الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
7 - وعن أنس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده ، وولده ، والناس أجمعين " . متفق عليه .

التالي السابق


7 - ( وعن أنس - رضي الله عنه - ) أي ابن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي النجاري - بنون مفتوحة قبل جيم مشددة - خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين بعدما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهو ابن عشر سنين ، وقالت أمه : يا رسول الله ، خويدمك ادع الله له ، فقال : ( اللهم بارك له في ماله وولده ، وأطل عمره ، واغفر ذنبه ) ، فقال : لقد [ ص: 73 ] دفنت من صلبي مائة إلا اثنين ، وإن ثمرتي لتحمل في السنة مرتين ، ولقد بقيت حتى سئمت الحياة ، وأنا أرجو الرابعة ، أي المغفرة . قيل : عمر مائة سنة وزيادة ، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة سنة ثلاث وتسعين ، انتقل إلى البصرة في خلافة عمر ليفقه الناس . روى عنه خلق كثير ، وكنيته أبو حمزة ، وهي اسم بقلة حريفية ، ومنه حديث أنس : كناني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببقلة كنت أجتنيها . [ قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ولا يؤمن أحدكم ) ] : وفي رواية : الرجل ، وفي أخرى : أحد ، وهي أشمل منهما ، والأولى أخص أي : إيمانا كاملا [ ( حتى أكون ) ] بالنصب بأن مضمرة ، وحتى جارة [ ( أحب إليه ) ] : أفعل التفضيل بمعنى المفعول ، وللتوسع في الظرف قدم الجار على معمول أفعل وهو قوله : [ ( من والده ) ] أي : أبيه ، وخص عن الأم لأنه أشرف ، فمحبته أعظم ، أو المراد به ما يشملهما ، وهو ووالده [ ( وولده ) ] أي الذكر والأنثى ، وقدم الوالد لأنه أشرف ، وأسبق في الوجود ، وتقدم الولد في رواية النسائي ؛ لأن محبته أكثر ، وخصا لأنهما أعز من غيرهما غالبا ، وأبدلا في رواية بالمال والأهل تعميما لكل ما تحبه النفس ، فذكرهما إنما هو على سبيل التمثيل ، وكأنه قال : حتى أكون أحب إليه من جميع أعزته ، ومن ثم أكد ذلك تأكيدا واستغراقا بقوله : [ ( والناس أجمعين ) ] عطفا للعام على الخاص ، ثم النفس داخلة في هذا العموم لغة ، وإن كانت خارجة عرفا لما سيأتي في الحديث الآتي الموافق لقوله تعالى : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) وقوله تعالى : ( قل إن كان آباؤكم ) الآية . وليس المراد الحب الطبيعي ; لأنه لا يدخل تحت الاختيار ، و ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) بل المراد الحب العقلي الذي يوجب إيثار ما يقتضي العقل رجحانه ، ويستدعي اختياره ، وإن كان على خلاف الهوى كحب المريض الدواء ، فإنه يميل إليه باختياره ، ويتناول بمقتضى عقله ؛ لما علم وظن أن صلاحه فيه ، وإن نفر عنه طبعه مثلا لو أمره - صلى الله عليه وسلم - بقتل أبويه وأولاده الكافرين ، أو بأن يقاتل الكفار حتى يكون شهيدا لأحب أن يختار ذلك ؛ لعلمه أن السلامة في امتثال أمره ، أو المراد الحب الإيماني الناشئ عن الإجلال والتوقير والإحسان والرحمة ، وهو إيثار جميع أغراض المحبوب على جميع أغراض غيره حتى القريب والنفس ، ولما كان جامعا لموجبات المحبة من حسن الصورة والسيرة وكمال الفضل والإحسان ما لم يبلغه غيره استحق أن يكون أحب إلى المؤمن من نفسه فضلا عن غيره ، سيما وهو الرسول من عند المحبوب الحقيقي الهادي إليه ، والدال عليه ، والمكرم لديه .

قال القاضي : ومن محبته نصر سنته ، والذب عن شريعته ، وتمني إدراكه في حياته ليبذل نفسه وماله دونه اهـ .

