الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
69 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد ، فيستهل صارخا من مس الشيطان ، غير مريم ، وابنها " . متفق عليه .

التالي السابق


69 - ( وعن أبي هريرة ) : رضي الله عنه ( قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما من بني آدم ) أي : ما من أولاده ، والمراد هذا الجني ( مولود إلا يمسه الشيطان ) : رفع مولود على أنه فاعل الظرف لاعتماده على حرف النفي ، والمستثنى منه أعم عام الوصف فالاستثناء مفرغ يعني ما وجد من بني آدم مولود متصف بشيء من الأوصاف حال ولادته إلا بهذا الوصف أي : مس الشيطان له كأنه - عليه الصلاة والسلام - يرد على من زعم أن الأنبياء ، والأولياء لا يمسهم الشيطان ، فهو من قصر القلب الذي يلقى لمعتقد العكس ، وقيل : ما : هي غير عاملة هنا حتى عند الحجازية لتقدم الخبر ، وهو من بني آدم على مبتدئه ، وهو مولود ( حين يولد ) : قالوا : المراد بالمس الحسي لقوله - عليه الصلاة والسلام - : ( كل ابن آدم يطعن الشيطان في جنبه حين يولد ) . وقال ابن الملك : الوجه أن يراد من المس الطمع في الإغواء فيرده ظاهر قوله ( فيستهل ) أي : يصيح ( صارخا ) : رافعا صوته بالبكاء ، وهو حال مؤكدة ، أو مؤسسة أي : مبالغة في رفعه ، أو المراد بالاستهلال مجرد رفع الصوت ، وبالصراخ البكاء ( من مس الشيطان ) أي : لأجله . قال الطيبي : وفي التصريح بالصراخ إشارة إلى أن المس عبارة عن الإصابة بما يؤذيه لا كما قالت المعتزلة : من أن مس الشيطان تخييل ، واستهلاله صارخا من مسه تصوير لطمعه فيه كأنه يمسه ، ويضرب بيده عليه ، ويقول : هذا ممن أغويه ، وأما قول ابن الرومي :


لما تؤذن به الدنيا من صروفها يكون بكاء الطفل ساعة يولد

إذا أبصر الدنيا استهل كأنه
بما هو لاق من أذاها يهدد

وإلا فما يبكيه منها ، وإنها
لأوسع مما كان فيه ، وأرغد



فمن باب حسن التعليل فلا يستقيم تنزيل الحديث عليه مع أنه لا ينافيه ( غير مريم ، وابنها ) : حال من مفعول يمس ؛ قاله ابن حجر ، واستثناؤهما لاستعاذة أمها حيث قالت : ( وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ) وتفرد عيسى ، وأمه بالعصمة عن المس لا يدل على فضلهما على نبينا - صلى الله عليه وسلم - إذ له فضائل ، ومعجزات لم تكن لأحد ، ولا يلزم أن يكون في الفاضل جميع صفات المفضول كذا قاله الطيبي ، ونظيره خبر الطبراني : ما أحد من بني آدم إلا وقد أخطأ ، أو هم بخطيئة إلا يحيى بن زكريا . قلت : وأبلغ من هذا أن شيطانه أسلم ( متفق عليه ) : [ ص: 141 ] قال ابن حجر : وفي رواية للبخاري : كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعيه حين يولد غير عيسى بن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب ، وفي أخرى للحاكم ، وغيره : ( كل وليد الشيطان نائل منه تلك الطعنة ، ولها يستهل المولود صارخا إلا ما كان من مريم وابنها فإن أمها حين وضعتها قالت : ( وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ) فضرب دونها حجاب فطعن ) اهـ .

ولعل الله تعالى ألهمها بأن دعت هذا الدعاء حال الوضع لا بعده فقوله : حين وضعتها أي : أرادت وضعها ، فلا يشكل أن المس يكون حال الوضع فكيف امتنع لأجل ذلك الدعاء ؟ وقولها في الآية : ( وإني أعيذها ) بمعنى أعذتها وعدل إلى المضارع لإرادة الاستمرار ، أو لحكاية الحال الماضية ، والله أعلم . والمفهوم من الجامع الصغير أن الحديث باللفظ المذكور سابقا هو من أفراد البخاري فقوله : متفق عليه محل نظر إلا أن يقال مراده أنه متفق عليه معنى ، واللفظ للبخاري لكن ذكر لفظ كل بني آدم إلخ . أيضا من أفراد البخاري فتأمل .




الخدمات العلمية