستين سنة ، رواه أبو الشيخ في العظمة عن أبي هريرة . واختلفوا في محل هذه المضاعفة على أربعة أقوال ، الأول : أنه الحرم ، والثاني : أنه مسجد الجماعة وهو ظاهر من كلام أصحابنا ، واختاره بعض الشافعية ; لأن أصحابنا قالوا : التفضيل مختص بالفرائض دون النوافل فإنها في البيوت أفضل ، فجعلوا حكم البيت غير حكم المسجد . قال العسقلاني : ويمكن إبقاء حديث : أفضل صلاة المرء ، على عمومه ، فتكون النافلة في بيت مكة أو المدينة ، تضاعف على الصلاة في البيت بغيرهما ، وإن كانت في البيوت أفضل مطلقا . والثالث : أنه مكة ، واختاره بعضهم لخبر ابن ماجه : صلاة بمكة بمائة ألف . والرابع : أنه الكعبة وهو أبعدها . قيل : ورد عن ابن عباس أن حسنات الحرم كلها الحسنة بمائة ألف . وأجيب : بأن حسنة الحرم مطلقا بمائة ألف ، لكن الصلاة في مسجد الجماعة تزيد على ذلك ، ولذا قيل : بمائة ألف صلاة في مسجدي ، ولم يقل حسنة . وصلاة في مسجده عليه السلام بألف صلاة ، كل صلاة بعشر حسنات ، فتكون الصلاة في مسجده عليه السلام بعشرة آلاف حسنة ، ويحتمل أن يلحق بعض الحسنات ببعض ، أو يختص ذلك بالصلاة لمعنى فيها الكعبة وحدها . الرواية إلا الكعبة . وفي رواية للنسائي : إلا المسجد والكعبة ، وفي أخرى لمسلم إلا مسجد الكعبة .

قال ابن حجر : ثم المضاعفة لا تختص بالفرض ، بل تعم النفل أي تعم النفل أيضا خلافا لبعض الحنفية والمالكية وغيرهم ، وإن كان دون الفرض لزيادته عليه بسبعين درجة ، ولا ينافي عموم التضعيف للنفل كونه في البيت أفضل حتى في الكعبة للخبر الصحيح : ( أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ) ، وذلك لأن في فضيلة الاتباع ما يربو على المضاعفة ، ومن ثم قال السبكي : صلاة الظهر بمنى يوم النحر أفضل منها بمكة بالمسجد الحرام ، وإن جعلنا المضاعفة مختصة به لما تقرر أن في فضيلة الاتباع ما يربو على فضيلة العمل . والمضاعفة غير مختصة بزمنه عليه السلام على المختار ، ثم المراد بالتضعيف السابق إنما هو في الأجر دون الإجزاء باتفاق العلماء ، فالصلاة في أحد المساجد

[ ص: 588 ] الثلاثة لا تجزئ عن أكثر من واحدة إجماعا ، وما اشتهر على ألسنة العوام أن من صلى داخل الكعبة أربع ركعات تكون قضاء الدهر ، باطل لا أصل له . ثم المضاعفة لا تختص بالصلاة بل تعم سائر الطاعات ، وبه صرح الحسن البصري فقال : صوم يوم بمكة بمائة ألف ، وصدقة درهم بمائة ألف ، وكل حسنة بمائة ألف . وورد فيه حديث بسند حسن خلافا لمن ضعف : إن حسنات الحرم كل حسنة بمائة ألف حسنة . وروى ابن ماجه خبر : من أدرك شهر رمضان بمكة فصامه وقام فيه ما تيسر كتب له مائة ألف شهر رمضان فيما سواه ، وكتب له بكل يوم وليلة عتق رقبة ، وفي كل يوم حمل فرسين في سبيل الله . وروى البزار خبر : رمضان بمكة أفضل من ألف رمضان بغير مكة ، وذهب جماعة من العلماء إلى أن السيئات تضاعف بمكة كالحسنات منهم : ابن عباس ، وابن مسعود ، ومجاهد ، وأحمد بن حنبل وغيرهم لتعظيم البلد ، ثم قيل : تضعيفها كمضاعفة الحسنات بالحرم ، وقيل : بل كخارجه ، وأخذ الجمهور بالعمومات كقوله تعالى : ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون وحمل بعض المتأخرين القول بالمضاعفة على أن المراد بها مضاعفة الكيفية لا الكمية ، فإن السيئة جزاؤها سيئة ، لكن السيئات متفاوتة إذ ليس من عصى الملك على بساط ملكه كمن عصاه في طرف من أطراف بلده ، قيل : يرجع النزاع في ذلك الحمل أيضا إذ أي فرق بين سيئة معظمة تقدر بمائة ألف سيئة وهي واحدة ، وبين سيئة بمائة ألف سيئة عددا ; وأجيب بأنه ورد : من زادت حسناته على سيئاته دخل الجنة ، ومن زادت سيئاته على حسناته دخل النار ، ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أهل الأعراف . ومما يدل على تعظيم الحرم المقتضي لتعظيم السيئة قوله تعالى : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم فقد أخذ منه جماعة كابن مسعود أن من خصوصياته أنه يعاقب على الهم فيه بالسيئة وإن لم يفعلها ، واحتج المالكية لأفضلية المدينة بخبر : المدينة خير من مكة ولا حجة فيه ، لأنه حديث ضعيف ، وقيل : موضوع ، ذكره ابن عبد البر وغيره ، وخبر : ( اللهم إنك أخرجتني من أحب البقاع إلي فأسكني أحب البقاع إليك ) وهو مرسل ضعيف . وقيل : بل موضوع ، وخبر : ( اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما بمكة من البركة ) يدل على الفضيلة لا الأفضلية ، وقد صح في فضيلة مكة أحاديث أيضا منها خبر : ( والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ) ، وخبر : ( ما أطيبك وأحبك إلي ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك ) . ومنها خبر أنه عليه السلام قال لهم في حجة الوداع : ( أي بلد تعلمونه أعظم حرمة ؟ ) قالوا : لا إلا بلدنا الحديث ، وفي رواية : أن ابن عمر وجابرا يشهدان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل الناس : ( أي بلد أعظم حرمة ؟ ) فأجابوا بأنه مكة . وهذا إجماع من الصحابة أنها أفضل البلاد ، وأقرهم عليه السلام ، هذا ونقل القاضي عياض وغيره الإجماع على تفضيل ما ضم الأعضاء الشريفة حتى على الكعبة المنيفة ، وأن الخلاف فيما عداه . ونقل عن أبي عقيل الحنبلي أن تلك البقعة أفضل من العرش ، وصرح الفاكهاني بتفضيلها على السماوات قال : بل الظاهر المتعين تفضيل جميع الأرض على السماء لحلوله عليه الصلاة السلام بها ، وحكاه بعضهم عن الأكثرين لخلق الأنبياء منها ودفنهم فيها . وقال النووي : والجمهور على تفضيل السماء على الأرض أي : ما عدا ما ضم الأعضاء الشريفة ، ومحل الخلاف فيما عدا الكعبة ، فهي أفضل من بقية المدينة اتفاقا ، ما عدا موضع قبره المقدس ومحل نفسه الأنفس صلوات الله وسلامه عليه ما دام الصبح تنفس والليل إذا عسعس .

[ ص: 589 ]



الخدمات العلمية