وممن ارتقى إلى غاية هذه المرتبة ونهاية هذه المزية سيدنا عمر - رضي الله عنه - فإنه لما سمع هذا الحديث أخبر بالصدق حتى وصل ببركة صدقه إلى كمال ذلك ، فقال بمقتضى الأمر الطبيعي : لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي ، فقال : ( لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك ) . فقال عمر : فإنك الآن والله أحب إلي من نفسي ، فقال : ( الآن يا عمر تم إيمانك ) . رواه البخاري ، وهو يحتمل احتمالين ؛ أحدهما : أنه فهم أولا أن المراد به الحب الطبيعي ، ثم علم أن المراد الحب الإيماني والعقلي ، فأظهر بما أضمر . وثانيهما : أنه أوصله الله تعالى إلى مقام الأتم ببركة توجيهه - عليه الصلاة والسلام - فطبع في قلبه حبه حتى صار كأنه حياته ولبه ؛ ولهذا قيل : فهذه المحبة منه - رضي الله عنه - ليست اعتقاد الأعظمية فحسب ; لأنها كانت حاصلة لعمر قبل ذلك قطعا ، بل أمر يترتب على ذلك به يفنى المتحلي به عن حظ نفسه ، وتصير خالية عن غير محبوبه ، قال القرطبي : وكل من صح إيمانه به - عليه [ ص: 74 ] - الصلاة والسلام - لا يخلو عن وجدان شيء من تلك المحبة الراجحة ، وإن استغرق بالشهوات وحجب بالغفلات في أكثر الأوقات ؛ بدليل أنا نرى أكثرهم إذا ذكر - صلى الله عليه وسلم - اشتاق إلى رؤيته ، وآثرها على أهله وماله وولده ووالده ، وأوقع نفسه في المهالك أو المخاوف مع وجدانه من نفسه الطمأنينة بذلك وجدانا لا تردد فيه ، وشاهد ذلك في الخارج إيثار كثيرين لزيارة قبره الشريف ، ورؤية مواضع آثاره على جميع ما ذكر ؛ لما وقر في قلوبهم من محبته غير أن قلوبهم لما توالت غفلاتها وكثرت شهواتها كانت في أكثر أوقاتها مشتغلة بلهوها ذاهلة عما ينفعها ، ومع ذلك هم في بركة ذلك النوع من المحبة ، فيرجى لهم كل خير إن شاء الله تعالى . ولا شك أن حظ الصحابة - رضي الله عنهم - من هذا المعنى أتم ؛ لأنه ثمرة المعرفة ، وهم بقدره ومنزلته أعلم .

وقال النووي : في الحديث تلميح إلى صفة النفس المطمئنة والأمارة ، فمن رجح جانب نفسه المطمئنة كان حبه - عليه الصلاة والسلام - راجحا ، ومن رجح جانب نفسه الأمارة كان بالعكس اهـ . واللوامة حالة بينهما مترتبة عليهما ، ولذا لم يذكرها معهما . ( متفق عليه ) ورواه أحمد ، والنسائي ، وابن ماجه ، قال النووي : مذهب أهل الحق من السلف والخلف أن من مات موحدا دخل الجنة قطعا على كل حال ، فإن كان سالما عن المعاصي كالصغير ، والمجنون الذي اتصل جنونه بالبلوغ ، والتائب توبة صحيحة من الشرك أو غيره من المعاصي إذا لم يحدث بعد توبته ، والموفق الذي ما لم بمعصية قط - فكل هذا الصنف يدخلون الجنة ، ولا يدخلون النار أصلا ، لكنهم يردونها على الخلاف الوارد ، والصحيح أن المراد به المرور على الصراط ، وهو جسر منصوب على ظهر جهنم ، نعوذ بالله منها ، وأما من كانت له معصية كبيرة ومات من غير توبة فهو في مشيئة الله تعالى ؛ إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة ، وإن شاء عذبه بالقدر الذي يريده سبحانه ثم يدخل الجنة ، فلا يخلد في النار أحد مات على التوحيد ولو عمل من المعاصي ما عمل ، كما لا يدخل الجنة من مات على كفر ولو عمل ما عمل من أعمال البر ، وهذا هو المذهب الذي تظاهرت عليه أدلة الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به بحيث حصل العلم القطعي ، فإن خالفه ظاهر حديث وجب تأويله جمعا بين الأدلة .




الخدمات العلمية